ترجمة
د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 29 .. ص 57
رابط العدد 29 : اضغط هنا
الفصل العاشر
في أوساط البدو النهَّابة
قبل مغادرتنا لبلدة عورة انتابنا شكٌّ في أنَّ أُمُورَ ترتيب رحلة عودتنا لا تسير على ما يرام، فالسلطان عمر بن عوض باصُرَّة رجل ضعيفٌ، وكبيرٌ في السنِّ، عمره حوالي تسعين سنة، وشبه أعمى. وعلى كل حال فقد أهدانا ذلك السلطان خروفًا حيًّا أحضروه إلى الشَّقَّةِ التي نزلْنا بها في الطابق الرابع، معتقدًا أن الخروف الحيَّ سيعجبنا أكثر من الخروف المذبوح، ولقد كان مُـحِـقًّا؛ فعادةً ما نرى من الخروف إلا الشيءَ القليل بعد ذبحه، وبهذا الخروف تم إقامة وليمة وداعٍ لجنودنا وخدمنا الذين سيتركوننا.
كان هذا السلطان، الذي يحكم دوعن بشكل مستقل عن المكلا، واقعًا تحت تأثير وزيره، وهو رجلٌ بخيل مخادع، يكره ويحتقر الأوربيين رغم أنه لم يقابل منهم إلَّا اثنين في حياته كلها. تمَّ الترتيب مع السلطان بإعطائنا جنديين لمرافقتنا في رحلة العودة إلى المكلا التي ستستغرق عشرة أيام، ولكنَّ الوزير الذي تولَّىأامر ترتيبات سفرنا لم يوافق مبرِّرًا قرارَهُ هذا بأنَّ البدو الخمسة الذين استأجرناهم مع خمسة حمير هم رجالٌ شجعانٌ أذكياء، وليستْ هناك حاجة لإرسال جنودٍ معنا. بدأتْ في غرفتنا المشاورات عن الأجور التي ينبغي علينا دفعها، فنشب خلاف بين اثنين من الرجال، ونهضا رافعين خنجريهما في وجهَيْ بعضهما، وكان حينها في الغرفة عشرون رجلًا، فتدخَّل بقية الرجال وأبعدوا أحدَهما عن الآخر بالقُوَّة. وأخيرًا اتفقوا بعد جدالٍ وتفاوُضٍ صاخبٍ على أن تكون أجرة الرحلة خمسين دولارًا (دولار ماريا تريزا)، وأنْ يتمَّ دفعُها مُقدَّمًا، ووقَّع الرجال الخمسة العَقْدَ، الذي بموجبه سيكون لي ولصديقي حماران لنركبهما.
إلى الآن كل شيء على ما يرام، فالعقود شيء جيد في حد ذاتها، لكن هناك ثغرات وفرصًا للتهرُّب مما فيها، وخاصة هنا في الجنوب العربي، حيث بدأت المتاعب عندما قام البدو الخمسة، وهم بدائيون أشباه عراة، سُود البشرة، طوال الشعر، متوحِّشون، بتحميل الأمتعة وأكياس علف الحيوانات على الحمير الخمسة كلها دون أن يتركوا لي ولصديقي أي مكان للركوب لنمضي أربع ساعات مشيًا حتى صعدنا أُولى الجبال الوعرة، ثم وصلنا إلى الهضبة، وكان يتحتَّمُ علينا مواصلة السير على الأقدام حتى تأكل الحمير طعامَها المحمول على ظهورها، ويكون هناك مكان للركوب، ويُتوقَّع ألَّا يتَّم هذا إلَّا في وقت متأخر من تلك الليلة. تحَّسنت الظروف في اليوم الثاني من الرحلة لسببين، السبب الأوَّل أنَّنا استطعنا ركوب الحمير، وهذا جعلنا نقطع مسافة أطول بيُسرٍ وبغير تعب، والسبب الثاني أنَّنا قمنا بشراء خروف من بدويَّـةٍ، فللَّحم تأثيرٌ في تحسُّنِ مِـزَاجِ بَدْوِنَا الخمسة.
