ملف العدد
د. زهير برك الهويمل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 48
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
يعاين هذا البحث الأنساق السياقية البارزة في لغة (الرؤية النقدية المفلحية) الداخلية، الموجهة لنقد كتاب (تاريخ شنبل)، فيكون بحثنا نقدًا على نقد؛ إذ تتوجه هذه المساءلات النقدية لمشروع الرؤية المُفلِحية على هذا الكتاب؛ بهدف الحصول على إجاباتٍ، من شأنها أن تكشف ما تضمره تلك الأنساق السياقية اللغوية البارزة؛ من أنساق خفية ـ أو مُضمَرة بتعبير غذاميٍّ ـ تتكشّف من خلال معاينة البارز منها، وهي تمارس نقدها في أسلوب لغته؛ بعيدًا عن إطلاق الأحكام بالصحة أو البطلان، على الخبر التاريخي المعروض، من حيث هو فكرة أو حدث، نقله المشروع النقدي المُفلِحي، من أي مصدر من المصادر, قديمة كانت أو حديثة؛ إلا ما استدعى فيه البناءُ السياقي ذاتُه ذلك.
فليست مهمة بحثِنا تفنيد صحة الوقائع والأخبار التاريخية، المسرودة في مشروع الرؤية المُفلحية، أو الحكم ببطلانها؛ لأنّ ذلك منحًى تاريخي، تنأى دراستنا النقدية عن الانسياق في أتونه.
وحتى ينأى البحث عن الشخصنة في الطرح النقدي؛ سيتجنب ما استطاع ذكر الأسماء؛ ليكون التحليل نقدًا لسياقات مطروحة, لا يتجاوزها إلى ذواتٍ كَتبت أو فكّرت أو حَلّلت؛ لذا يسمّي بحثنا سياقات كتابي سالم مُفلِح (السياق النقدي)، وإن كانت تلك السياقات سياقاتٍ فكريةً تاريخية، أو نقدية تاريخية، فإنّ منهج تحليل الأنساق فيها هو منهج نقدي ثقافي، لكنه هنا ليس موجهًا لنصوص إبداعية، أو أدبية عامة، بل إلى سياقات نقدية تاريخية، ينظر نقدنا إلى كلٍّ منها باعتباره نصًّا مستقلًّا، في خطوة يتجاوز فيها النقد الثقافي نقد النّص، إلى نقد نقد النّص؛ إذ ستقرأ دراستنا لغة السياقات النقدية المُفلِحيّة، الموجَّهة في كتاب (التزوير واستلاب الهوية) إلى كتاب (تاريخ شنبل).
وعلى الرغم من كون النقد الثقافي قد نادى بموت النقد الأدبي فإن المناهج النقدية الحديثة لم تغن عن إسهام اللغويات الحديثة، فمثلًا من المفهومات المركزية في فكر ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة أن المعنى غير ثابت، وفي ذلك لا يمكن تجاوز تنظير دي سوسير حول العلامة وعلاقة الدال والمدلول (1)؛ حتى إن النسق الجمالي عند الغذامي الذي أسماه (اختراع الفحل) في الشعر العربي، انطلق في تحليله من لفظة الفحل نفسها، أي من لغة النسق؛ لكنه في تحليله ونقده كانت دراسته من خارج النسق، وليس من تحت سقفه الثقافي؛ لذا سيُسائل بحثنا لغة السياق النقدي في أنساقه الظاهرة, في كتاب (التزوير واستلاب الهوية), معتبرًا سياق نقده لكتاب (تاريخ شنبل)، نصًّا نقديًّا تاريخيًّا للكتاب، يتوزّع على نصوصٍ داخلية لكل حالة يقف عليها بالتحليل والنقد؛ لذا فالسياق العام له إنما هو نسق بارز جماليٌّ، يُضمر نسقًا آخر قبيحًا، وكل نصٍّ داخليٍّ هو نسقٌ بارز كذلك يضمر آخر مضمرًا.
وإنّ سمتي الجمال والقبح في الأنساق، ليست من تسميات بحثنا، بل هي سمات للأنساق التي يقوم عليها المنهج الثقافي، عند الدكتور عبدالله الغذامي(2).
إن القارئ للنقد الثقافي الغذامي بعمق يعي ـ على الرغم من تصريح الغذاميِّ بكونه نصًّا إبداعيًّا ـ أنه لا ينحصر في ماهية النص المتعارف عليه من لدن المؤسسة النقدية الرسمية، بل ينفتح على كل ما يوصف بأنه لغة، فهو ينظر إلى النَّصِّ بوصفه حادثة ثقافية، وليس مجتلًى أدبيًّا حسب(3).
ولعلّ أهم ركيزة يقوم عليها النقد الثقافي، في وجود التعارض في الأنساق كما يرى الغذامي: «حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب، أحدهما ظاهر والآخر مُضمَر، ويكون المضمر ناقضًا وناسخًا للظاهر»(4).
ثم يلخص وظيفة مشروع النقد الثقافي في أنه يقوم بكشف حيل الثقافة ـ وأهمها الجمالية ـ في أنساقها البارزة، وهي تمرّر أنساقًا خفية قبيحة مضمرة(5).
ولو تأملنا بعمق نسق (الاستفحال)، وهل المتنبي مبدع عظيم أم شحاذ عظيم؟ ـ بتساؤل غذامي ـ أي نسق اختراع الفحل، الذي سوّقته المؤسسات النقدية الرسميّة، نجد أن هذا التوصيف (الفحولي) للشعراء، وجد قيمته الأدبية في حاضنة نقدية، كما هو حال كتاب (طبقات فحول الشعراء)، الذي يتميز فيه فحل على فحل، وهو ميدان نقدي كبير في وعي الثقافة النقدية العربية, بل هو من أهم مصادرها.
إذن قيام نقدنا هنا على أنساق نقدية – وإن كانت تاريخية – ليس بدعًا في النقد الثقافي، بل هو موجودٌ ـ بنمطٍ تطبيقيٍّ ـ كما رأينا لدى المشرعن للنقد الثقافي نفسه.
معلوم في النقد بشتّى أنواعه، أن طبيعة النَّص أو الخطاب المدروس هي ما يحدّد نوع المنهج المناسب لدراسته؛ لذا كان اختيار المنهج الثقافي ـ في بُعده الإجرائي ـ لدراستنا هذه؛ حتى تكون للمساءلة النقدية لـ (السياق النقدي) ـ الذي حينما يرد في بحثنا فإن المقصود به سياق كتاب (التزوير والهوية) ـ أرضيةٌ منهجية وأساس يقوم عليه، غير مسلِّمين بسمة الجمال في الجميل منها، إلا من وجهة نظر كاتبه حسب، ومن تقبلها قبولًا جماليًّا.
في البدء لا نُخفي إعجابنا بالمنهجية النقدية الحديثة، التي اتبعها الكاتب في كتابه (التزوير واستلاب الهوية)، في معاينة النصوص التاريخية ونقدها، فهي آلية تخرج النقدَ والكتاباتِ التاريخيةَ عن دوامة تدوير التاريخ والأدب، التي انتهجتها كثير من المؤلفات والأبحاث التاريخية المعاصرة في بلادنا ـ باستثناء القليل النادر ـ، فأضعف هذا التدوير استنطاق النّص التاريخي، وحجّمه في كثير من الكتب والأبحاث التي نتلقاها في المؤتمرات والندوات التاريخية، التي لا تتجاوز السرد للأحداث في غالبها، الأمر الذي سيحجّم على مدار التدوير، المنتوج الفكري والحضاري للأحداث التاريخية، التي لا يمكن أن نصفها في كثير من الوقفات بأكثر من (المسرودة) إنْ صحَّ التعبير.
لكن حينما يتقفّى كاتب مناهج حديثة في تحليل النصوص التاريخية والأدبية ومعاينتها على حدٍّ سواء، عليه أن يكون مخلصًا للمنهج المتبَع، حياديًّا في معالجة القضايا المترابطة، والأحداث المتسلسلة، إن على مسارات عمودية عميقة، وإن على مسارات أفقية واسعة، ممتدة مناكب دراستها وتحليلاتها.
إن الإخلاصَ للمنهج معناه أن يقف الكاتب عاريًا من النتائج التي يحاول بحثه الوصول إليها، قبل الخوض فيه، أن يكون مجرّدًا من رواسب ومعطيات مُسبقة، قد تقدح في حيادية نواياه في البحث، فيما لو بدت أو تفلتت في أسلوبه قبل الوصول علميًّا لتلك النتائج، فعليه أن يتقفَّى خطوات منطقية يفضي كلٌّ منها إلى الأخرى، عن طريق النّهج الأيبيستيمولوجي(6)؛ أو ما يسمّى بالنظام المعرفي المحايد؛ بغية الوصول إلى نتائج عقلانية منطقية، مجرّدة من الجهوية الأيديولوجية، أو السياسية أو سواهما.
إنَّ بحثنا كما أسلفنا سيُعاين نصوص النقد الداخلي لكتاب (تاريخ شنبل)، الصادرة في كتاب (التزوير واستلاب الهوية)، غير معنيٍّ بنفي أو إثبات المادة الخبرية المعروضة، المقتبسة في الكتاب؛ إذ التفتيش التاريخي عن صحة الأخبار والأحداث ـ المقتبسة من كتب أخرى ـ ليس من صميم بحثنا، إلا ما فرضت فيه لغة السياق المدروس على البحث التثبت منه.
التساؤل الأول: أليس في هذا السياق تقصّدٌ لخلق لبسٍ، وتضليل على القارئ؟!
يقول السياق النقدي: «إن القضية المركزية التي يعتني بها هذا الكتاب، هي نفسها قضية كتابي الأول، وهي ما تعرّض له تاريخ حضرموت الإسلامي كله، من تزوير وتحريف وتشويه لحقائقه على يد من أطلق عليهم المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد مصطلح (الأخلاف)»(7).
حينما نقرأ هذا السياق النَّصي بعمق, وبدقة نلحظ فيه تقصّدًا لخلق لَبسٍ يجعل القارئ العادي يظن أن المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد، لا يكتفي بنسبة مسمّى (الأخلاف) على الذين قاموا بتزوير وتحريف وتشويه تاريخ حضرموت الإسلامي ـ كما يدّعي السياق ـ حسب، بل ينسب إلى الحداد اتهامه إيّاهم بالتزوير والتحريف والتشويه.
وهو ما لا يقوله السياق صراحة هنا، ولكن أسلوب نظم السياق بهذه الصياغة يُلمح إليه، فينخدع القارئ العابر، بهذا الفخ السياقي، في فهم نسبة القول بالتزوير والتشويه والتحريف إلى الأخلاف، مع نسبة المسمّى إليهم. وهو ما لم يقله الحداد. وحين نتأمل بدقة أكثر خلو عبارة ـ (من تزوير وتحريف وتشويه…) ـ إلى آخر الفقرة من الفواصل، مع طولها مقارنةً بما قبلها، والتي حافظ السياق فيها على الفواصل، في جمل سابقة وأقصر سطرًا، يذهب لصالح قراءتنا من تقصّدٍ؛ لخلق لَبس لدى القارئ وفخ يجرّه لفهم ما تقدّم شرحه آنفًا. فلا شك في إن علامات الترقيم هي لغة أخرى مصاحبة للغة، وتقول أحيانًا ما لا تقوله حروف اللغة.
ثَمَّ تساؤل يحضر في تحليل هذه الفقرة، ما القيمة التي سيجنيها القارئ، من معرفته أن الذي أطلق تسمية (الأخلاف)، على الأخلاف هو المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد؟ (نسق بارز).
أليس المقصود الأكبر لسياق النقد، هو أن يفهم المتلقي أن من اتهم الأخلاف بتزوير تاريخ حضرموت الإسلامي كله وتحريفه وتشويهه، هو المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد؟! (نسق مضمَر).
ثم ألا يجزم السياق النقدي هنا بأنّ تاريخ حضرموت الإسلامي (كلَّه)، مزوَّرٌ ومحرَّف ومشوَّه؟! ألم يتعامل مع هذا الأمر كونه مسلَّمًا به ومن البديهيات؟!
لقد استطاع النظم السياقي في أسلوبه أن يبرز نسقًا جميلًا؛ في خدمته للرؤية التي ينظّر لها السياق النقدي، ومن يتقبّل طرحه قبولًا حسنًا، وهو أن من يشهد بأنّ الأخلاف قاموا بتزوير وتحريف وتشويه تاريخ حضرموت الإسلامي كلّه، شاهد من الأخلاف، وهو المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد.
لكن الإجابة عن السؤال السابق، والموجّه لهذا النسق البارز، يكشف ما يضمره من نسقٍ خفي؛
لعلّ هذا النسق الذي ورد في مقدمة الكتاب يجسّد نمطًا يسوقنا إلى نسق آخر، ورد في النقد الداخلي لكتاب (تاريخ شنبل) ـ محل البحث ـ له بهذا النسق علاقة وصلة؛ ويؤكد الاستنباط السابق الذي وقف عليه بحثنا، لذا لزم الوقوف عنده بالتحليل والقراءة هنا.
التساؤل الثاني: لمَ التحريف في قول القائل، وتقويله ما لم يقل؟
يقول السياق النقدي الموجَّه لكتاب شنبل: ـ مقتبسًا كلامًا من مقدمة محقق كتاب (تاريخ شنبل) عبدالله محمد الحبشي: «… ولهذا كان لا بد لمؤلَّف شنبل هذا أن يكون عماد الكتابة التاريخية الحضرمية لتلك الفترة الطويلة بعد (أن اختفت كل المصادر التاريخية عن حضرموت ـ انظر مقدمة المحقق.)، بل بعد إخفاء وإفناء كل المصادر التاريخية الحضرمية كما قال المؤرخ علوي بن طاهر الحداد في مقولته المشهورة»(8).
إن المقولة المشهورة، التي ينسبها السياق النقدي للمؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد، تنص على: (الأخلاف وجدوا في سيرة الأسلاف ما ينكرونه عليهم اليوم, فعمدوا إلى إخفائها وإفنائها). أورد السياق النقدي هذه المقولة ـ في كتاب (التزوير واستلاب الهوية) ـ كاستهلال في صفحة غير مرقمة؛ تسبق الصفحة السابعة عشرة.
بلا شك هذه المقولة تؤكد ما ذهب إليه بحثنا في مساءلته السابقة، من استنتاجات، لتقويها من منزلة الاستنباط المعرفي إلى منزلة اليقين المعرفي.
كما وردت هذه المقولة المنسوبة للمؤرخ الحداد، في السياق النقدي المناقض لنفسه؛ حين قال: «ولم يذكر المؤرخ الحداد مصادره الحضرمية في مثل مقولته (إن الأخلاف وجدوا في سيرة الأسلاف ما ينكرونه اليوم، فعمدوا إلى إخفائها وإفنائها) التي نسبها إلى غيره سماعًا، وفي هذه الحالة لا يعتمد إلا أن يكون المؤرخ الحداد هو مصدرها وتنسب إليه لا إلى من قال إنه سمع منه»(9).
يلحظ القارئ إن العبارة التي جاءت بين القوسين؛ أو بتعبير السياق النقدي (المقولة المشهورة) المنسوبة للمؤرخ علوي الحدّاد، هي نفسها التي وردت في الاستهلال قبل الصفحة السابعة عشرة، بزيادة كلمة (عليهم) في الاستهلال بعد كلمة (اليوم).
في السياق السابق يقرُّ السياق النقدي ذاته بأن المقولة المشهورة ليست صحيحة النسبة للمؤرخ علوي الحدّاد، بل اقتصرت مهمة المؤرخ الحداد على نقلها عن شخص آخر سمعها منه، لكن السياق النقدي ـ وإن أقرّ الحدّاد بنقلها وعدم نسبتها إليه ـ يصر على نسبتها إليه، بصيغة: (لا يعتمد إلا أن يكون المؤرخ الحداد هو مصدرها)، ولم يقل: قائلها هنا بل قال مصدرها، وثمة بونٌ بين الصيغتين؛ في وجهة يشعرك السياق النقدي بإقراره ضمنًا، بعدم تقبل المتلقي لهذه النسبة المزعومة؛ لأنّ المنسوب إليه ينفي أن تكون النسبة له، بل لغيره، وهذا بشهادة السياق النقدي ذاته.
ومن المنطقي إن نفى شخص نسبة كلام له، فهو ليس له، مالم يثبت الناقل عكسه، فهل يمكن أن نجعل ذلك الكلام شعارًا بارزًا، ننسبه لذلك الشخص، ونبني عليه نتائج فكرية في مشوار بحثي، وفق منهج تاريخي حداثي؟!
أين السعي للوصول إلى نتائج موضوعية بعيدًا عن الذاتية؟! كما تنص المدارس التاريخية الحديثة (10). وليس المقصود بالذاتية هنا ذاتية الأنا الساردة، بل كل الذوات المشخصِنة للحدث، أو الخبر المراد نقله أو نقده أو تحليله.
هذا المساق النقدي تنتفي فيه المنهجية العلمية للتحليل، وتبدو الشخصنة جلية، من خلال الإصرار والترصد بنسبة المقولة للحداد قبل العبارة حين قال في مثل مقولته، وفي خاتمتها حين قال: وفي هذه الحالة لا يعتمد إلا أن يكون المؤرخ الحداد مصدرها، بأسلوب القصر الذي يتجاوز اليقين إلى التأكيد على نسبة المقولة للحدّاد دون سواه(11)، مع كون السياق نفسه قد دحض هذه الشبهة إلى يقين نفي نسبة المقولة للحدّاد، ثم الْحَظْ عزيزي القارئ الانزياح في السياق عن لفظة: (قائلها) إلى لفظة (مصدرها)، وهناك فرق بين اللفظتين. فالعجيب هو الإصرار على تلك النسبة للحداد، حتى والحدّاد يقرّ بأن المقولة ليست له!، لكن كما يقال: إذا عُرف السبب بطل العجب.
على الرغم من عدم معرفتنا بالسياق الذي جاءت فيه المقولة المشهورة في السياق النقدي، مزعومة النسبة للمؤرخ الحداد، والمناسبة التي سمع فيها الحداد الشخص الذي قالها، وهل أوردها الحداد, مؤيّدًا أو مناهضًا، فإن الحقيقة الثابتة لدى بحثنا ـ من خلال ما تقدم ـ هي عدم صحة نسبتها له.
وقد يتجلّى أن السياق النقدي يضع القارئ في وهم من التحليل المعرفي حين قال: «… بل بعد إخفاء وإفناء كل المصادر التاريخية الحضرمية كما قال المؤرخ علوي بن طاهر الحدّاد في مقولته المشهورة وأثبتنا صحتها من خلال مباحث كتابنا المحتوي على مشروع الرؤية»(12).
لم يحدّد السياق أين تم إثبات صحتها كما يدّعي، وهل المقصود من إثبات صحتها واقعيًّا كخبر تؤكد التحليلات العلمية صحة ما قدمه من حقيقة فكرية؟! أم المقصود إثبات صدق المقولة ونسبتها للمؤرخ علوي الحدّاد؟
نختم هذه المساءلة بسؤال أخير بما أن ما يسمّى مشروع الرؤية قد اتخذ في تحليلاته مناهج نقدية داخلية حديثة ـ وهو أمر يقدره بحثنا ـ تتطلب دقةً في التحليل والنقد، والالتزام بالمنهج البحثي، لماذا لم ينسب هذه المقولة ـ التي أسماها (مشهورة)، المزعومة النسبة للمؤرخ علوي الحدّاد ـ إلى مرجع وصفحة في أي موضع من المواضع التي وردت فيها، كما هو المتبَّع منهجيًّا في الاقتباسات؟! وهو أمر لا يجهله السياق النقدي، حيث التزمه في معظم اقتباساته النصية والضمنية في مشوار نقده هذا؟!
التساؤل الثالث: لمَ يستخدم السياق النقدي اللغة الكيدية المُشخصِنة؟!
يقول السياق النقدي: «تزعم المخطوطة أن أصلها ينتمي إلى القرن العاشر الهجري، وحيث أن حياة المؤلف شنبل المزعوم انخرمت سنة 920هـ، فإنه يلزم عن هذا أن تنتهي أخبار الكتاب بوفاة المؤلف في تلك السنة، فهل الأمر كذلك؟
في سنة ـ 913هـ: قُتلوا أولاد شيخ باشيخ إبراهيم وأخوه عقيل في طريق قرين سعد، وحولهم يسر بن نجم فقتل في دولة آل كثير الأولى في تريم» (13).
إن القارئ المحايد لهذا الخبر يتلقى لغة يتجرّد فيها الأسلوب التعبيري عن الحيادية في التعبير، وفي آلية النقد وهي تمارسه قبل الوصول إلى نتائج حتمية من المنقود، تستنبطه آلية النقد نفسُها؛ إذ لازال السياق في بداية نقد المخطوطة لكتاب شنبل، ولم يمر نقده بمراحل متسلسلة توصل إلى نتائج علمية، يبني عليها السياق رؤيته المنطقية؛ ليقنع بها القارئ، حيث افتتح الأسلوب السياقَ بـ(تزعم)، ومر فيه أيضًا قوله: (حياة شنبل المزعوم)، أما استخدام السياق للفظة (انخرمت) والتي يقصد بها (انتهت)، فتكشف عن مستوًى عدائيٍّ لا مع الكتاب المنقود، بل مع المؤلِّف ذاته، ففي تاج العروس: «خَرَم (فُلانًا) يَخْرِمُه خَرْمًا: شَقَّ وَتَرةَ أَنْفِه»(14)، في هذا الأسلوب يتجلّى النسق المضمر للنسق البارز، وهو الأمر الذي تساءلت عن تعليله المساءلة محل التحليل.
أما الهدف الذي أراد السياق النقدي الوصول إليه من خلال هذا الاقتباس محل النقاش فكما يرى أن دولة آل كثير الأولى في تريم قامت سنة 926هـ على يد السلطان بدر بن عبدالله الكثيري (أبو طويرق).