وصلْنا إلى جبل آخر فكان لزامًا علينا أن نترجَّل من ظهور الحمير، وسلك بنا أحد البدو الخمسة طريقًا مستقيمًا يقودُ مباشرةً إلى المنحدر، في حين سلكت الحمير وبقية البدو طريقًا آخر متعرِّجًا، فلم نَعُدْ نَراهُم، وقد وصلنا إلى قمَّة الجبل ولمْ نلقَهُم هناك. لم نعدْ نستطيعُ التحمُّلَ أكثر من هذا فقد بلغ السيل الزُّبَـى، ولم نستطعْ تسلُّق الجبال لعدَّة ساعات تحت وطأة حرارة الشمس الاستوائية الحارقة، فذلك ليس بالأمر السهل، لذا أَعْلَنَّا الامتناع عن المشي وصرخْتُ في وجه البدوي قائلًا: “هات حمار”، أي: احضر الحمار، ولم أترك له مجالًا للجواب، ثم جلسْتُ على صخرة لأرى ما سيحصل. شجاعتنا وعدم خوفنا من قبيلي سيباني أدهشت البدويَّ، فهذا الشيءُ لم يكن في حسبانهم أثناء التفاوُض على الأجور. لينظر بقلق نحو الأفق باحثًا عن أصدقائه، ولكنهم لا زالوا بعيدين جدًا عنه.
مرَّتْ رُبعُ ساعة ثم نصف ساعة ولم يظهر أحد من أصدقائه، ثمَّ أخيرًا لمحْنا شخصين من بعيد ينادون ويطلقون النار في الجو كشارة لنا. تظاهرْنا بعدم رؤيتنا لهم وواصلنا الجلوس والانتظار. وحين اقتربوا مِنَّا أبدينا دهشة واستغرابًا وقلنا معًا “هات حمار” “هات حمار”، وكان لهذا التصرف التأثير المطلوب؛ لأن هذَيْنِ الرجلَيْن اللَّذَيْنِ اختفيا ثم عادا الآن واتجها بالحمارين في اتجاهنا، وما إن اقتربا منَّا حتى بدأَا يكيلان اللعنات والسباب علينا، مُحدِثَيْنِ صخبًا وضجيجًا لا يوصف. بدأا بالصراخ “هات فلوس، وإلا سنجعلكم تمشون على أقدامكم الى المكلا”. أرادا عشرين دولارًا أخرى ليسمحوا لنا بركوب الحمير. ندمْتُ كثيرًا في هذا اليوم على دفعنا أُجْرَتَهم ُمقدَّمًا. مباشرة حلَّ المساء، وأتَوا بنا إلى بيتٍ للراحة، في الواقع لم يكن بيتًا وإنما جحرٌ تعيسٌ، لا نوافذَ فيه، ويعجُّ بالفئران والجرذان، التي كانت تمرُّ فوق أجسادنا كُلَّما حاولْنا أنْ ننام، والأكثر إزعاجًا من هذا الأمر هي النار، التي يتركها البدو مشتعلة طوال الليل. كاد الدُّخَانُ الناتج من تلك التيران يخنقنا في هذه الغرفة الصغيرة، أمَّا البدو فقد كانوا مستمتعين به.
في الصباح أيقظونا رفسًا بأرجلهم، ولكن هذا الرفس ليس مقصودًا به العراك أو لحاق الأذى بنا، وإنما هي عادتهم لإيقاظ الآخرين، إنَّها طريقة بها من الجلافة أكثر مما في الطريقة المألوفة لدينا. عندما كُنَّا على وشك ركوب الحمير سمعنا عبارة “امشِ قليل قليل”. وأصبحت هذه العبارة تتكرَّر يوميًا فكُلَّما اقتربنا من أرض مرتفعة قليلًا قيل لنا “امشِ قليل قليل”، إلى أن نفدَ صبرنا وتذكَّرنا كلامهم السابق بأنهم سيجعلوننا نركب الحمير طوال الطريق إذا دفعنا لهم نقودًا.
اقترب الليل، وامتلأت السماء، بألوان عجيبة، لا تُرى إلا في الأراضي الجبلية من المناطق الاستوائية. فما إن كادت الشمس تغوص خلف الأُفق، حتى ظهر شعاع ضوء صغير في المشرق، وبدأ يتحول تدريجيًّا من اللون الأصفر الفاتح إلى اللون البنفسجي الغامق، وبعد فترة وجيزة جدًا اختفى فجأة هذا المشهد الجميل الرائع الذي يصعبُ وصفُه.