فكيف ذكر شنبل دولة آل كثير الأولى في تريم في الخبر السابق؟ وهو متوفٍّ سنة 920هـ، وقيامها كان بعد وفاته. حتى توصّل في الأخير إلى استنتاج يقول: «وهنا يسقط هذا الكتاب المنسوب لشنبل» (15)، معتمدًا على اقتباس اقتبسه عن عبد السلام هارون في التحقيق يقول: «… فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية، تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه جدير بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف»(16).
للوقوف على هذه القضية قرأ الباحث كتاب شنبل، مفتشًا عمّا إذا كان عنده وجهة نظر تفيد قيام أي دولة لآل كثير في تريم، قبل العام الذي ذكره السياق النقدي وهو 926هـ؛ لأن هذا من شأنه أن يغلق باب الجدل، فنحن هنا نسائل كتابًا على تواريخ وردت به، فهل في الكتاب نفسه تاريخ سابق لقيام دولة لآل كثير في تريم قبل وفاته؟
فكان الجواب نعم، لقد ذكر كتاب شنبل نفسه خبرين يؤكدان ذلك؛ سيكتفي بحثنا بهذا الخبر الذي يسرد فيه الكاتب الأخبار الواقعة في سنة 889هـ: «وفيها جيّش بدر بن محمد الكثيري على تريم، بمساعدة آل عامر فدخل تريم يوم الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الأولى ضحى، وقتل جماعة نحو خمسة وعشرين، أشهرهم علي بن عبدالله المنقوش، وعلي بن يماني جرّار الصبري وابن صبرة، وأربعة من آل دييخ، ومَلك البلادَ بدرٌ…» (17).
كما هو ملاحظ من هذا الخبر الذي أروده شنبل في كتابه (تاريخ شنبل)؛ إنه يعي تمامًا ما يقول: من وجود قيام دولة أولى لآل كثير في تريم قبل عام 920هـ؛ حيث ذكر الحادثة باليوم والشهر والعام، وذكر أسماء وتفاصيل دقيقة على ذلك. وبحثنا هنا ليس بصدد تقديم رأي في هذا الخلاف عن وجود أول دولة لآل كثير في تريم، وزمان قيامها ـ لأن ذلك ليس من مهام بحثنا ـ ولكن يكفي أن يقدم حجة على أن شنبلًا يؤمن بهذه الدولة الكثيرية في تريم، وكان على وعي بها، والتي تسبق العام 920هـ ـ عام وفاة شنبل ـ بل وأرّخ لها بالدقة التي مرت معنا. والعبارة الأخيرة في اقتباسنا (وملك البلادَ بدرٌ)، تؤكّد على قيام مُلك ودولة، وليس دخولًا عابرًا صال فيه بدر على تريم.
فهل يبقى للاستنتاج الذي قدمه السياق النقدي مكانٌ، من كون شنبل يؤرخ لما حدث بعد وفاته؟! وهو ما يستدعي بطلان كتابه كما يدّعي السياق النقدي؟!
بالتأكيد لا، وعلى الرغم من ذلك فبحثنا ليس معنيًّا بالانسياق خلف الجدل القائل بوجود دولة لآل كثير قبل عام 920هـ, أم لا؛ لأننا كنا نبحث عن حضور هذا الأمر في كتاب شنبل، وأنّ الحدث قارٌّ في وعيه قبل أن يسطر الحادثة، التي اتخذها السياق النقدي حجة عليه.
عبارة عبد السلام هارون واستدلال السياق النقدي بها:
لعلّ الحيادية في التحليل، والأمانة العلمية المغذية للتساؤلات التي ينشدها بحثنا تجعلنا نعود تارةً أخرى للعبارة التي اقتبسها السياق النقدي، عن عبد السلام هارون، وهو يحاول إثبات عدم صحة نسبة كتاب شنبل؛ لنحلل نسقها البارز وهو الاعتماد على خبرة أهل الباع الطويل، في مسيرة التحقيق، ومن هؤلاء الأعلام، الدكتور عبدالسلام هارون؛ لذا توكّأ السياق النقدي ـ كما أوضحنا سابقًا ـ على قول الدكتورعبد السلام هارون: «…فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية, تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه, جدير بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف».
هل وفّق السياق النقدي بالتوكُّؤ على هذه العبارة في المكان الذي اقتبست فيه؟!
لسنا هنا في مجال الحديث عن كون الحجة قد أدحضت، فيما يتعلق ببطلان القول: بأن شنبلًا يحكي أخبارًا لاحقة لوفاته، فقد انتهى حديثنا في هذا الشأن.
بل نحن هنا في معاينة سياق لغوي أمامنا على افتراض أن شنبًلا ما زال متهمًّا بسرد أحداث بعد وفاته، وذلك أدعى لمقاضاته نقديًّا، في قول السياق النقدي، الذي قدمه دليلًا على ذلك، كم عدد الأخبار التي أوردها السياق لشنبل يسرد فيها أخبارًا حدثت بعد وفاته 920هـ.
الجواب: أورد السياق خبرًا واحدًا، وهي حادثة مقتل أولاد شيخ باشيخ، التي مرت معنا من قبل.
السؤال الثاني: هل في كلام عبد السلام هارون ما يدل على أن من ذكر له خبر واحد ـ من المؤرخين ـ في كتابه حدث بعد وفاته، فإن كتابه جدير بأن لا ينسب إليه؟!
هل قال هارون ذلك في الاقتباس الذي استعان به السياق النقدي؟
بالطبع لا أيضًا، الذي قاله الرجل: (الكتاب الذي تُحشد فيه أخبار تاريخية)، وهو من اقتباس سياق النقد نفسه، فهل الخبر الواحد = تحشد = أخبار؟!
ثمة مبالغة في الوعي الباطن لدى صوت السياق النقدي، يترجمها الانتخاب في آلية الاقتباس، هنا تُري السياقَ القليلَ مما يراه خطأً كثيرًا في المنقود، هنا وهو نسق بارز جمالي، يتجلى في الغيرة على تاريخ حضرموت الحقيقي، لكنه يكشف نسقًا مضمرًا حاول السياق البارز تمريره؛ وهو الكره المضمر لشخص المؤلِّف، وليس المؤلَّف كما تقدّم معنا في خطوات سابقة من البحث.
إن المبالغة في تضخيم ما يراه السياق النقدي خطأ في المنقود، والتي تمثل عدولًا عن منهجية البحث التاريخي المعرفي الأيبسيتيمولوجية، التي يعاين فيها الناقد نصًّا مجرّدًا، يحاكمه ويقاضيه بقواعد علمية منطقية، تعرّي قناعاتِهِ المسبقة من أي أحكام يتوخّى إصدارها، أو غايات مرئية يسعى للوصول إليها، وإلا سيتحول البحث إلى مجرد قطعٍ تحليلية متناثرة، يحاول بها النقد تغطية فجوات لم تتغطَّ بالمحايثة البحثية، والتأويلية النقدية بأسلوب علمي دقيق، ورصين في استنطاقاته، وتحولات نتائجة المترابطة، والمتناسلة من رحم التفسير التراتبي لبعضها البعض. فالمبالغة في تضخيم ما يراه السياق النقدي خطأ في المنقود، الذي نختتم به هذه المساءلة النسقية، سيكون هو عنوان المساءلة التالية.
وفي كتاب (تاريخ شنبل) نفسه ـ ساردًا الأحداث التي حدثت سنة (896هـ) ـ يقول: «وفيها سلّم بدر بن عبدالله الكثيري تريم لعبدالله بن راصع وعدّلها عليه»(18).
هذه العبارة مع ما تحمل من خبر، تردّ على تساؤل المتسائلين عن سبب قوله: (دولة آل كثير الأولى في تريم)، كما أوردها السياق النقدي؛ أي إن شنبلًا حددها بالأولى؛ لأنه كان يعلم بقيام سواها من بعدها، كما تبين. وكلا التاريخين جاءا قبل وفاة شنبل وليس بعده (889هـ + 896هـ). مما تقدم في هذه المساءلة، فإن القارئ المحايد لا يجد دليلًا علميًّا واحدًا يشكّك في نسبة كتاب (تاريخ شنبل) إلى شنبل، بل يجعل القارئ المحايد يمتعض من كثرة ورود تركيب: (شنبل المزعوم) من غير أن يقف على أرضية علمية صلبة تفنّد هذا الزعم.
وطالما أن ذلك كذلك فإن التشكيك ـ ناهيك عن الجزم ـ ببطلان نسبة كتاب (تاريخ شنبل) إليه، يظل وهمًا ما لم تثبته الأدلة العلمية والمنطقية، وهو مالم يحدث للقارئ المفرغ من أي ميل أو هوى هنا.
لم يكن القارئ المحايد يتمنّى أن يصطدم منذ بداية النقد الداخلي لمخطوطة كتاب (تاريخ شنبل) بقراءة تراكيب مثل: (شنبل المزعوم) + (تزعم المخطوطة) + (حياته انخرمت سنة 920هـ)؛ لأنّ هذه نتائج لقراءة تاريخية يفترض أن يتوصل إليها التحليل والنقد كخلاصة نهائية، فيما لو استطاع السياق النقدي ذلك ـ علميا ومنطقيّا ـ حتى يقنع بها القارئ، وإن كان السياق النقدي قد توصّل إلى تلك النتائج عبر أبحاث مسبقة؛ فالقارئ هنا ليس شريكًا في معايشة المراحل المتسلسلة لذلك التحليل، والتفسير الذي أوصل إلى تلك النتائج المحتملة ـ فيما لو حدثت ـ كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري ـ متحدثًا عن تفسير الأحداث التاريخية ـ: «الأحداث التاريخية إنما تفسرها وتعطيها معناها خواتيمها، لا بداياتها»(19). ولا بد من إشراك القارئ في عيش مراحل ذلك التفسير من البداية حتى النهاية، حينها يكون القارئ معايشًا لمراحل ذلك التحليل والتفسير المنطقي، الذي أوصله إلى إطلاق هذا المصطلح أو ذاك، أما صفع القارئ بهذه اللغة الصادمة، منذ بداية النقد الداخلي للمخطوطة، فتصبغ السياق النقدي والتحليلي بصبغة عاطفية مشخصنة، نابعة عن ميول نفسي؛ يرسم أحكامًا في وعي السياق النقدي محددة سلفًا، يثيرها عداء فكري مؤدلج ربما، فلا يحتمل تأخيرها، وهو أمر يتنافى تمامًا مع آلية مناهج النقد الحديثة؛ التي تعاين النصوص من داخل سياقات لغتها المنظومة.
مازال بحثنا يناقش الخبر ذاته، الذي ذكره السياق النقدي وحاول من خلاله أن ينفي نسبة كتاب (تاريخ شنبل)؛ إذ يقول: «ما تم حذفه من نص الخبر هو (بن) في (يسر بن نجم), و (آل) في (آل كثير). وهكذا، تم تقطيع أوصال نص هذا الخبر المركزي في بيان انتحال هذا الكتاب المنسوب لشنبل المزعوم…»(20).
يعني أن ما سقط من الخبر الذي ذكره المؤرخ شنبل (بن) حين قال: (يسر نجم)، و(آل) حين قال (دولة كثير) ـ وما قاله صحيح بعد الرجوع للكتاب نفسه ـ لكن فلنتأمل قول السياق النقدي بعد ذلك، لو قال السياق النقدي: هنا نقرأ انتقاصًا في حق الاسمين المذكورين، سيكون القول منطقيًّا، لكنه لم يقل ذلك هنا وهي فرصته في النيل من المؤرخ شنبل، ما دام يراه مزعومًا؛ لم نرَ السياق النقدي يعلق على الحذف المذكور، بل انزاح السياق إلى شأن آخر، حين قال: (وهكذا، تم تقطيع أوصال نص هذا الخبر المركزي في بيان انتحال هذا الكتاب المنسوب لشنبل المزعوم).
السؤال المطروح، هل عدم كتابة (بن) و (آل) في الخبر، يمكن أن نسميه تقطيعًا لأوصال الخبر؟!
وهل هذا التقطيع في هذا الخبر ـ كما يرى السياق ـ خليق بأن يبيّن انتحال ـ ونضع كلمة انتحال بين علامتي تعجب ـ كتاب (تاريخ شنبل)؟!
هل هذا تحليل علمي منطقي لنقد داخلي، يمكن اعتماده للوصول إلى هذه النتيجة (انتحال الكتاب المنسوب لشنبل المزعوم)؟!
بلا شك إن أي قارئ لا أقول محايدًا، بل ولو كان مناهضًا لشنبل وكتابه، لن يقنعه هذا الطرح والتحليل؛ للوصول لهكذا استنتاجات بعيدة جدًا، فأقصى قراءة يمكن أن يستخلصها ذلك المناهض إن أراد تتبع زلات نهج شنبل؛ هي أن شنبلًا قد تقصد التقليل من الاسمين ـ وهو ما تحاشاه السياق النقدي ـ لما ذكرناه آنفًا، وإلا فقد يعذر المحايد شنبلًا في عدم كتابة (آل) لأي عذر، وقد لا يعذره، وذلك من حقه.
التساؤل الرابع: لماذا يعيب السياق النقدي على المحقّق الحبشي شيئًا، يرى أنه من حقه؟!
إن في السياق ذاته محل التحليل، لكن في بُعد آخر من أبعاده ينتقد السياق النقدي محقق كتاب (تاريخ شنبل) عبدالله محمد الحبشي قائلًا: «من حق المحقق أو الباحث أن يملأ الفراغات في النص التراثي حتى يستقيم المعنى، لا أن يأتي به مبتورًا مشوَّهًا … ونحن هنا نتساءل: لماذا اختار المحقق الحبشي أن يأتي بهذا الخبر على حالته تلك؟. والأغرب في أمر المحقق الحبشي مع هذا الخبر الذي أورده مبتورًا مجزّءًا، أنه أورد اسم (يسر بن نجم) هكذا كاملًا في فهرس الأعلام الملحق بالكتاب، نحن هنا أمام حالة (تدليس), أي تضليل وخداع للقارئ بطريقة احتيالية. ؟.» (21).
حينما نتأمل قوله في بداية الفقرة: (من حق المحقق أو الباحث، أن يملأ الفراغات في النص التراثي؛ حتى يستقيم المعنى…) نجد السياق النقدي يعطي الحق للمحقق، والباحث في ملء الفراغات في النّص التراثي؛ حتى يستقيم المعنى.
أولًا: حينما أعطى السياق النقدي المحقق الحقَّ، في ملء تلك الفراغات، أليس منطقيًّا أن يفهم القارئ أن عدم ملء تلك الفراغات أيضًا من حقه؟!
بالتأكيد سيفهم ذلك.
هل في السياق النقدي أمامنا ما يُلزم المحقق بذلك إلزامًا؟
أيضًا لا يوجد فيه ما يلزم.
فكيف يتهمه السياق النقدي بالتدليس والتضليل وخداع القارئ والاحتيال، وهو في الأساس مارس شيئًا من حقه؟! وفقًا ومنطوق السياق النقدي ذاته.
ثانيًا: قوله: (حتى يستقيم المعنى)، هل عدم كتابة (بن) و (آل) في تركيبي (يسر بن نجم)، و(آل كثير) على التوالي يؤدي إلى اختلال في المعنى؟!
بالطبع يظل المعنى قائمًا، وإن عدَّ السياق النقدي في ذلك انتقاصًا في الصياغة، فهو لا يرقى لأن يعطل دلالة المعنى، كما هو جليٌّ لكلِّ ذي منطق سليم حيادي.
ثالثًا: في قوله: (والأغرب في أمر المحقق الحبشي مع هذا الخبر الذي أورده مبتورًا مجزّءًا …).
هل كتب المؤرخ شنبل التركيبين (يسر بن نجم)، و(آل كثير)، ثم قام المحقق الحبشي ببتر (بن) و(آل)، وجزّأ التركيبين؟!
أم إن المحقق قام بنقل السياق الشنبلي كما هو؟!
إذا كان المحقق الحبشي مع نقله للسياق، كما جاء بكل أمانة ومهنية، اُتُّهِم من السياق النقدي بأنه مدلس ومضلل ومخادع ومحتال.
ألن تنطبق عليه تلك النعوت الأربعة الثقيلة، فيما لو أضاف ما يرى السياق النقديُّ أنه بحاجة إلى إضافة؟!
ألن يُتَّهم بأنه مدافع عن المؤرخ شنبل، وأنه حاول إخفاء ما يراه السياق النقدي عيوبًا؟!
من يقرأ مستوى تلك اللغة النقدية التي تكيل أوصاف التدليس والتضليل والخداع والاحتيال؛ فقط لأنّ المحقق لم يضف (بن) و (آل)، على نصٍّ رأى أن من مصلحة الأمانة في النقل عدم إضافتهما، بلا شك يعي تمامًا أن السياق النقدي هنا ذا النسق الجمالي البارز يُظهر غَيرة على التاريخ الحضرمي الإسلامي، من التدليس والتضليل والخداع والاحتيال، لكي يمرّر نسقًا آخر مضمرًا؛ هو إظهار تضامن الأخلاف (العلويين) ـ شنبل والحبشي شاهداه هنا ـ ومن ينتمي إليهم في ذلك التضليل والتدليس والخداع والاحتيال. هذه الصفات التي أثبت بحثنا بالنقاش المنطقي بطلانَها.
ويتجلَّى في قوله: (أنه أورد اسم (يسر بن نجم) هكذا كاملًا في فهرس الأعلام الملحق بالكتاب, نحن هنا أمام حالة (تدليس).
هل يقرأ القارئ الباحث عن الخبر الحق، في هذا الصنيع تدليسًا، أم أمانة؟!
في المكان الذي لا لبس فيه ـ فهرس الأعلام ـ من الطبيعي، أن يضيف المحقق فيه ما يرى أن إضافته خليقة؛ لأنّ فهرس الأعلام من تأليفه شخصيًّا، وليس منقولًا من كتاب آخر، لكن في مكان النقل راعى الدقة في النقل؛ حتى لا يُتهم بتغيير النّص، وتحريفه، ولو أراد أن يشارك شنبلًا ـ فيما اتُّهم به ـ لما أثبته في الفهرس ومضى في سبيل إخفائه، بل إنه هنا قد مارس حقًا من حقوقه، كما يشهد السياق النقدي بذلك في بداية نقده للعبارة، وقد فصلنا فيه الحديث سابقًا. وحسَنٌ فعَلَ برأي بحثنا؛ لأنّ المنطق في كيل الاتهامات بلا دليل علميٍّ مقنع سيجعل من ذلك فرصة سانحة، للنقد الشخصي لا الموضوعي، كما هو مقروء في لغة النعوت الملقاة جزافًا، التي كالها السياق النقدي على المحقق دونما مكيال نقدي دقيق.
التساؤل الخامس: أليس في هذا التأويل تكلّفٌ فوق ما يحتمل السياق؟!
معلوم إن المدارس التاريخية الجديدة، أو النقدية الحديثة، قد تحاول استنطاق بنية اللغة الداخلية للسياق النصِّي أمامها، وتخلخل علاقاته السابقة لتحصل على بناء جديد ذي دلالات مغايرة، في طريقها نحو عدم التسليم بالرؤى القائمة، ومجابهة الخطابات السائدة، على نهج تحليلي تفكيكي، وهي وظيفة النقد الحضاري عند المفكر الراحل هشام شرابي(22).
لكن هذا التحليل لابد أن يتخذ خطواتٍ منهجية ذات أساس واضح ومعلوم سلفًا؛ ليصل إلى غاياته القرائية، المنتجة دلاليًّا، لعلّ هذا ما حاول السياق النقدي فعله في تحليل اسم أو عنوان كتاب (تاريخ شنبل)؛ فنرى ممارسة تبدو عليها المخاتلة جلية للوصول لرؤى قارة مسبقًا لدى وعي السياق النقدي، فحينما نقرأ السياق النقدي يوازي بين هذه التراكيب الثلاثة دلاليًّا، يتضح ما عنه نحكي: (تاريخ شنبل) ← (تاريخ حضرموت) ← (تاريخ النعال) (23).
يقول السياق النقدي: «…وهنا تكون دلالة (تاريخ شنبل) بمعنى (تاريخ حضرموت)، بمعنى أن حضرموت هي (الشنبل)، وكـأنه قال (تاريخ النعال)، أي إن حضرموت هي النعال، فلفظة (شنبل) تعني حضرميًّا (النعال) ـ انظر مقدمة المحقق…»(24).
إذا بدأ القارئ التأمل للسياق النقدي من حيث انتهى، سيعي أنّ ثمة تمويهًا تقصّده السياق هنا كعادته، في قدرة صياغية تمكنه من ذلك؛ وهي إيهام القارئ بأن المحقق في مقدمته يؤوّل لفظة شنبل حضرميًّا بالنعال، فليعد القارئ؛ لقراءة العبارة السابقة من قوله: (وكأنه قال (تاريخ النعال … إلى نهاية الفقرة، ويرى ماذا يعلق في ذهنه من دلالة.
في حين إن المحقق لم يقل هذا القول إطلاقًا في مقدمته، ولا في غيرها، لا صراحة ولا إشارة، على العكس من ذلك فقد أقرّ المحقق عبدالله محمد الحبشي اسم الكتاب على غلافه (تاريخ حضرموت، المعروف بـ تاريخ شنبل)؛ لكن السياق النقدي يجعل من هذا المنحى تأييدًا من المحقق لتحليله البعيد السابق. مُدَّعيًّا أن المحقق لو لم يكن يقرّ هذه الوجهة من التأويل لقال: (المعروف بتاريخ أحمد عبدالله شنبل باعلوي)(25).