لقد نال مِنَّا التَّعبُ والإنهاك مبلغًا؛ فقد كنا نمشي على الأقدام معظم اليوم، ولا يُسمح لنا بالركوب على الحمير إلا لفترات قصيرة جدًا. دخلنا شِعْبًا عميقًا يسمى (مولى مطر)، هناك تنحدر الطريق، وطُلِب مِنَّا الترجُّل من ظهور الحمير. في هذا الوقت شعرْنا بأنَّنا لا نستطيع الاستمرار في الخضوع للبدو، وبقينا على ظهور الحمير ولم نترجَّل منها. ليندلع مباشرة بيننا شجار مخيف. حاول اثنان من البدو أنْ ينُزلونا عُنوَةً، ولكنْ قاومناهم بعنف فتراجعا إلى الخلف. سبب هذا المشهد غضبًا عارمًا في أوساط البدو، فوثب أحدُهم، واستلَّ جنبيـَّـــتَـه، واندفع نحوي، وأمسك الآخر ببندقيته وفتح أمانها وصوَّبها نحو صدر مرافقي.
رغم تأكُّدِنا أنهم لا ينوون التخلُّصَ مِنَّا، فإنَّه كان شعورًا مزعجًا أن تكون جنبيَّةٌ ملطَّخةٌ بالدُّهون بالقرب من حلقك، وبندقـيَّـةٌ مُصَوَّبة نحو صدرك، خاصة ونحن ندرك تمامًا مدى استهتار البدو في التعامل مع سلاحهم، ففي ظروف كهذه من الممكن جدًا أنْ تنطلق طلقة من البندقية بسهولة، لكنْ لـحُسنِ الحظِّ أتتْ بعضُ النِّسوة البدويَّات وضحكْنَ كثيرًا من هذا المشهد الذي بدا لهنَّ كأنه مشهدٌ كوميديٌّ. في موقف كهذا لم يكن أمامنا سوى البقاء راكبين ومحافظين على هدوئنا، فلو لجأْنا لأسلحتنا وأطلقْنا طلقة واحدة فقط، كل المجموعة ستنقضُّ علينا، وستكون فرصُ نجاتنا قليلةً، خصوصًا وأنَّ هناك مخيَّمًا للبدو على مَقْـرُبـَـةٍ مِنَّا، ولم نكنْ نعلمُ به حينَها. بقيْنا راكبين على الحمير، منتظرين سماعَ صوتِ رصاصة، ولكنْ شيء كهذا لم يحدث. أتى بقية البدو يَجرُونَ ضاحكين، ووعدونا بألَّا يُؤذُونا طالما وإنْ بَقِينَا مترجِّلين، نصيحة لم نأخذْ بها. أخيرًا اعترف البدو بأننا كُنَّا شُجعَانًا لا تخاف، وقدَّمُوا لنا القهوة كعربون مصالحة، ومشت الحياة بسلاسة، وكأن شيئًا لم يحدث.
بعد أنْ واصلنا رحلتنا مشيًا لنصف ساعة، وتوغَّلْنا في شعب مولى مطر سمعْنا دمدمةً وصَوتَ طلقتين ناريتين. اعتقدنا أننا دخلْنا في منطقة اشتباك بين البدو كما سبق وحصل لنا مثلَه في مراتٍ عدَّة، ولكن هذه المرة وفي هذا الشعب الضيق ستكون فُرَصُ نجاتنا أصعب وأقلَّ. الآن بدأنا نسمع أصوات غناءٍ ومزمار، لقد غربت الشمس الآن وحل الظلام ونستطيع مشاهدة نيران مخيَّمات (صروم) البدو. رأيْنا اثنين أو ثلاثة ثم أربعة أو خمسة ثم ثمانية أو عشرة أو أكثر. هذه الأضواء تلقي بظلال جميل غريب على جوانب الوادي شديدة الانحدار. عدد أضواء مخيمات البدو الآن صار خمسة عشر أو ستة عشر كل الشعب مضاء.
لقد كان في هذا التجمُّع البدوي حوالي ثمانمائة من بدو قبيلة سيبان. حشود من القبائل البدوية تتوافد. يرقص الرجال والنساء، والخرفان تُذبَح الواحد تلو الآخر على حجرة خاصة مقدَّسة. لقد وجدْتُ نفسي محاطًا بأناس سُذَّج، قاتمي البشرة، ملطَّخةً أجسادُهم بالدُّهون، فهم كريهو الرائحة، وكان لزامًا عليَّ أن أصافح كل واحد منهم؛ فالبدو مثلهم مثل بقية العرب يُولُونَ المصافحة أهمية كبيرة، وأيُّ تهاون فيها يَعُدُّونه إهانة كبيرة، على الرغم من أنهم يفترقون بعضهم عن بعض دون قول أيِّ كلمة وداع. من دون شك في أنَّ البدو هم أكثر أجناس البشر فضولًا وثرثرة على وجه الأرض. عليك أن تخبرهم بقصَّتك مرَّاتٍ لا تعدُّ ولا تحصى حتى ترضيهم. لم يسبق لأحد من هؤلاء المحيطين بنا أن رأى رجلًا أبيض من قبل، أمَّا الأطفال فكانوا خائفين مِنَّا، وهربوا، والبعض الآخر منهم كانوا يتلمَّسون أجسادنا بحذر شديد.
بعد أن سألْنا ثلاثة أو أربعة رجالٍ السؤالَ نفسَه، انهال علينا الجميع يسألوننا السؤال عينَه. أفادنا الشجار الذي حصل بيننا في الجبل؛ فقد روى مرافقونا الخمسة لهؤلاء البدو مراتٍ عدَّةً كيف كُنَّا شجعانًا، وكيف أنَّنا لم نستسلم حتى بعد تهديدنا بالسلاح، ممَّا جعل البدو هنا يعجبون مِنَّا.
هناك أشياء معينة ينبغي التنبُّهُ لها عند التعامل مع البدو في الجنوب العربي، فهم يحترمون ويخضعون لقانون معيَّن يتوارثونه جيلًا بعد جيل، فمثلًا لو ضربت أحدهم على الأذن بدلًا من أن تنخسه في جنبه، فتلك إهانة لا يمحوها سوى الدم. لن يهدأ للقبيلة بأكملها بالٌ حتى ينجح أحدهم بقتلك، يقال إنَّ طفلًا يبلغ من العمر عشر سنوات قتل أباه؛ لأنه دكمة على أذنه؛ لعدم تنفيذ أوامره بالبحث عن جمل ضائع، فلم يَـلُمْ أحدٌ ذلك الطفل على فعلته.
على الرغم من أنَّ البدو كُلَّهم سرق، ولا يمنعهم أيُّ شيء من إشباع شهوتهم من النهب والقتل، فإنَّ أحدًا لا يستطيع إلحاق الأذى بنا، فنحن تحت حماية هؤلاء البدو الخمسة، وهم مسؤولون عن سلامتنا. فإن قام هؤلاء البدو الخمسة بسلبنا أو قتلنا، فسيتم طردُهم من القبيلة في أقلَّ تقدير، وهذا في حدِّ ذاته عقابٌ صارمٌ شبيهٌ بالـحِرمَان من حماية القانون، و(الحرم الكنسي) الذي كان سائدًا في العصور الوسطى. لن يكون بمقدور أي قبيلة عمل أي شيء للخارجين عن القانون، كما أنَّ ممتلكاتهم تصادر، يسمح له بثلاثة أيام يستطيع فيها النجاة بحياته بعدها، يُعلَن أنه خارج عن القانون، ويمكن أن يقتله أيُّ شخص بمجرَّد أنْ يراه. في معظم الحالات ينضمُّ هؤلاء المنبوذون إلى عصابات السلب، التي تعيث في الأرض فسادًا، في المناطق الممتدة من شبام إلى صنعاء، مشكِّلينَ تهديدًا حقيقيًّا للقوافل.
لم ينم البدو في تلك الليلة وكذلك نحن؛ فقد كانت مناسبة احتفالية للبدو. الغناء وطلقات الرصاص ظلَّتْ تُدَوِّي في كل أرجاء الوادي، وأحيانًا تكون فترات فيها شيء من الهدوء فنستطيع سماع المزمار.
على كل حال لم نجرُؤْ على النوم، فبين الحين والآخر يزحف نحوَنا شخصٌ يريد أنْ يعرف ماذا بداخل متاعنا من أشياء. كنتُ في حيرةٍ من أمري، أتساءل متى ينام هؤلاء البدو؟ مع بزوع الفجر انتهى الحفل، وارتحلنا سالكين طريقًا بذلك الشعب يرافقُنا مئات البدو ممَّن شاركوا في ذلك الحفل، عائدون إلى أماكن سكنهم. وأخذوا يضايقوننا بسؤالهم لنا أسئلة الليلة الماضية نفسها. بين الحين والآخر تطلق نيران البنادق ابتهاجًا وفرحًا، وتسمع أزيز رصاص الدمدم المشؤوم يمر من فوق رؤوسنا فهذه هي طريقتهم في المزاح.
ما إنْ غادرَنا آخرُ بدويٍّ من الذين رافقونا لتصادف طريقنا وطريقهم، حتى بدأت المشاكل؛ فقد طُلِب منا أن نمشي على الأقدام. ورغبة مِنَّا في عدم تكرار المشهد السابق فقد ترجَّلنا من ظهور الحمير ومشينا.