أولًا: فلنسأل السياق النقدي ما معنى (شنبل) لغويًّا؟
عندئذٍ سيأتي الجواب العلمي عن السؤال، عند ابن منظور في اللسان، بمعنى التقبيل والارتشاف ـ ولا يقبَّلُ ويُرتَشَفُ طواعيةً إلا ما كان في غاية الذوق والجمال ـ حين قال: «يقال: قبَّلَهُ ورَشَفَه وثاغَمَه وشَنْبَلَه ولَثَمه بمعنى واحد»(26).
إذن شنبل = الدلالة على اتصال طرفين؛ (مقبِّل + مقبَّل), (لاثم + ملثوم)، (طفل + ثدي الأم)؛ وعليه يكون الشق الثاني منهلًا وعطاء، والشق الأول طرفًا آخذًا ومتلقيًّا؛ مقبِّلًا لاثمًا راشًفا.
ثمة حياة تستمد من هذا الاتصال ونماء، ففي التقبيل تُقرأ خطوة أولى للتزاوج، والتناسل والتكاثر. وفي الرضاعة تتبدّى دلالة النمو والقوة والعطاء.
يمكن أن يقرأ السياق السابق عموديًا مصدرًا للقوة والعطاء، وأفقيًا مصدرًا للتكاثر والتناسل، فيجتمع المساران؛ إذ تتشنبل الدلالة في أقوى تجليات معانيها.
لِمَ لم يلجأ السياق النقدي إلى دلالة اللفظة اللغوية، من أثرى المعاجم عند العرب، (لسان العرب)، وهو يجري تحليلاته السابقة؟
هل غفل السياق النقدي هذه الدلالة للفظة، حتى يذهب بها مذهبًا بعيدًا كما تقدم؟!
ثم هل المحقق الذي ادّعى السياق النقدي أنه ينحو منحى تأويله ـ حين اقتصر في توصيفه للكتاب ـ بقوله: (المعروف بـ تاريخ شنبل)، بدلًا من قوله: ( المعروف بـ تاريخ أحمد عبدالله شنبل باعلوي)، هل يمكن أن يفعل ذلك وهو من شرح المقصود بلفظة (شنبل) صارفًا عنها صفات الصغار، حين قال: «شنبل في اللغة من ألفاظ التكريم, وفي لسان العرب: “شنبل اسم وهو بمعنى قبّله ولثمه” وتلقب به جماعة من العلماء منهم: عبدالله بن شنبل محدّث، وأبو شنبل حمل بن خزرج العقيلي شاعر في زمن المهدي. وفي تاج العروس بنو شنبل بطن من العلويين بالحجاز. وقد ساد في الألفاظ السوقية عند أهل عدن وغيرها أن يطلقوا على الخف الرقيق لفظة شنبل ولا ندري من أين جاءت هذه اللفظة، فلعلها من الألفاظ الهندية المستعملة عندهم»(27).
كما هو ملاحظ ثَمَّ بونٌ في تأويل المحقق والسياق النقدي للفظة، بل إن المحقق يخالف رأي السياق النقدي، في كون اللفظة مستعملة حضرميًّا بمعنى (النعال)، حين ذكر أنها لفظة معربة وليست عربية، قد يكون أصلها هنديًّا.
سؤال أخير، فرضًا أقرّ المحقق ما يدعو إليه السياق النقدي اسم الكتاب: (تاريخ حضرموت المعروف بـ تاريخ أحمد عبدالله شنبل باعلوي).
أَلَنْ يكون اسم الكتاب طويلًا جدًا؟!
أَلَنْ يجد الكرام الكاتبون صعوبة في كل مرة يحتاجون فيها إلى كتابة اسم الكتاب؟!، لا سيما إنه المرجع الوحيد ـ كما يقرّ السياق النقدي ـ الذي يؤرخ لتلك الحقبة الزمنية من تاريخ حضرموت.
وإن عدنا إلى التأويلات التي توصل إليها السياق النقدي في تحليله:
(تاريخ شنبل) ← (تاريخ حضرموت) ← (تاريخ النعال)، هل حافظت دلالة التضايف، بين شقي كل تركيب من التراكيب الثلاثة السابقة على وحدة جهتها؟!
أي إن في تركيب (تاريخ شنبل)، الجزء الثاني فاعل أحدثَ الجزء الأول.
هل تستمر هذه العلاقة ـ فاعلية الثاني في مفعولية الأول ـ في التراكيب الثلاثة حتى ندرجها تحت نسق تحليلي واحد؟!
بالطبع لا؟.
هنا يتجلى التساؤل الأكبر ـ تساؤل العنوان ـ الذي حوى تحت سقفه كل تلك التساؤلات الداخلية، ليتجلى نسقًا بارزًا يتشكل من أنساق عدة، يضمر تحته آخر مضمرًا يتشكل أيضًا في أنساق عدَّة.
ـ النتيجة التي يحاول السياق النقدي الوصول إليها، من تحليلاته النقدية الداخلية السابقة؛ هي إثبات أن المؤلف المجهول لهذا الكتاب المنحول، قد اختار لفظة (شنبل)؛ ليعطي مدلولاً تبخيسيًّا تحقيريا لحضرموت وتاريخها وهويتها.
وبشيء من الوقوف على ما يحويه هذا التصريح من إقرار سياقي بوجود مؤلِّف حقيقي للكتاب هذا اسمه (أحمد عبدالله شنبل باعلوي)، على الرغم من إصراره على تسميته (شنبل المزعوم)، وأن شنبلًا اسم منحول، وضعه الأخلاف كما يدّعي.
وهل يكون من يترجم له الزركلي اسمًا منحولًا في أهم مراجع التراجم: كتاب (الأعلام) حين قال: «ابن شنبل: أحمد بن عبدالله 920»(28).
ألا يكون هذا النسق البارز قد كشف عن نسق مضمر؛ هو تقصُّد اتهام السياق النقدي للكتاب بالانتحال؟!, يضمره السياق النقدي فتفلت في لغته، حين ابتعد وعي التحليل عن هذه القضية إلى سواها؟!، فطفا على سطح اللغة، خروجًا من أعماق أنساقها المضمرة؟!.
التساؤل السادس: أليس هذا التأويل مخالف للدلالات المعجمية؟!
يستمر السياق النقدي مستخدمًا كافة الوسائل التحليلية، لا نقول للوصول إلى حقائق تاريخية مستنبطة آيبيستيمولوجيًّا؛ بل لتغذية قناعات موضوعة سلفًا، وما هذا التساؤل موضوع النقاش هنا عمّا نقول ببعيد، وهو ما كشفت عنه الأنساق الثقافية، السابقة في بحثنا.
لقد بدأ ما يسمى بـ (مشروع الرؤية) رويدًا رويدًا هنا يكشف عن نسقه المضمر الرئيس؛ وهو الدفاع عن الإباضية والاعتزال، أي عن نسق عقائدي أيديولوجي، في المقام الأول؛ وهو ما أبداه النسق البارز في مساقه الجمالي، الذي تجسّد في الدفاع عن المساجد والمقدسات الإسلامية، من النظرة التبخيسية للمساجد؛ التي يدّعي السياق النقدي تعرضها لها على يد الأسلاف وأخلافهم، وهو ما يسميه الدّس والطمس والإخفاء المتعمد للحقيقة، من قبل ما يسميهم (الأخلاف).
فينكشف مع التحليل ما يخفيه هذا النسق ـ الجميل في غايته المعلَنة ـ من أنساق مضمرة، تفلّت بعضها على السطح حتى في آلية الممارسة البارزة، في صوغ سياقات تلك الأنساق؛ كما سيأتي بيانه، يقول السياق النقدي: «رابعًا: حرف (الخاء) الذي تبتدئ به كلمة (الخوقة) يرمز في العربية إلى كل ما هو كريه ومقزز وشائن، من ذلك: خزي، خرق، خجل، خيانة، خلاعة، خنوثة، خنيث، خذلان، خبل، خنزير، خرف، خسة، خسيس، خراء.
و(الخوق) في اللغة هو (الجرب)، والأخوق هو الأجرب … كل هذه المعاني السلبية التي تلتصق بكلمة (الخوقة) لا تتناسب أن تكون لها علاقة باسم يطلق على أحد المساجد مهما كانت الفرقة المذهبية التي ينتسب إليها ذلك المسجد، كما أنه لم يُعرف عن الفرق الإسلامية أن اعتمدت هذا الأسلوب التبخيسي في حق بعضها البعض. أما أن يطلق هذا الاسم (مسجد الخوقة) في ظل سيادة وسلطة الأباضية في شبام، فهذا ما لا يقبله عقل أو يستسيغه منطق»(29).
أولًا: حرف الخاء والكلمات التي اصطفاها مبتدئة به، والتي ذكرها السياق النقدي هنا، تقدّمُ للقارئ لغة مصاحبة، يكتشف من خلالها عن كمية الكره المُضمر، لمن يسمِّيهم (الأخلاف), والتي تتجاوز سياق النقد العلمي الموضوعي، المتجرّد عن الشخصنة، هذا الكره يُقرأ في كلمات مثل: (كريه مقزّز شائن)، قبل اصطفائه الصادر عن الرؤية المظلمة تجاه المكروه، أو المبغوض، أو قل ناتج عن نصف الرؤية؛ على اعتبار أنّ ثمة إشراقًا في الكلمات التي تبدأ بحرف الخاء، تجاهله أو تغافله السياق النقدي؛ لأنه كان ينظر من بالعين المظلمة في نسقه الاصطفائي؛ ولم يكتف بالاصطفاء بل عمّم السياق؛ بأن الكلمات التي تبتدئ بحرف الخاء ترمز في العربية إلى (كلّ) ما هو (كريه ومقزز وشائن). فبدا التعميم في كلمة (كل)، متجاهلًا مسارًا مشرقًا آخر يمكن أن ترسمه الكلمات المبدوءة بحرف الخاء مثل (خير/ خيل/ خمائل/ خلّة/ خدود/ خولة/ خوخ/ خديجة/ خبر/ خلود/ خرير/ خيال/ خواطر/ خلخال/ خاتم/ خلية / خبز/ خنساء/ خطابة …).
ألم يظلم السياق النقدي اللغة في اصطفائه السابق؟!
ألم يمر جذر لغوي في مخيلة السياق النقدي، من هذه الكلمات التي ذكرها بحثنا على سبيل التمثيل، لا الحصر وهو يفتش عما يعيب من كلمات مبدوءة بحرف الخاء؟!
ثم لمَ كرّر اشتقاق كل من لفظتي: (الخنث، والخسة)؟!
إن هذه اللغة ترسم دلالاتٍ عميقة، تفلتت بها لسان السياق النقدي هنا، حتى بدا ذلك السياق يهين ويبخس ما يدّعي أنه عنه يدافع.
ثانيًا: تأويل لفظة: (الخوق) بالجرب، واقتصار السياق النقدي على هذا التأويل، الذي يفترق تمامًا مع ما ذُكر من تأويلات أخرى في لسان العرب، وتاج العروس وغيرهما: حيث جاء في اللسان؛ «خوق: الخَوْقُ: الحَلْقة مِنَ الذَّهَبِ والفِضة، وَقِيلَ هِيَ حَلْقة القُرط. وَفِي الْحَدِيثِ: أَما تَستطيع إِحداكُنّ أَن تأْخذ خَوْقاً مِنْ فِضَّةٍ فتَطلِيَه بِزَعْفَرَانٍ؟»(30).
فالخوق: هو حلق الذهب والفضة، هنا وهما معدنان نفيسان، يأخذان دلالة بعيدة ومغايرة، لما اعتمدها وانتقاها السياق النقدي.
وقد تدلُّ مادة ( خ و ق) في اللسان أيضًا على السعة، «الخَوْقُ الحَلْقة، وخاقُ المفازِة طولها وخَوَقُها سَعَتُها ويقال خَوَقها طولها, وبلد أَخْوَقُ واسع …»(31).
بالتأمل الدقيق في دلالة الخوق في لسان العرب؛ يلتقي بُعدان دلاليان من خلال ما تقدّم يجمعان بين النفاسة والجمال؛ كما في: (الذهب + الفضة + الزعفران)، وهو مسار قرائيٌّ عمودي، بالإضافة إلى مسار آخر أفقيٍّ؛ هو مسار السعة والامتداد. هذان المساران هما من يرسمان آلية العلاقة بين العبد وربه عن طريق المسجد والصلاة، التي يتجه فيها قلب العابد بربه بوجهة عمودية ترسمها وجهة خروج الدعاء من قلب العابد فيده ممتدة للأعلى في الدعاء بالصلاة، وهي علاقة قلبية نفيسة تقوم على أساس الإيمان، وعلاقة أخرى أفقية ترابطية؛ هي العلاقة بين جميع مساجد الأرض والمسجد الحرام قبلة المسلمين، حيث تُوجَّه وجوه العابدين نحوه، على امتداد مناكب الأرض البعيدة. ألم تكن تلك العلاقات القرائية قراءاتٍ ساميةً يمكن أن يقرأها القارئ المحايد لدلالة (الخوقة) العظيمة، انطلاقًا من لسان العرب، وغيرها من جماليات التأويل المعجمي؟!
ألم يُسِئ السياق النقدي لهذا المسجد الطاهر؟! من حيث ادّعى أنه عنه يدافع؟!
ألا ينتفي بما تقدّم ذلك الاتّهام الذي أطلقه السياق النقدي؛ قائلًا: «وبالتأكيد الهدف من إطلاق اسم الخوقة على مسجد الأباضية إنما هو الإساءة وغرس النظرة التبخيسية للمذهب الأباضي …»(32).
ألا يتشرف ذلك المسجد بهذا الاسم في دلالاته الجديدة؟!
ألم تَكشف لغة المذهبية الطاغية في لغة الاتهام في السياق النقدي هنا، عن نمط النسق المستتر الخفي، تحت وجه السياق الجمالي البارز؟!
وهو الأمر الذي يسقط قناعه، سياق العبارة الآتية:
(أما أن يطلق هذا الاسم (مسجد الخوقة) في ظل سيادة وسلطة الأباضية في شبام، فهذا ما لا يقبله عقل أو يستسيغه منطق).
وإذا توقفنا على هذا السطر الأخير وما قبله، من الفقرة محل الدراسة هنا: بالإضافة إلى ما تقدّم منها يتجلى نسقٌ جماليٌّ، مدافع عن بيت من بيوت الله، من خلال مسمًّى اجتهد السياق النقدي لإبراز عيوبه (الخوقة)، وهو نسق جميل حين يؤمن به القارئ، لكنّ بحثنا كشف أنّ هذا النسق الجماليَّ كان يُخفي نسقًا مضمرًا؛ هو التعصُّب المذهبي المنبعث منه صوت السياق النقدي، هنا ومحاولة إظهار (الأخلاف) بأنهم مَن قاموا بهذا التشويه والتزييف لتاريخ تلك الحقبة، وقد بيّنا نمط هذا النسق المضمر فيما سبق من أسطر؛ من حيث اللغة المشحونة بألفاظٍ يتفلت منها الكره، والبغض الجلي لطرف (الأخلاف)، المجابه للمذهب الذي ينطلق من صوت السياق النقدي.
التساؤل السابع: لم التحريفُ في هذا الاقتباس؟!
يقول السياق النقدي: «هكذا يمكن فهم قول المحقق الحبشي، بأن كتاب شنبل ظهر (بعد أن اختفت كل المصادر التاريخية عن حضرموت ـ انظر مقدمة المحقق). أي إن هذا الكتاب جاء نتيجة ذلك (الإخفاء) وليس (الاختفاء)»(33).
وبالامتثال للأمر (انظر)، فقد رجع الباحث إلى مقدمة المحقق، فوجد ثَمَّ اختلافًا جليًّا في الاقتباس عن المحقق الحبشي؛ حيث قال الحبشي: «حيث إن تاريخ شنبل ظلّ المصدر الوحيد للتاريخ دون منافس بعد أن اختفت كل المصادر التاريخية عن حضرموت»(34).
فالفرق بين القولين؛ هو أنّ السياق النقدي في اقتباسه يوضح أن تاريخ شنبل ظهر بعد اختفاء المصادر التاريخية. بينما قول المحقق الحبشي يشرح أن تاريخ شنبل ظلّ المصدر الوحيد للتاريخ بعد اختفاء تلك المصادر؛ فكان محور الاختلاف في القولين، في لفظتي (ظهر) و(ظل)، حيث إنّ للفظتين دلالتين زمنيتين مختلفتين؛ لأنّ ظهور كتاب شنبل بعد اختفاء المصادر التاريخية يؤخر زمان ظهوره عن زمن اختفائها، ويسوغ لتهمة من أراد الاتهام بأنه الفاعل الحقيقي في اختفاء تلك المصادر، ويجعله نتاجًا لمادة تلك المصادر المختفية. وهو تحريف حرّفه السياق النقدي في الاقتباس عن المحقق، بتقويله ما لم يقل، الأمر الذي يتنافى مع الأمانة العلمية البحثية.
أما قول المحقق: ظل كتاب شنبل بعد اختفاء تلك المصادر لا ينفي وجود الكتاب قبل اختفاء المصادر التاريخية، واستمرار بقائه بعد اختفائها. بينما اقتباس السياق النقدي (المحرَّف)، يحدّد زمن ظهور كتاب شنبل، بعد اختفاء المصادر التاريخية؛ للغاية التي ذكرناها آنفًا.
ولا شك في هذا التحريف في الاقتباس، وإن كان مقصده معلومًا، إلا أنه يسائل السياق النقدي، بالتساؤل في العنوان؛ لم التحريف في هذا الاقتباس؟!
التساؤل الثامن: أليس في النَّصين تناقضٌ جليٌّ؟!
تحت عنوان (أمثلة الفلترة والترشيح في كتاب شنبل)، أورد السياق النقدي فقرتين، يكشف الجمع بينهما عن تناقض جليٍّ؛ يقول في الفقرة الأولى بعد أن ذكر نماذج ممّا سمّاها أمثلة على الفلترة والترشيح في كتاب تاريخ شنبل: «كما أنه وحسب النماذج السابقة نجد أخبارها عديمة الفائدة فاقدة للمعنى، وهذا يعني أن المؤلف المجهول لهذا الكتاب، أوردها بهذا الأسلوب، ليس من أجل الفائدة العلمية، ففاقد الشيء لا يُعطيه، بل لملء فراغ الصفحات بتسويد بياضها لا غير»(35).
يُظهر السياق النقدي عدم الفائدة الحقيقية، في الأخبار التي سردها شنبل في كتابه، فهي أخبار تفتقر إلى تقديم الفائدة العلمية، بل لا تعدو كونها تبييضًا لسواد الصفحات، كما يرى السياق النقدي.
ثم يقول متسائلًا ـ تحت عنوان الفلترة والترشيح نفسه ـ: « … بل لماذا سيطرت (الفلترة) على الكتاب كله على أهميته كمصدر وحيد للفترة التي يؤرخ لها؟؟»(36).
كيف تحوّل كتاب شنبل هنا إلى كتاب مهم، ومصدر وحيد لتأريخ الفترة الزمنية التي تناولها، وقد بينت الفقرة السابقة، أن أخباره مجرد تبييض لسواد الصفحات، ولا يقدم فائد علمية؟!
هل من منهج السياق النقدي، أن يُعطي الكتاب أهمية، حين يريد أن يظهر أن أثر الفلترة ـ فيما لو ثبتت ـ فعلٌ شنيع فادح ألمّ بالكتاب؟!
وإذا توقفنا على تعميم الفلترة، حين قال: (على الكتاب كله)، هل يصبح الكتاب كاملًا ـ بهذا التوصيف ـ مفلترًا؟! أم منحولًا؟!
التساؤل التاسع (خلاصة البحث): من أنصف الفقيه (بن فضل), كتاب الرؤية, أم كتاب شنبل؟!
يقول السياق النقدي تحت عنوان (تصغير وتبخيس الأعلام وبتر الأخبار):
«سنة 581هـ: توفي الفقيه سالم بن فضل في جماد الأخير. يقصد الإمام والفقيه والفيلسوف والرأس المعتزلي الكبير سالم بن فضل بن عبد الكريم بأفضل، الذي بفضله (جرّت تريم على المجرة ذيلها: عجبًا، وحق لها الفخار الأكبر) وحوت علومه (فقه ابن إدريس وإعراب الخليل وما حوى سقراط والإسكندر). حسب ما قاله فيه الإمام محمد بن علي القلعي. ـ انظر: مفلح: نفسه ـ 103 ـ .
سنة 611هـ: توفي الفقيه الورع أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي الحب.
انظر حديثنا عن هذا الفيلسوف والمتكلم المعتزلي الكبير صاحب قصيدة القوافي المشهورة في كتاب مشروع الرؤية: الحياة العلمية في تريم في القرن السادس الهجري. انظر: مفلح: نفسه ـ 206)»(37).
إذا بدأنا تحليلنا من الأخير؛ هنا في الإحالة (انظر حديثنا عن الفيسلوف…) فالسياق النقدي لا يتحدث هنا عن أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي الحب، بل مازال الوعي الناقد للسياق النقدي واقفًا عند الفقيه سالم بن فضل، الذي مجّده بما تقدّم من ألقاب؛ متكئًا بالاستشهاد من قول الإمام القلعي، المبالغ فيه: إن بفضله جرّت تريم على المجرة ذيلها عجبا … وأنه حوى علوم الشافعي والخليل وسقراط والإسكندر، وليس بعضها، بل كلها كما ينصُّ السياق النقدي: (الذي بفضله (جرّت تريم على المجرة ذيلها: عجبًا، وحق لها الفخار الأكبر) وحوت علومه (فقه ابن إدريس وإعراب الخليل وما حوى سقراط والإسكندر).
ثمّة مضمورٌ في الوعي الناقد يتفلت في هذه اللغة؛ يتجاوز مجرد انتقاد شنبل؛ لأنه قصّر كما يرى في ذكر وفاة الفقيه سالم بن فضل، في محاولة للتصغير والتبخيس كم ينصّ العنوان الذي ورد تحته هذا السياق النقدي.