بعد مضي حوالي الساعة قرَّرْنا اللجوءَ إلى حِيلَةٍ. أخبرْناهم أنَّ سلطان المكلا أُخبِرَ من دوعن بقدومنا، وأنه في حال عدم وصولنا إلى المكلا في الوقت المحدَّد فإنه سيُرسِلُ إلينا جنودًا، وهم يدركون تمامًا ماذا سيحصل لهم في هذه الحالة، سوف يدخلون السجن “الحبس” كما يسمُّونه، لذا فإن عليهم الإسراع وإحضار الحمير لنا. البدويَّان اللذان معنا الآن غير البدويَيْنِ اللَّذَيْنِ تشاجرْنا معهما في المرَّة الأولى، وقد صُدِمَا لسماعهما هذا الخبر، وبعد تردُّدٍ استمرَّ لبعض الوقت توسَّلَا إلينا أنْ نبدي قليلًا من الصبر “امشِ قليل”، وبعد ذلك بإمكاننا امتطاء الحمير إذا دفعْنا لهما خمسة دولارات، ولكننا لم نُــبْدِ أي اهتمام بهذا العرض.
انتظرْنا نصف ساعة حتى أتت الحمير الأخرى (يقصد البدو الثلاثة الآخرين)، وبدأوا يتحدثون معنا. لاحظْنا أنَّ المبلغ الذي يطلبونه قد انخفض كثيرًا. رفضْنا أنْ نمشي ولو خطوة، معتقدين أنَّ ضياع الوقت سيجعلهم يستسلمون. نشأ خلاف بيننا مباشرة، وطلب قائدُهم عشرين دولارًا بدلًا من الخمسة، وأخذ يكيل لي اللعنات والسباب، ولكنَّ هذه المرة ليس لديه بُن القهوة ليهدينا إيَّاه. ظللْنا مُصِرِّين على موقفنا إلى أن بدأوا يهدِّدوننا بالضرب بأعقاب البنادق، حينها أُجبِرْنا على التراجع؛ لأنَّ فُرصَةَ تغلُّبنا على عصابة من خمسة أفراد ستكون ضعيفة جدًا.
واصلْنا الرحلة مشيًا على الأقدام إلى أن التقينا صُدفةً بسيدٍ من آل العطاس، وأحدُ القادة التابعين لسلطان المكلا، وكان في طريقه لزيارة مناطق الداخل بالوادي. لقد كان رجلًا كبيرَ السنِّ، له لحيةٌ طويلةٌ، لونُها أشيب. كان جالسًا على سجَّادٍ في أحد الكهوف، وأمامه المداعة (الرشبة). أتى إليه مجموعة من البدو واضعين في شعر رؤوسهم أعشابًا جبليَّةً ذاتَ رائحةٍ زكيَّةٍ، ثم غادروا. كان يكتب الرسائل، ويرسل الرسل، وبين اللحظة والأخرى تُطلَق نيران البنادق كتحيَّةٍ.
سُمِحَ لنا بمقابلته، وشرحْنا له ما فعله بنا رفقاؤنا من البدو الخمسة، لعلَّه يجدُ لنا حلًّا معهم. قام باستجواب قائد المجموعة، ولكن بالطبع أنكر كلَّ ما قُلْنَاهُ عنهم، مُدَّعِيًا أنَّه كان يمزحُ معنا لا أكثر. طلبْنا منه أنْ يُعطِيَنا عسكرًا لمرافقتنا ولكنه رفض، ونصحْنا بإعطاء البدو خمسة دولارات، مؤكِّدًا لنا أنَّ هذا الحلَّ سيضمن وُصُولَنا سالمين إلى المكلا. أخيرًا وافقْنا على إعطائهم خمسة دولارات بشرط أنْ تُسلَّم لهم بعد وصولنا إلى المكلا وكتب بيننا هذا الاتفاق. من ذلك الوقت لم نُواجِهْ أيَّ صعوبات أوْ مشاكل إضافية أبدًا، وركبْنا الحمير ليومَيْنِ كاملَيْنِ إلى أنْ وصلْنا بسلام إلى المكلا، وكان مَظْهَرُنا مُزْرِيًّا، ولا يختلف كثيرًا عن مظهر هؤلاء اللُّصُوصِ قُطَّاعِ الطُّـرُقِ الخمسة. كانت هناك تكملة لهذه القصة فلمْ يفلُتْ هؤلاء البدو من العقاب، لقد أمضى اثنان منهم سنةً كاملة في سجن المكلا على الرغم من أنه كان يُسمَحُ لهم في بعض الاوقات بالخروج للسوق لشراء سمك لأنفسهم والعودة إلى السجن مرة أخرى.