تتبدّى علامات ذلك المُضمَر في ما ألحقه السياق من صفات التبجيل، والثناء للفقيه بن فضل، والانشغال اللا إرادي به، الذي نسي بسببه السياق أنه انتقل في الحديث إلى شخصٍ آخر، وهو الفقيه الورع أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي الحب، فظلّ يتحدث عن بن فضل خالقًا لَبسًا لدى القارئ. هذا الانشغال السياقي لم يقف عند هذا الحد. بل إنك إذا امتثلت الإحالة بعد اسم أبي الحب، تلقاها تشير إلى كتاب الكاتب السابق: (حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة)، تجد في المُحال إليه عنوانًا؛ كالآتي: الحياة العلمية في تريم في القرن السادس الهجري، يحوي هذا العنوان حديثًا تكلل بالثناء والألقاب العلمية، ليس لابن أبي الحب، كما يفهم كل قارئ للإحالة السابقة، بل للفقيه سالم بن فضل، في امتدادٍ لسيطرة هذا الاسم على الوعي الناقد، لما يسميه مشروع الرؤية، على مدى الكتابين معًا. الأمر الذي يكشف أن اتهام شنبل بالتبخيس والتصغير، في ذكر الفقيه سالم بن فضل مجرّد ذريعة، ومدخل يدخل منه السياق النقدي إلى مشروع التبجيل لهذه الشخصية، فالأمر يتجاوز نقد سياق منقوص، إلى كونه تأسيسًا لمشروع عام؛ بدا التصريح به، يسيل حبرًا وافرًا من لدن السياق النقدي.
كما ننبه القارئ بأنه إذا امتثل الانصياع للإحالة السابقة إلى كتاب (حضرموت بين القرنين…) ـ التي أوردها السياق النقدي حين قال: (انظر حديثنا عن هذا الفيلسوف والمتكلم المعتزلي الكبير صاحب قصيدة القوافي المشهورة في كتاب مشروع الرؤية: الحياة العلمية في تريم في القرن السادس الهجري. انظر: مفلح: نفسه ـ 206) ـ لن يجد في الصفحة المشار إليها حديثًا عن الفقيه سالم بأفضل، ولكنه سيجد العنوان المذكور: (الحياة العلمية في تريم في القرن السادس الهجري)، لكن الحديث عن الفقيه بن فضل ورد في الصفحة التالية(207)، وقد ورد اسم الفقيه سالم بن فضل فيها بثلاث صور؛ على النحو الآتي: (القصيدة الفكرية لشيخ الإسلام بافضل)، (وفيها وجدنا شيخنا بافضل)، (وفي هذا القول للإمام بافضل)(38).
إذن هذه التراكيب الثلاثة للاسم: (شيخ الإسلام بافضل) + (شيخنا بافضل) + (الإمام بافضل).
أولًا: هل أنصف السياق النقدي اسم الفقيه بافضل هنا؟!
ثانيًا: أليس الاسم الذي أورده شنبل: (الفقيه سالم بن فضل)، ذكر اسم الرجل (سالم) في حين لم يذكره، من ادّعى أنه له هنا منصف؟!
ثالثًا: ألا يسيطر على الوعي السياقي، بُعدٌ عقائديٌّ مذهبي هنا، باعتبار أنّ ألفاظًا مثل: (شيخ + شيخنا + الإمام), هي ما تنصف ذكر الفقيه، حتى على حساب اسمه (سالم)؟!
رابعًا: ألم يسقط المتحدث في السياق النقدي، في فخ المذهبية العقائدية، التي تُخرج نقدَهُ عن مسار البحث التاريخي، ذي الحيادية العلمية، حينما أدخل ذاتَهُ ضمن طرف من الأطراف المذهبية ـ هو الاعتزال هنا ـ حين قال في التركيب الثاني: (شيخنا)؟!
لأنه يصرح بمذهب الرجل، في السياق نفسه؛ قائلًا: (الفيلسوف والمتكلم المعتزلي الكبير).
وحين يصرح الصوت النقدي أن هذا الرجل شيخه: (شيخنا)، فهو يعلن إعلانًا صريحًا، باعتناق الكاتب مذهب الشيخ المعتزلي الكبير.
هنا ينكشف النسق المضمر العام, تحت نسق ما يسمّى مشروع الرؤية بأكمله ـ ونقد كتاب شنبل جزء منه ـ مشروع الرؤية الذي يَظهر مدافعًا عن نقاء تاريخ حضرموت، ضد من يسميهم (الأسلاف والأخلاف)، الذين قاموا بتزويره وطمسه ـ كما يدّعي ـ لكن هذا النسق الجمالي البارز العام هنا، تجلّى إخفاؤه لنسقٍ قبحيٍّ مضمرٍ، حاول السياق النقدي تمريره، تحت ذلك النسق العام؛ وهو الدفاع عن المذهب المعتزلي، ونبذ مشروع السنة والأسلاف وأخلافهم فقط؛ لمجابهتهم منهج المعتزلة، والأباضية، في وِجهةٍ لمشروع الرؤية نحو المذهبية، العقائدية، بعيدًا عن نقاء البحث التاريخي العلمي الأيبستيمولوجي المحايد.
وهو ما يقرأُه القارئ بجلاء في قول السياق النقدي: «فقد كانت تريم وحضرموت عامة تعج بنشاطٍ زهدي وعبادي مكثف، وهو مشهور عن المعتزلة والأباضية منذ بواكير ظهورهم، في التاريخ الإسلامي» (39).
ولسنا ندري أهو ضربٌ من المصادفة، أم تقصّدٌ عناه السياق النقدي، حينما أحال إلى الكتاب السابق، وهو يحيل إلى منزلة الفقيه سالم بن فضل، التي تم الحديث عنها، فإنّ الصفحة التي لم تحو ذكر الفقيه بن فضل ـ والتي أحال إليها السياق النقدي ـ حوت الإفصاح عن النسق المُضمَر العام الذي ذكره بحثنا آنفًا، حين قال مادحًا مذهب الاعتزال، ونكرانهم لمعجزات الرسول الكريم، وجميع الأنبياء: «ذلك أن المعتزلة في أية مرحلة من مراحل تطوّرهم الفكري، أو في دور قوتهم أو ضعفهم، إنّما كانوا يقدّمون العقل على النقل، وانطلاقًا من نزعتهم العقلية المتأصلة فيهم نراهم لا يقرون بالمعجزات إلا للأنبياء، ولا يقرون بالكرامات للأولياء، ولا يقرون الكثير من المعجزات المروية للرسول الكريم، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، ويعتبرون أن القرآن وحده معجزة نبي الإسلام»(40).
وإن كان السياق النقدي يبرّر للمعتزلة نكرانهم للمعجزات والكرامات؛ لأنهم ينطلقون من نزعتهم بتقديم العقل على النقل، فإنه سياقٌ يستوقف القارئ بعددٍ من عبارات المساءلة، منها:
أولًا: لم التناقض في سياق الفقرة السابقة؟!
فحينما يقول: “إن المعتزلة لا يقرون بالمعجزات إلا للأنبياء”، يقول في السياق ذاته: “ولا يقرون الكثير من المعجزات المروية للرسول الكريم”، ويقصد به نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلّم ـ سنتجاوز هنا عدم قوله: (رسولنا الكريم) مثلما قال (شيخنا) عن الفقيه سالم بن فضل المعتزلي الكبير ـ بوصف السياق النقدي ـ ونضع السؤال المنطقي:
أليس رسولنا الكريم نبيًّا؟!
لِمَ يقر المعتزلة بمعجزات الأنبياء، ولا يقرون بمعجزات رسولنا الكريم؟!
فلنقف أيضًا عند قوله: (ولا يقرون الكثير من المعجزات المروية للرسول الكريم، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، ويعتبرون أن القرآن وحده معجزة نبي الإسلام).
إذا بدأنا من حيث توقفت هذه العبارة، في قوله: (ويعتبرون أن القرآن وحده معجزة نبي الإسلام)، أي ينكرون السنة، فلنتجاوز ذلك أيضًا: قوله: (نبي الإسلام)، وعدم ذكر اسمه، أو إضافته إلى المتكلم، بقوله: (نبينا محمد)، مثلما قال عن بن فضل المعتزلي (شيخنا)، فلنتجاوز ذلك كلَّه؛ ونتساءل:
أليست معجزة انشقاق القمر معجزة قرآنية؟!، أم إنها ـ بنظر المعتزلة ـ سحرٌ مستمر؟!
قال تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ»(41)
فكيف يقول السياق النقدي: إن المعتزلة يعتبرون أن القرآن وحده معجزة نبي الإسلام، مباشرة بعد قوله: ولا يقرون الكثير من المعجزات المروية للرسول الكريم، مثل انشقاق القمر؟!
أليست معجزة انشقاق القمر معجزة قرآنية؟!
لا يخفى على قارئ فطنٍ لسياقات هذه اللغة النقدية، تبخيس وإنقاصٌ لمقام نبينا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الأمر الذي لم يظهر فيه حتى اسمه، هنا ولا إضافته لضمير أنا السياق النقدي، هنا مثل ما فعل مع الفقيه سالم بن فضل، الذي يرى أن وصفه بهذا الاسم، فيه تبخيس وتصغير(42)، الأمر الذي جعل السياق النقدي، يقر بإثبات المعجزات للأنبياء، ونكرانها لنبي الإسلام؛ كما يقول.
لعلنا ونحن نحلل السياق المُضمر الذي تكشّف في نهاية بحثنا نصل إلى أعماق الكره والعداء لدى باطن السياق النقدي لكلِّ من هو مجابِه منهج الاعتزال، وعلى الأخصّ الأسلاف والأحفاد، ومن تربطه بهم علاقة، كيف ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيّدُ الأسلاف والأخلاف.
لعلنا نجد حينها أجوبة مقنعة لتساؤلاتنا الأخيرة، التي تجافي تمامًا منهج البحث العلمي، المفتش عن الحقيقة في ذاتها، وليس في جهات ذواتها.
ولعلنا إذا ما نظرنا إلى ما يسمّى بـ (مشروع الرؤية) برمّته؛ في كتابَي الباحث سالم فرج مُفلِح، الأول والثاني؛ كونهما كتابًا واحدًا، يكمل الثاني الأولَ، كما صرّح بذلك الباحث نفسه(43)، فإنه بإمكاننا رؤية نسقين للكتابين، يرسم الكتاب الأول النسق البارز؛ ويتجسّد ذلك في عنوان الكتاب (حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة).
هذا النسق ـ حين تأليفه ـ كان يُضمر نسقًا آخرَ يتجلَّى في اتهام الأسلاف والأخلاف، بـ(التزوير واستلاب الهوية). وهو عنوان الكتاب الثاني لمشروع الرؤية المفلحية. فتنجلي وظيفة مشروع النقد الثقافي الغذامي في آليته النسقية، التي تهدف إلى كشف الأنساق المضمرة، المختبئة تحت أقنعة الأنساق الظاهرة وتعريتها، وعدم السماح بتمرير تلك الأنساق المضمرة؛ لأنّها إن مُرّرت وسوّقت تتحول في ذاتها إلى أنساق بارزة تضمر قبحياتٍ أعمق، وأشد قتامة؛ وما تحوُّل النسق المضمر لكتاب (حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة)، إلى نسق بارز هو اتهام الأسلاف والأخلاف بالتزوير واستلاب الهوية، في الكتاب الثاني (التزوير واستلاب الهوية)، إلا خير دليل على فعل الثقافة في تفريخ الأنساق من بعضها البعض. ولم يقتصر اتهام الأسلاف والأخلاف بذلك حسب؛ بل يتعدّى الاتهام إلى كون الأسلاف والأخلاف أدواتٍ تحقق مآرب الاستعمار البريطاني، كما يبدو في قوله: «ذلك أن خطاب مشروع الرؤية الواردة في كتابي الأول ـ وهو الأمر الذي لم أصرّح به حينها لأسباب ارتأيتها ـ وكتابي هذا ينتميان إلى خطاب الدراسات النقدية ما بعد الاستعمارية، وهو خطاب يهدف إلى كشف وتعرية الجرائم التي مارسها الاستعمار في حق شعوب المستعمرات، في المجال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، من حيث استهداف هويات تلك الشعوب وطمسها وتأزيم تطورها ونهضتها في جميع المجالات»(44). هنا يتجلّى مدى قتامة الأنساق المضمرة في منهج ما يسمّى بمشروع الرؤية.
ولأنّ المنهج النقدي المتبع لأي دراسة تفرضه طبيعة الحقل الإبداعي المدروس ـ إنْ أدبًا وإن نقدًا ـ فقد فرضت طبيعة بحث النقد الداخلي لكتاب شنبل، على بحثنا اتباع منهج النقد الثقافي، لما يقوم عليه من ثنائية الأنساق، الظاهرة الجميلة، والمضمرة القبيحة (بتعبير غذامي).
في الأخير حاول بحثنا تفنيد الأنساق البارزة المزيَّنة بالجماليات، والتي يسوّق من خلالها الخطاب النقديُّ ـ في ما يسمّى (مشروع الرؤية) ـ أنساقَه المضمرة، على منهج نقدي، ومشروع رؤية، كما أسماها الباحث سالم فرج مفلح، وعلى مدار بحثنا، تعامل مع المشروع المفلحي، على أنه (سياق نقدي)؛ ليخاطب بحثنا صوتًا نقديًّا بطريقة علمية، تنأى عن الشخصنة، فبحثنا لا يسائل الباحث بقدر ما يسائل سياقًا نقديًّا ناتجًا عنه، من باب النقد على النقد، كما أسلفنا في المقدمة: إن المشروع النقدي الثقافي ذاته، انطلق في مضمار المجال النقدي، حين جعل من نسق (اختراع الفحل)، وهو نسق نقدي استظلّ تحت ظلاله كتاب: (طبقات فحول الشعراء) لابن سلّام الجمحي، وهو من أهم الكتب النقدية التي صدّرتها الثقافة العربية.
فكما يرى الدكتور عبد الماجد عبد الرحمن: «فالتاريخ مثل الرواية تمامًا لا توجد قراءة واحدة صحيحة له، وقابل باستمرار للقراءة، والقراءة الجديدة، وهو يتسع على الدوام للتأويل المختلف»(45)؛ لذا لا نخفي ـ في الأخير ـ إعجابنا باختيار أسلوب نقدي داخلي من قِبل المؤلف مفلح يعاين النصوص التاريخية من داخلها، بعيدًا عمّا نقرأُه من أبحاث تاريخية حديثة في الزمان، لكنها تليدة الرؤيا، بحيث تقتصر على تدوير التاريخ، وهو أمر كفيل بإضعافه، وتعطيل وظائفه الفكرية المنتجة في العصر الحديث.
ونحن كباحثين نتوق لكشف كل الحقائق الخفية، أو المطمورة ـ إن وجدت ـ في تاريخ حضرموت، إن أثبت الدليل البحثي، والعلمي ذلك، وكشف كل من كان له يد في إخفاء تلك الحقبة التاريخية، التي يرى مشروع الرؤية أنه قد تعرّض للإخفاء والتحريف، وإن كان الزمن الثقافي في الوطن العربي ككل قد تعرض لفقدان في مراحل من مراحل تعاقبه كما يرى محمد عابد الجابري؛ متحدثًا عن التاريخ العربي أن القرون الوسطى تفتقد إلى ما يسبقها لتخلق وسطويتها، أما ما بين الثامن الهجري (الخامس عشر الميلادي)، والثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) فهي مدة تمثل حلقة مفقودة في التاريخ العربي(46)، أليس تاريخ حضرموت جزءًا من ذلك التاريخ العربي العام المفقود؟!، أليست أسباب فقدان التاريخ العربي عامةً، بعيدة عن تأثير من يَعنيهم السياق النقدي بالأسلاف والأخلاف؟!، فيكون اعتراف الجابري صك تبرئة للأخلاف، مما اتهموا به من قبل السياق النقدي؟!.
ونحن كباحثين لن نتوانى عن التسليم بكل فكر أو حقائق مثبتة علميًا، تتهم أي شريحة أو مذهب أو طائفة أيًّا كان بإخفاء أو تحريف حقائق تاريخية مثبتة؛ لأن حضرموت فوق الطائفية والمذهبية، لكن المؤسف أن هذه الوجهات الأيديولوجية هي من ترسم ملامح التاريخ، وفقًا وما يتماشى مع تياراتها منذ القدم؛ لذا لابد عند تقديم المعلومة التاريخية، أن تكون مبنية على مستندات وأدلة منطقية، مجرّدة عن الهوى الجهوي، حتى نضع القارئ على أرضٍ صلبة من التلقي، بعيدًا عن الميول الذاتية، والتمنطق العقائدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ النص والخطاب, جدل القراءة والمعنى: 144.
2ـ ينظر, النقد الثقافي: 77, 256.
3ـ السابق: 65.
4ـ السابق: 77.
5ـ ينظر السابق:77.
6ـ ينظر, النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين:
7ـ التزوير واستلاب الهوية: 7.
8ـ السابق: 18.
9ـ السابق: 135.
10ـ المدارس التاريخية: 34.
11ـ ينظر, علم البيان: 147.
12ـ التزوير واستلاب الهوية: 18.
13ـ السابق: 20.
14ـ ينظر تاج العروس: مادة (خ ر م).
15ـ السابق: 21.
16ـ السابق: 21, نقلًا عن: تحقيق النصوص ونشرها, عبد السلام هارون: 46.
17ـ تاريخ شنبل: 202.
18ـ السابق: 209.
19ـ المثقفون في الحضارة العربية: 107 ـ 108.
20ـ التزوير واستلاب الهوية: 21.
21ـ السابق: 21 ـ 22.
22ـ ينظر النقد الحضاري في الوطن العربي: 2/ 273.
23ـ التزوير واستلاب الهوية: 26.
24ـ السابق: 26.
25ـ السابق: 26.
26ـ ينظر لسان العرب: مادة (ش ن ب ل).
27ـ تاريخ شنبل: 14.
28ـ الأعلام: 3/ 177.
29ـ التزوير واستلاب الهوية: 34 ـ 35.
30ـ لسان العرب: مادة (خ و ق).
31ـ السابق: مادة (خ و ق).
32ـ التزوير واستلاب الهوية: 35.
33ـ السابق: 39.
34ـ تاريخ شنبل: 4.
35ـ التزوير واستلاب الهوية:42.
36ـ السابق: 47.
37ـ السابق: 49.
38ـ حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة:207.
39ـ السابق: 207.
40ـ السابق: 206.
41ـ سورة القمر: 1 ـ 2.
42ـ ينظر التزوير واستلاب الهوية: 49.
43ـ ينظر السابق: 7.
44ـ السابق: 8.
45ـ النص والخطاب جدل القراءة والمعنى: 164 ـ 165.
46ـ ينظر تكوين العقل العربي: 43 ـ 44.
مصادر البحث ومراجعه:
أولًا: القرآن الكريم:
ثانيًا: المصادر:
ـ تاريخ حضرموت، المعروف بـ تاريخ شنبل, المؤرخ أحمد بن عبدالله شنبل (ت: 920هـ), تحقيق: عبدالله محمد الحبشي، ط (2)، 1424هـ ـ 203م، مكتبة صنعاء الأثرية، اليمن.
ـ التزوير واستلاب الهوية: سالم فرج مفلح، ط (1)، 2018م، دار حضرموت للدراسات والنشر، حضرموت.
ـ حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة: سالم فرج مفلح، ط (1)، 2006م, دار حضرموت للدراسات والنشر، حضرموت.
ثالثًا: المراجع:
ـ الأعلام: خير الدين الزركلي، ط (7) 1986م، دار العلم للملايين، بيروت.
ـ تاج العروس من جواهر القاموس: محمد بن محمد بن عبدالرزاق الزبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية.
ـ التراث والحداثة دراسات ومناقشات: محمد عابد الجابري، ط (1)، 1991م، بيروت.
ـ تكوين العقل العربي: مجمد عابد الجابري، ط (8)، 2002م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان.
ـ جني الشماريخ، جواب أسئلة في التاريخ: علوي بن طاهر بن عبدالله الحدّاد (ت: 1382هـ)، دراسة وتحقيق د. محمد يسلم عبد النور، ط (1)، 1434هـ ـ 2013م، تريم للدراسات والنشر، حضرموت.
ـ الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها: علوي بن طاهر الحدّاد (ت: 1382هـ)، فهرسه وقدّم له د. محمد أبوبكر باذيب، ط (1)، 1438هـ ـ 2017م، دار الفتح للدراسات والنشر، الأردن.
ـ طبقات فحول الشعراء: ابن سلّام الجمحي، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني, 1974، القاهرة.
ـ علم المعاني: عبد العزيز عتيق، ط (1)، 1405هـ ـ 1985م، دار النهضة العربية، بيروت.
ـ لسان العرب: محمد بن مكرم ابن منظور، ط (3)، 1414هـ، دار صادر، بيروت.
ـ المثقفون في الحضارة العربية: محد عابد الجابري، ط (2)، 2000م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان.
ـ المدارس التاريخية من المنهج إلى التناهج: محمد حبيدة، دار الأمان، الرباط.
ـ النَّص والخطاب، جدل القراءة والمعنى: عبد الماجد عبد الرحمن، ط (1)، 2014م، مدارات، الخرطوم.
ـ النقد الثقافي: عبدالله الغذامي، ط (6)، 2014م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.
ـ النقد الثقافي: هيثم أحمد العزام، ط (1)، 2014م، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن.
ـ النقد الحضاري في الوطن العربي: أوراق مؤتمر فيلادلفيا الدولي الواحد والعشرين، 11 ـ 13 نيسان (إبريل), ط (1)، 2018م، فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن.
ـ النقد الحضاري للمجتمع العربي، في نهاية القرن العشرين: هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان.