ملف العدد
سالم القاضي باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 67
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
المقدمة:
لفهم حقيقة واقعنا الاجتماعي علينا أن نقرأ الأحداث التاريخية قراءة نقدية واعية كما حدثت في زمانها ومكانها، وما أعقبها من تحولات سياسية ومذهبية تسبَّبت في تقويض البنية الاجتماعية للمجتمع الحضرمي، وإعادة هيكلته من جديد في ظروف تاريخية غامضة وغير مفهومة، ولم نجد من بين الباحثين في الحقل التاريخي والاجتماعي من تناول تاريخ حضرموت بالنقد العلمي الموضوعي (التفكيك) غير الأستاذ سالم فرج مفلح في مشروع رؤيته، الذي يُعدُّ تحديًا قويًا وصارمًا، ولطمة نقدية في وجه الفاعلين الاجتماعيين من حملة الألقاب العلمية الكبيرة، من أنصار الرؤية السائدة.
ولمعرفة حقيقة ما جرى من أحداث فترة البحث والتأكد من صحتها، وفهم ملابساتها فهمًا موضوعيًا صحيحًا، ارتأيت أن أستوضح في هذه الورقة أهم حدث تاريخي تعرضت له حضرموت عبر تاريخها الإسلامي، فترة ظهور السلطان بدر أبي طويرق (902 -977هـ /1497-1569م)[1] على مسرح الأحداث التاريخية، وتنفيذ مشروعه السياسي بدعم ومساندة من قبل العثمانيين الأتراك (السنة)، وما أعقبه من تغيرات سياسية ومذهبية، كانت لها انعكاساتها الخطيرة على الواقع الاجتماعي الحضرمي. فقد كان السلطان بدر يرى في القوى المناوئة له من القبائل الحضرمية الأباضية خطرًا يهدد سلطته الزمنية، وليس لديه من القوة ما يكفي لهزيمتها والقضاء عليها، فظلت تشكِّل عائقًا أمام تحقيق طموحاته السياسية، وفرض سلطته الزمنية والدينية (المذهبية)، على كل التراب الحضرمي.
فحينها لم يكن أمامه غير اللجوء إلى الأتراك العثمانيين، ليستعين بهم في حربه على خصومه السياسيين من الأباضية والمعتزلة، بعد أن أقسم يمين الولاء والطاعة لسلطة الخلافة العثمانية في إسطنبول، وتعهَّد لها بالقضاء على الوجود الأباضي المعتزلي، وإخضاع حضرموت لتكون تحت الهيمنة والنفوذ العثماني.
ففترة حكم السلطان بدر أبي طويرق تُعدُّ من أهم الفترات وأخطرها التي مرت بها حضرموت، وتستحق من كل الباحثين أن يُعيدوا النظر فيما جرى فيها من أحداث تاريخية، وقراءتها قراءة موضوعية صحيحة، بعيدًا عن الأهواء الذاتية والمؤثرات النفسية والاجتماعية؛ كونها تسجل لأخطر حدث تاريخي تعرضت له حضرموت، تسبب في تحطيم بنيتها الاجتماعية، وأصابها بمقتل في تركيبتها السكانية التاريخية الأصيلة، نتيجة لتلك الأحداث.
وما سنتناوله في هذه الورقة تأثير الوجود العثماني في تقويض البنية الاجتماعية، في أثناء وبعد مشروع السلطان بدر أبي طويرق، وما ترتب عليه من انعكاسات سلبية، بقيت آثار تشوُّهاتها إلى اليوم.
– ظروف الوجود العثماني وملابساته في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي في حضرموت:
على الرغم من شحة المصادر وقلة المعلومات ونقصها، بخصوص الوجود العثماني (التركي) في حضرموت في أثناء فترة حكم السلطان بدر أبي طويرق، فإننا حاولنا بقدر المستطاع أن نجمع من بين أضابير الكتب والرسائل العلمية، ومن خلال ما قدم لنا مشروع الرؤية من معلومات عن تلك الفترة الزمنية وحقيقة ما جرى فيها من أحداث تاريخية، وفهم ملابساتها فهمًا موضوعيًا صحيحًا، بعد أن تمَّ طمس كل ما يتعلق بتاريخ الوجود العثماني في حضرموت وإخفاؤه، وما رافقه من تحولات سياسية ومذهبية واجتماعية، لا تزال آثار تشوُّهاتها باقية إلى اليوم. ولسدِّ ذلك النقص سوف نقوم بالمقاربة التاريخية بين أوضاع الجزائر العثمانية وحضرموت، في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي، في أثناء عهد السلطان بدر أبي طويرق.
بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس سنة 897هـ الموافق 1492م، قامت السلطات الإسبانية بحملة تنصيرية شعواء لإجبار مسلمي الأندلس على اعتناق المسيحية، فتتبعت من بقي على الإسلام بالقتل والتشريد، ونصبت لهم محاكم التفتيش، وحينها لم يكن أمام الأندلسيين إلا الفرار بدينهم إلى بلدان المغرب الإسلامي، ومنها الجزائر.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الخطر الإسباني يتهدد بلدان المغرب الإسلامي، بعد أن أخذ ملك إسبانيا بنصائح الكاردينال خمينس لملاحقة مسلمي الأندلس الفارين إلى بلدان المغرب، فبدأت غارات الإسبان وتحرشاتهم على سواحل المغرب الإسلامي، حتى وصلوا إلى صخرة (البنيون)[2] الواقعة في مدخل مدينة الجزائر، بعد احتلالهم لأكبر الموانئ والمدن الجزائرية. وحينها لم يكن أمام الجزائريين إلا أن يستعينوا بالأخوين بربروس عروج وخير الدين (الأتراك)[3]، ليعود الصراع من جديد ما بين الغرب المسيحي، والشرق الإسلامي، وخاصة بعد أن (ارتبطت الجزائر رسميًا بعاصمة الخلافة العثمانية سنة 1519هـ، وأضحى تولية الولاة من صلاحيات السلاطين العثمانيين وحدهم، وكان خير الدين بربروس أول حاكم أقرَّ السلطان سليم الأول تعيينه، ولتدعيم مركزه وسلطته بالجزائر أرسل السلطان العثماني للوالي الجديد في الجزائر ألفين من الجند الانكشاري، كما سمح للمتطوعين بالالتحاق هناك، وبذلك تشكَّلت النواة الأولى للجيش الانكشاري بالجزائر)[4].
وفي الفترة نفسها والتي تم فيها تنصيب خير الدين بربروس واليًا على الجزائر من قبل السلطان العثماني ودعمه عسكريًا لمواجهة الخطر الإسباني الذي يتهدَّد المغرب الإسلامي، ومنها الجزائر، كانت دولة الخلافة العثمانية تواجه خطرًا آخر في المشرق الإسلامي، بعد أن قام البرتغاليون بتجهيز حملاتهم الاستعمارية لمهاجمة سواحل وموانئ البحر الأحمر والمحيط الهندي، من أجل السيطرة الكاملة على طرق التجارة والتحكم فيها. ومن بين الموانئ التي تعرضت للغزو البرتغالي ميناء الشحر؛ والذي يقع وقتها تحت سلطة السلطان بدر أبي طويرق ونفوذه، وهو حليف الأتراك العثمانيين. وفي أثناء الغزو كان السلطان بدر مشغولًا بمحاربة القبائل الحضرمية من الأباضية والمعتزلة، بعد تحوُّله عن مذهب الاعتزال – المذهب التأسيسي لدولة آل جعفر الكثيرية[5] – إلى مذهب ومعتقد الدولة العثمانية (التصوف القبوري).
ولدعم سلطته السياسية وتعزيزها تمَّ تعيينه من قبل العثمانيين الأتراك حاكمًا على حضرموت بموجب فرمان الباب العالي في إسطنبول، ليشمل حكمه أكبر مساحة من جنوب الجزيرة العربية، من عُمَان شرقًا إلى باب المندب غربًا، ودعمه سياسيًا وعسكريًا، لمواجهة ما يتهدد حكمه من أخطار داخلية وخارجية.
وفي السنة نفسها التي ارتبطت فيها الجزائر بعاصمة الخلافة العثمانية سنة 1519م[6]، كان وصول أول قوة من الجيش العثماني التركي الانكشاري إلى حضرموت بقيادة رجب التركي، مجهزة بالأسلحة النارية، وكان ذلك أول ظهور للسلاح الناري في حضرموت[7]. وقد أُوكلت إلى تلك القوة العثمانية في حضرموت القيام بمهمتين أساسيتين:
المهمة الأولى:
تتمثل في حماية السواحل والموانئ الحضرمية وتأمينها، وما قد تتعرض له من أخطار خارجية في الوقت الذي كانت فيه أساطيل البحرية البرتغالية تجوب مياه البحر الأحمر والمحيط الهندي مهدِّدةً بذلك طرق الملاحة العربية والإسلامية.
المهمة الثانية:
القضاء على القوى غير السنية من (الأباضية والمعتزلة) المعارضة لحكم السلطان بدر أبي طويرق ومشروعه السياسي الجديد، والعمل على تثبيت سلطته السياسية والمذهبية على كل التراب الحضرمي.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت حضرموت (البدرية) تخضع خضوعًا كاملًا لسلطة الخلافة في إسطنبول، بل تُعدُّ ولاية من ولايات الدولة العثمانية.
وما حصل في حضرموت هو نفس ما حصل في الجزائر تمامًا فقد (جلبت مدينة الجزائر باعتبارها القطب الغربي للدولة العثمانية بعد إسطنبول أنظار الراغبين في الجاه والمال والوظائف، وهكذا توافد عليها الفقهاء والعلماء والدراويش، كما أمّها المغامرون من كل صنف)[8]. ويبدو أن سلطة الخلافة العثمانية في إسطنبول قد اعتمدت في سياستها تجاه الأقطار العربية الواقعة تحت سلطتها الاستعمارية سياسة (الإقصاء والتهميش) لاستهداف الهُوية العربية، من خلال جلب أعداد بشرية كبيرة من ذوي الأصول غير العربية، قامت بتوطينهم داخل المجتمعات العربية.
وقد (عملت التركيبة العثمانية التركية من ناحية تكوينها الاجتماعي والعرقي طوال تاريخها على إبقاء الأهالي بعيدين عن أي إسهامٍ في أمور النيابة، وحالت دون إمكان اندماج أفرادها بالأوساط الشعبية، وقد يفسر هذا الإحجام عن الاندماج بالسكان إلى رغبة العثمانيين الأتراك في إبقاء هيمنتهم وسيطرتهم على المناصب الحكومية، وزاد حقد الرعية تجاه هذه الطبقة الغريبة لما فرضته من ضرائب وغرامات)[9].
وهذا ما حصل بالفعل في حضرموت، فبعد أن سيطرت قوات السلطان بدر أبي طويرق المدعومة من قبل العثمانيين الأتراك على المدن الكبرى في ساحل ووادي حضرموت، قررت دولة الخلافة في إسطنبول إرسال دفعة أخرى من الجنود والمتطوعين لغرض تأمين المدن، التي تمت السيطرة عليها.
ففي سنة 937هـ /1530م توقفت حملة القائد التركي مصطفى بيرم المتجهة إلى الهند في ميناء الشحر، لإنزال دفعة جديدة من القوات العثمانية مكونة من 100 جندي بقيادة صفر سلمان، ترافقهم عوائلهم[10].
ويبدو أن هذه القوة لم تأتِ للقيام بمهمة قتالية فحسب كما تذكر بعض المصادر التاريخية الحضرمية، بل جاءت لاستيطان تلك المدن الحضرمية، بعد أن تم إفراغها من سكانها الأصليين (القبائل)؛ وإجبارهم على الفرار منها إلى رؤوس الجبال؛ ليعودوا إلى حالة البداوة بعد التحضّر، الأمر الذي أدى إلى ميلاد مجتمع حضرمي آخر غير المجتمع التقليدي القبلي الذي كان سائدًا قبل مشروع السلطان بدر.
– طبيعة الحياة الاجتماعية في المدن بعد التغييرات التي أحدثها الوجود العثماني:
تتأسس معرفتنا بالهوية الحضرمية والتاريخ الحضرمي على السيادة الاجتماعية للأباضية والمعتزلة حتى نهاية القرن العاشر الهجري لتدخل بعدها حضرموت تحت مظلة التصوف القبوري، بعد أن تعرض الوجود الأباضي والمعتزلي لضرباتٍ عدَّةٍ قاصمة على يد السلطات (الصوفية)، وإجبارهم على التصوف القبوري، فإن الصراع ظل خفيًا مع القوى الصوفية وسلطاتها، وقد استمر حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، وفي هذا القرن تمكنت القوى الصوفية من فرض نفوذها وهيمنتها الدينية في المجتمع بشكل كامل من خلال الأربطة الدينية، بنهجها الصوفي القبوري، وفيها تم وضع الأسس التنظيمية والفكرية للتراتبية الاجتماعية السائدة اليوم، بعد أن كانت حضرموت عثمانية كما شهد بها الإمام السخاوي المتوفى سنة 902هـ، والتي تعني المساواة بين الناس إلا بالتقوى[11].
هذا التحول الصوفي والتراتبي الذي كانت بداياته الأولى مع الوجود العثماني بداية القرن العاشر الهجري في عهد السلطان بدر أبي طويرق، انحدر بحضرموت من عقلانية وبيانية الأباضية والاعتزال، إلى التصوف القبوري، ومن العثمانية التي لا تميز بين الناس إلا بالتقوى، إلى مهاوي التراتبية المقيتة، التي مزقت المجتمع الحضرمي شر ممزق، ولا يزال يعاني ويلاتها إلى اليوم.
كل هذه المتغيرات لا بد أن تعكس وجودها في مجتمعات المدن الحضرمية (دون البوادي)؛ سلوكًا وأفكارًا بعد غلبة المستوطنين الجدد ومن تبقى في المدن من سكانها الأصليين؛ من فلاحين، وعمال، وحرفيين، بالإضافة إلى العناصر الأخرى من فرس وأفغان والذي كان وجودهم منذ بدايات العصر المعتزلي في الأقل. ونحن هنا نحاول أن نرصد بعضًا من تلك التغييرات:
1- إعادة تشكيل وعي المدن بهويتها وتاريخها وثقافتها:
لقد عمل المُتسيِّدون على طمس الهُوية التاريخية الحضرمية وتدميرها، بعد أن قاموا بكتابة تاريخ وهمي مُتخيَّل، واختلاق مصادر تاريخية منحولة ومزوَّرة لتحلَّ محل التاريخ الحقيقي لحضرموت، وبما يتناسب مع الوضع الديمغرافي الجديد، بعد أن تم إخلاء مدن حضرموت من سكانها الأصليين، لتصبح تجمعًا سكانيًا لتلك الجماعات الوافدة، وأبعد من أن تكون وطنًا لهم.
وهذا ما يفسر أزمة الهُوية، وما يلزم عنها من ضعف الولاء الوطني لتلك المجتمعات المستحدثة عبر تاريخها اللاحق، بعد إعادة هيكلتها اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، إضافة إلى التمزق الاجتماعي الغالب على تلك المدن، بحكم حداثتها وما مارسه المُتسيِّدون من إرهاب رمزي على سكانها.
ولكي تبقى لهم السيادة والهيمنة داخل مجتمعات المدن فقد عملوا على طمس الذاكرة التاريخية للمدن (المكان) وتغييرها، من خلال استبدال أسماء الكثير من المعالم الأثرية، ومنها المساجد والمقابر وبوابات المدن (السدد)، التي أدَّتْ دورًا كبيرًا لتشكيل الوعي الفردي والجماعي للمجتمع. وإطلاق أسماء لا تمت بصلة للهُويات التاريخية للمدن الحضرمية. فقد أصبحت مدينة خلع راشد التاريخية تحمل اليوم اسم حوطة أحمد بن زين الحبشي المتوفى سنة 1145هـ، بما يعني أن الهدف هو تغيير معالم المدن الحضرمية ثقافيًا واجتماعيًا وديمغرافيًا، واستبعاد أصالتها التاريخية تمامًا. وليس هذا وحسب بل والتأسيس لأصالتهم المزعومة، وهو الوضع السائد إلى اليوم، وما افتتاح مسجد الإمام جعفر الصادق[12] في منطقة مريمة سنة 1441هـ، وهي المنطقة التي اُستشِهد وقُبِرَ فيها الإمامُ والسلطان عبد الله بن راشد القحطاني المتوفى سنة 616هـ، إلا شاهد آخر على مدى ما تعرض له المكان الحضرمي من طمس وتشويه لهويته التاريخية إلى اليوم، لتستمر لهم السيادة والسيطرة الكاملة على المجتمع. وقد ترتب على ذلك أن هيمنت عائلات وأسر معينة على المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، واختارت لنفسها موقع السيادة الاجتماعية على الأقل، وأصبح يطلق عليهم (الأسياد)، ليمارسوا سطوتهم على كل مناحي الحياة. وقد عملت هذه الجماعات المُتسيِّدة والمهيمنة على تسميم العيش المشترك بين بقية فئات المجتمع، وخلق الانقسامات والصراعات والانشقاقات فيما بينها.
ولتدوم لهم الهيمنة والسيطرة على مجتمعات المدن، لجأوا إلى استخدام الفكر الديني الخرافي لتعزيز مكانتهم وفرض هيمنتهم، ليكونوا هم الأسياد، وبقية فئات المجتمع عبيد لهم. وطالما أن المجتمع الحضرمي بكل مكوناته وفئاته وطوائفه ملتزم بتقبيل أيدي (المُتسيِّد) ورُكَبِهِ، فإن هذا يعني أن المجتمع يتكون بشكل أساسي من فئتين لا ثالث لهما: أسياد وعبيد، وما فرضوها من تمايزات وتقسيمات اجتماعية أخرى (مشايخ، قبائل، قرويين، عبيد، صبيان…إلخ) في المجتمع لا تستحق أن تكون إلا تقسيمات هامشية، وبمثابة الحواشي على المتن.
2- أزمة الأنساب واستحالة التأصيل:
بفعل صراع المصالح بين الأفراد داخل مجتمعات المدن، تتم عملية استقطابات تؤدي إلى تكون الجماعات والطوائف، ثم إن صراع المصالح الذي كان بارزًا بين الأفراد ينتقل ليكون صراعًا بين الجماعات والطوائف، وهنا تبرز حاجة تلك الجماعات إلى التمايز فيما بينها. ولكي تتم عملية التمايز بين تلك الجماعات، كان لا بد من صناعة سردية تاريخية تؤصل لها، وتطمس حقيقتها التاريخية تماما؛ سردية تطمس وتمحو أزمة فقدان الأصالة عند تلك الجماعات المتصارعة فيما بينها على السيادة الاجتماعية والثقافية، داخل مجتمعات المدن. إلا أن السيادة الكاملة لا يمكن أن تتم في مجتمع عربي كمجتمع حضرموت إلا بوجود مكمل ثالث مهم وهو المكمل النسبي. فالسيادة بشقَّيْها الاجتماعي والثقافي تظل مجروحة في حال فقد الأصالة الوطنية والنسبية، وهو ما تفتقر إليه تلك الجماعات، ما جعلها تختلق حكايات ملفَّقة لأجداد مُفترَضين، بعد أن قامت بتزوير أنسابها بعناية فائقة، واختارت كل جماعة من تلك الجماعات سلفًا مُتخيَّلاً لها ليمنحها الأصالة الوطنية والنسبية. وهذا ما ظهرت تجلياته بشكل واضح وصريح في سردياتهم التاريخية المنحولة، من خلال تلك النصوص التي تحاول ربط أصولهم العرقيّة بالأصل العربي. إلا أن هذه السرديات الهزيلة سرعان ما ينكشف زيفها وبطلانها، ولا تستطيع أن تصمد أمام البحث التاريخي والنقد العلمي، وهذا ما جعلهم يحيطونها بشيء من القداسة الدينية والسطوة الروحية المشرعنة لسيادتهم. بعد أن سعت كل جماعة من تلك الجماعات لصناعة سرديتها التاريخية على الأصولية العربية والإسلامية في أبهى صورها وتجلياتها، فكان أن طغت الهاشمية، والقرشية، أو الانتساب إلى الصحابة، لتحتل مكان الصدارة في مدوناتهم التاريخية.
ومما يُؤسَفُ له أنْ أصبحت تلك الهُوِيَّات المُتَخَيَّلة والمنحولة لتلك الجماعات الطارئة على المجتمع هي مركز الهُوِيَّة والتاريخ الحضرمي وحقيقته، وما يؤكد ذلك ما جاء في هامش مقدمة ديوان ابن شهاب حيث يقول: (وليس لحضرموت في التاريخ ما تمدح به، لولا وجودهم بها – ويقصد قبيلته العلويين – وأما قبل ذلك فأمور تُطوَى ولا تُروَى، ولو لم يكن إلا ذبحهم بقية أبناء الأنصار والمهاجرين بالمدينة المنورة، كأنهم غبطوا آل حرب على وقعة الحرة، فالحمد لله الذي طهَّر حضرموت بالطاهرين، عترة سيد المرسلين). وكذلك المؤرخ صالح بن علي الحامد في استعراضه (لفضائل جماعته العلويين)، ودورهم في النهضة العلمية التي شهدتها حضرموت في القرن السادس الهجري بقوله: (وما ذاك إلا لأن المجتمع الحضرمي قد حقن بعنصر بعث فيه روح الحياة والمعرفة، وتدل المصادر التاريخية على ما لا يقبل الريب من أن العلويين كانوا الأداة الفاعلة التي وسعت للحضرمي مجال تفكيره).[13]
وهذا محض تزييف للحقيقة، ففي تلك الفترة من القرن الخامس والسادس لم يكن لقبيلة المؤرخ صالح الحامد أي حضور تاريخي يُذكر، إلا إذا كان الرجل يعرف الحقيقة المغيَّبة كما نعرفها اليوم، ويقصد بالعنصر الذي بث روح الحياة والمعرفة في المجتمع الحضرمي، أسلافهم القدماء من آل أكدر وآل حاتم البلخيين، فهنا يكون قوله مقبولًا وفيه شيءٌ من الصحة، فهاتان الأسرتان العالمتان كانتا من الأسر التريمية المشهورة بعلمائها وأئمتها في ذلك الوقت. كذلك ما قاله المؤرخ الشاطري: إن العلويين في فترة متقدمة من تاريخهم كان يُعرف علماؤهم بالأئمة، ولعله يعني بقوله هذا أسلافهم من آل حاتم وآل أكدر البلخيين، (نسبة لإقليم بلخ في أفغانستان).
ففي تلك الفترة عرفت مدن حضرموت الكبرى نشاطًا علميًا كبيرًا فترة عصرها المعتزلي وفي عهد الدولة الراشدية تحديدًا، وكما تُحَدِّثُنا المصادر بأن في تريم وحدها اجتمع في وقت واحد، ومن أسرة واحدة من آل حاتم البلخيين، قرابة الخمسة والأربعين عالمًا، وفي هذا دليل على الزخم العلمي الذي عاشته حضرموت في تلك الفترة، وفيها وُضعت الأساسات الأولية لتغيير أنماط الحياة البدوية السائدة في مدن حضرموت الكبرى، واستبدالها بأنماط أكثر تحضُّرًا، رافقتها تحولات سياسية واجتماعية وثقافية كبيرة، كانت فيها مدن حضرموت وفي القرن السادس تحديدًا، تعيش أبهى عصورها وأزهاها.
وما يتضح لنا من كلام المؤرخين العلويين الحامد والشاطري، إضافة إلى ما أكَّدته الفحوصات الجينية ألـ DNA أن هاتين الأسرتين العالمتين، هم الأسلاف الحقيقيون لآل باعلوي، وبعض الأسر الحضرمية الأخرى كآل بن لاذن، وآل بانافع، وآل طرموم، وغيرها من الأسر الحضرمية، بعد أن تم فحص أعداد كثيرة من أبناء تلك الأسر الكريمة، وظهور نتائج فحوصاتهم تحت سقف السلالة الجينية G[14]. ومن المعلوم أن هذه السلالة تكونت في المنطقة المحصورة ما بين الجزء الشمالي من الشرق الأوسط، ومناطق باكستان وأفغانستان.
وقبلها لم يكن يعرف آل باعلوي وغيرهم من الأسر الأخرى كآل الخطيب وآل باعباد وآل باوزير وآل إسحاق وآل باجمال (بالسيادة والمشيخة) إلا نهاية القرن العاشر الهجري وما بعده.
ويبدو لي أن هذا التحول كان متزامنًا مع الوجود العثماني وانقلاب السلطان بدر أبي طويرق، وانتشار التصوف على يد الأتراك العثمانيين داخل مجتمعات المدن الحضرمية، واعتناق تلك الجماعات للتصوف (الوظيفي) بعد أن تخلوا عن معتقداتهم الأباضية والمعتزلية؛ ليتخذوا من التصوف غطاء لهم؛ لفرض وجودهم الاجتماعي، بعد أن برز منهم مشايخ طرق، كانت لهم نشاطات تربوية ودينية؛ لتعزيز سلطتهم الروحية في المجتمع، وصار لهم أتباع ينقادون لهم انقياد المريد الأعمى.
ومن هنا بدأ التحول التدريجي لدى تلك الجماعات، ومنهم آل باعلوي بعد أن أدركوا ما للنسب من أهمية وتأثير في إثراء رصيدهم المجتمعي، فعملوا على اختلاق سردية تاريخية تؤصِّل لهم، وتربط نسبهم مباشرةً بالنبي محمد عن طريق أحمد بن عيسى العريضي، ليميزوا أنفسهم عن بقية الجماعات الأخرى من المشايخ، والذي بدورهم قد عملوا على تزوير أنسابهم، بعد أن قاموا برفعها إلى كبار الصحابة من الأنصار والمهاجرين.
إلا أن آل باعلوي في تلك الفترة لم يُعرفوا بالشرف والسيادة، حتى بعد ادعائهم النسب الهاشمي، وكان يُطلق عليهم (المشايخ آل باعلوي) كغيرهم من الأسر المتصوفة الأخرى، ولم يعرفوا شيئًا من هذه الألقاب التبجيلية السائدة اليوم كـ (سيِّد وحبيب) إلا في فترة متأخرة جدًا، قد لا تتعدى مئتي سنة في أكبر تقدير، وقد مثَّلت تلك الألقاب التبجيلية التي يصدّرون بها أسماءهم البدايات الأولى لترسيم الحدود، ووضع الفواصل الاجتماعية بينهم وبين بقية فئات المجتمع الأخرى، ولتكن لهم علامة فارقة تميزهم عن بقية مشايخ حضرموت ومتصوفيها.
وفي ظل الصراع على المكانة الاجتماعية بين تلك الجماعات المُتسيّدة، ذهبت كل جماعة من تلك الجماعات تشكِّك في صحة سردية الجماعات الأخرى وأنسابها، بل قد استدعى الأمر إلى طمس الأصول القبلية لبعض القبائل الحضرمية الأصيلة. وكما يقول المؤرخ علوي بن طاهر الحداد: إن (أنساب عدد من القبائل والمشايخ وغيرهم على غير المشهور بين الناس)[15]. فالرجل مطلع على الكثير من الخفايا والأسرار، ويمتلك المعلومة من مصادرها الحقيقية، وقد أثبت علم الجينات الوراثية الحمض النووي ألـ DNA علميًا صحة هذه المقولة، بعد أن أظهرت نتائج الفحص الجيني لتلك القبائل والأسر على التحورات العربية الحضرمية، على غير ما هو مشهور ومتداول بين الناس؛ من قرشية قبيلة آلـ العمودي الكندية، وهمدانية قبيلة آلـ كثير الصدفية، وغيرها من القبائل الحضرمية الأخرى، التي أكد الفحص الجيني عراقتها وأصالتها الحضرمية. على عكس الأسر الدخيلة والطارئة على المجتمع، والذي أظهرت نتائج الفحص الجيني حقيقتها على غير ما هو مشهور ومدوَّن في سردياتهم التاريخية؛ من أنساب هاشمية وقرشية، بعد أن أثبت علم الجينات زيف تلك الأنساب وبطلانها، ومنها نسب قبيلة المؤرخ طاهر بن علوي الحداد نفسه.
وفي ظل ما يشهده العالم اليوم من تقدم علمي فقد صار بالإمكان معرفة الانتماءات القبلية والأسرية وتحديد سلالاتها النسبية، وارتباط بعضها ببعض وتباعدها، ومعرفة أصولها العرقية، بصورة واضحة لا تقبل الشك.
3- الممارسات الاجتماعية في مجتمعات المدن والسلوك المجتمعي:
بعد أن استوضحنا الصورة عن بعض العائلات والأسر وتسيُّدها على بقية فئات المجتمع الأخرى من سكان المدن، وما ترتب عليه من تمايز مجتمعي وتراتب طبقي، قسم المجتمع راسيًا في ثنائية حادة إلى (أسياد وعبيد)، تسلط فيها الأسياد على بقية فئات المجتمع الأخرى، بعد أن كانت لهم السيطرة الكاملة على المشهد الثقافي، والسياسي والاجتماعي، لتتم لهم بعد ذلك الهيمنة الفكرية، والسيادة المجتمعية، على غيرهم من سكان تلك المدن.
ولفرض وتعزيز مكانتهم في المجتمع، فقد عمدوا على التأثير في ذهنية الضحايا وفكرهم من المُهيمَن عليهم، حتى أوقعوهم في أَسْرِ تعاليمهم، ومن خلال ما يروجونها من أساطير، تشرعن لهم سيادتهم المزعومة داخل مجتمعات المدن، وترسخ الإيمان بأفضليتهم وقداستهم لدى تلك الجماعات المُستلَبة، (وأنهم هم وحدهم من تكمن فيهم القداسة دون غيرهم من بقية فئات المجتمع الأخرى…) ولهذا، فهم يميزون أنفسهم عن الآخرين في الأسماء والملبس والتزاوج[16].
أ -الأسماء:
لقد حرص المُتسيِّدون في مجتمعات المدن، على تمييز أنفسهم من غيرهم من أفراد المجتمع بكل فئاته وطوائفه، في اختيارهم للأسماء والألقاب والكُنى التبجيلية والغريبة أحيانًا؛ كـ (علوي، وطه، وعبد الرحمن، وعبد الإله)، وغيرها من الأسماء والألقاب المتميزة. – بعد أن منعوا غيرهم من أن يتَسمَّوا بها، وجعلوها حكرًا عليهم دون سواهم.
فكانوا يختارون أسماءهم وألقابهم بدهاء وعناية فائقة، لتتوافق مع ما يدعونه من تميز عرقي، وقداسة فرضوها بأسلوب العنف الرمزي.
ولم يقتصروا على ذلك وحسب، بل الأخطر من ذلك الأسماء والكُنى والألقاب التبخيسية التي ألصقوها وفرضوها على فئات المجتمع الأخرى؛ كـ (مبيريك، حميّد، سويلم، سعيّد، عويضان، عيضة، صويلح)، وغيرها من الأسماء والألقاب المشينة، وما أحدثتها من تأثيرات نفسية على تلك الجماعات المُهيمَن عليها اجتماعيًا، لتكرس الانطباع لدى الأجيال بأنهم أدنى منهم مكانة، ولترافقهم طوال حياتهم، وبعد مماتهم يورثونها لأبنائهم وأحفادهم. وتلك مأساة عاشتها ولا تزال تعيشها تلك العائلات والأسر إلى اليوم.
وكما يقول ديفيد تسو، عالم النفس في جامعة أريزونا الأمريكية، والذي أجرى دراسات حول ما يُعرف اليوم بعلم النفس المتعلق بالأسماء: إن “الاسم يشكل ركيزة أساسية للغاية للتصور الذي يكوّنه المرء عن ذاته، خاصة على صعيد علاقاته بالآخرين، وذلك لأنه يُستخدم لتعريف الفرد والتواصل معه بشكل يومي”.
وفيما عبَّر عنه شاعر الهُوية الحضرمية خميس كندي ما يغني ويكفي، في شرح الحالة الاجتماعية المتردية داخل مجتمعات المدن الحضرمية، وما مُورس فيها من ظلم واضطهاد، وقمع لفظي بحق تلك الفئات المهمَّشة، ليرسم لنا من خلاله لوحة تختزل كامل المشهد، وفيه يعبِّر عن استيائه وامتعاضه من تلك الممارسات المشينة، إذ يقول:
وتـدخَّــلوا فـي اسمه وفـي قـوته وحتى في كـسـاه
عـبـيـد لا يمكــــــــــن يسمَّى عندهــــــم عبـد الإلـــــــــه
وكذلك ما جاء في بيت الشعر الشعبي الذي يقول:
بـعــــــــــض الأسـامــــــــي ما تجـيــــب إلا الـمــــــرض
علـوي في الـضعفـــــــــــاء وفي الـسادة عــــــــــوض
وفي هذا البيت مثال واضح وصريح لما يُمارس من إهانات، وتحقير وتصغير لبقية مكونات المجتمع، وهو يعبِّر بلسان قوى الهيمنة والنفوذ، وفيه ما يكفي لإدانتها فيما ارتكبت من عنف رمزي بحق الفئات الأخرى. ويهدف من ورائه إلى توجيه بوصلة الاختيار لدى فئة من عرفوا بالأسياد، وبقية أفراد المجتمع بكل مكوناته وفئاته، لتختار كل فئة الاسم الذي يتناسب مع واقعها الاجتماعي السائد.
وما حصل في حضرموت لم يحصل في أي بلد عربي آخر غير الجزائر، بعد أن قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بممارسة نفس الأفعال التي مارسها المُتسيِّدون في مجتمعات المدن الحضرمية.
وبهذا الخصوص يقول جمال يحياوي، الأستاذ في جامعة الجزائر: إن السلطات الفرنسية فعلت ذلك عن وعي بغرض الضغط النفسي المستمر على الجزائريين.
ومن الألقاب المشينة التي فرضتها السلطات الفرنسية على الجزائريين؛ «بوراس»، «بوبغلة»، «بوذراع»، «بوكراع»، «بومنجل»، «بومعزة»، «لطرش»، «حمار»؛ هذه ليست أسماء حيوانات، أو أوصاف بعض الأعضاء البشرية، بل هي أسماء لعائلاتٍ جزائرية ذهبت ضحيّة لواحدة من أبشع جرائم الاحتلال الفرنسي المستمرة منذ أكثر من قرن.
وقد رفعت آلاف العائلات الجزائرية دعاوى للقضاء، بهدف تغيير أسمائها الموروثة منذ العهد الاستعماري.
ومن بين من تقدموا لتغيير ألقابهم؛ عائلة «بوذيل» ومعناها بالعربية «أبو ذنب»، و«تيغيدات» وهي عبارة بربرية تعني أبو العنزات، و«مهبول» وتعني مجنون، و«حمار» و«بو بغلة» و«حفيان» و«بن نعجة» و«بوبنيدر» ومعناه أبو طبل، وغيرها من الألقاب التبخيسية والمشينة التي أطلقتها إدارة الاحتلال على عائلات جزائرية عند توزيع الألقاب دون استشارتها. إلا أن ما تم فرضه من ألقاب قبيحة على الأسر والعوائل الجزائرية، يعرف الشعب الجزائري اليوم متى وكيف ولماذا فرضت هذه الألقاب، ومَن هي الجهة المسؤولة التي فرضتها، بعد أن تمَّ توثيقها رسميًا في كشوف السجلات المدنية، والتي ورثتها الدولة الجزائرية المستقلة من الاستعمار الفرنسي. بعكس ما مارسه المُتسيِّدون بحق مجتمع حضرموت، فأنه لم يتم توثيقه، ولا يُعرف متى وكيف حدث؟
ويبدو أن الطريقة والأسلوب المتبع في فرض هذه الألقاب والأسماء المشينة في حضرموت، كان مختلفًا تمامًا عمَّا حصل في الجزائر، وقد تمَّ فرضها وتمريرها عن طريق العنف التربوي والثقافي الناعم، (تصوف الاستعباد) وهذا ما جعل الغالبية من حاملي هذه الألقاب والأسماء القبيحة لا يرون فيها ما يعيب، ويُعِدُّونها جزءًا من موروثهم الاجتماعي والثقافي. حتى أنَّ بعضًا منهم قد يتوهَّم أنه يمتلك حريته في اختيار الاسم واللقب الذي يريده لنفسه أو لأبنائه، إلا أنه لا يعرف أن هناك قيمًا اجتماعية مضمرة تقيده، وتفرض عليه الاختيار في فضاء محدد لا يستطيع الخروج منه وتجاوزه، من دون أن يشعر بهذا القيد الذي يقيد حرية الاختيار عنده.
ب -اللباس:
تكمن أهمية اللّباس لدى الجماعة المُتسيِّدة في كونه أحد مقومات الشخصية الفردية، ورمزًا من رموز انتمائها وانتسابها إلى الفئة المتميزة والمهيمنة، صاحبة السلطة والنفوذ الروحي في المجتمع. ولهذا فهم كما يميزون أنفسهم من غيرهم في الأسماء والألقاب، كذلك في الهيئة واللباس، لتكون لهم شارة يُعرفون بها تميزهم عن الآخرين. وقد جاء في كتاب (أشراف حضرموت ودورهم في نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا)، للدكتور محمد حسن العيدروس ما نصه: (ومن الجدير بالذكر أن علماء حضرموت كانوا يرتدون الأزياء والعمائم الخضراء الشبيهة بعلماء فارس، وهذا التشابه راجع إلى أنهم من أصل واحد تقريبًا، وأن الذين يلبسون الثياب الخضراء غالبًا ما يكونون من آل البيت)[17]. والمقصود بعلماء حضرموت هم علماء العلويين، وليس كل علماء حضرموت من الفئات الأخرى. وللون الأخضر عند تلك الفرق من الجماعات الدينية رمزية وقداسة خاصة، ويرتبط بالكثير من المعتقدات الخرافية، والأوهام والغيبيات والأساطير التي يعتقدون بها.
ج-التزاوج:
وفيما يخص التزاوج والمصاهرة مع فئات المجتمع الأخرى، فإنهم لا يقبلون بها، بل يحرمونها وفقًا لمعتقداتهم الكمونية الحلولية، لذلك فهم يشترطون فيمن يتقدم لطلب الزواج منهم الطهارة العرقية فيما يخص الكفاءة النسبية، كشرط أساسي من شروط الزواج، والذي لا يتوفر في غيرهم من أبناء المجتمع بكل فئاته وطوائفه.
وعليه فهم لا يقبلون بتزويج غيرهم من عامة أفراد المجتمع ومصاهرتهم؛ ليحافظوا على نقائهم العرقي من جهة، ومكانتهم التي فرضوها داخل مجتمعات المدن عن طريق العنف الرمزي من جهة أخرى؛ كون الاندماج في المجتمع عن طريق المصاهرة قد يفقدهم عزلتهم وقداستهم الروحية، وبالتالي يخسرون هيمنتهم وسيادتهم على المجتمع كجماعة وظيفية لها غوابي أسرارها[18].
ولقد بالغ بعض منهم في تحريم الاختلاط ببقية فئات المجتمع الأخرى عن طريق التزاوج، وعَدَّ زواج العلوي بغير العلوية لا تنطبق عليه شروط الزواج، وفي حال حدوثه يكون حكم المرأة من غير العلويين المتزوجة من العلوي حكم الأَمة ملك اليمين – لعدم التكافؤ النسبي – وفي حال الإنجاب منها تسمى بأم ولد.
ولهذه الأسباب مجتمعة وغيرها، فقد حرصوا أن لا يشاركهم أحد في هذه المحددات الثلاث (الاسم – اللباس – التزاوج).
الخاتمة:
حاولت في هذه الورقة أنْ أضيف شيئًا جديدًا لمشروع الرؤية، بخصوص تأثير الوجود العثماني في تقويض البنية الاجتماعية للمجتمع الحضرمي، وما مورس من أعمال مشينة تأباها النفسية الحضرمية الأصيلة، ظلت آثار تشوُّهاتها واضحة في طبيعة مجتمعات المدن وسلوكها بتركيبتها السكانية الحديثة، والتي تفتقر إلى الأصالة التاريخية بكل تكويناتها؛ الاجتماعية والثقافية والسياسية، بعد أن تعرض سكانها الأصليون، للإبادة والتهجير على يد القوات العثمانية وجيش السلطان بدر أبي طويرق.
وفي هذه الورقة نقدم الوجه الآخر لعهد السلطان بدر أبي طويرق وخلفائه من بعده؛ الوجه الحقيقي المختلف عن الوجه الذي صاغته وزينته أقلام الفاعلين الاجتماعيين؛ من ضحايا وأتباع الرؤية السائدة. بعد اعتمادهم على سرديات تاريخية منحولة ومزوَّرة، فرضت نفسها على حساب الحقيقة التاريخية المغيَّبة عن أذهان من يمتهنون الكتابة التاريخية التقليدية، فظلوا عاكفين على تلك السرديات المنحولة، وإعادة تدوير ما وجدوه مكتوبًا فيها من نصوص ميتة، ظلت تكرر نفسها في كتاباتهم التاريخية، من دون أن تتعرض من قبلهم لأي نقد أو تحليل.
وقد تناولت في هذه الورقة الواقع الاجتماعي في أثناء الوجود العثماني وبعده، معتمدًا على مشروع الرؤية الذي أزال الأقنعة عن الحقيقة التاريخية المغيَّبة من تاريخ حضرموت الحقيقي، غير المروي في تلك السرديات والمصادر المزوَّرة والمنحولة، وتحديدًا ما تعرضت له حضرموت في عهد السلطان بدر من أحداث مؤسفة، تسبَّبت في تدمير بنيتها الاجتماعية التقليدية الأصيلة، بعد أن استوطنت بعض الجماعات الوافدة مدن حضرموت الرئيسة.
وفيها نكشف عن الانتهاكات التي ارتكبتها تلك الجماعات المُتسيِّدة داخل مجتمعات المدن وخارجها، وما ترتَّب على ذلك من طمس كامل للهُوِيَّة الحضرمية الأصيلة وتجريفها، ولم يسلم من تلك الأفعال المشينة حتى سكان البوادي والأرياف من أبناء القبائل الحضرمية.
[1] حضرموت بين القرنين، ص 344، سالم مفلح.
[2] قلعة حصينة تعرف بحصن الصخرة (البينون)، تقع في عرض البحر على مسافة 300 متر من مرسى الجزائر.
[3] تأثيرات الوجود العثماني في بعض مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية في الجزائر، ص 157، د.سعيود إبراهيم.
[4] تأثيرات الوجود العثماني في بعض مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية في الجزائر، ص 158، د. سعيود إبراهيم.
[5] حضرموت بين القرنين، ص 310، سالم مفلح.
[6] تأثيرات الوجود العثماني في بعض مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية في الجزائر، ص 158، د. سعيود إبراهيم.
[7] التزوير واستلاب الهوية، ص 82، سالم مفلح.
[8] تأثيرات الوجود العثماني في بعض مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية في الجزائر، ص159 د. سعيود إبراهيم.
[9] أوراق في تاريخ الجزائر في العهد العثماني، د. حنفي هلايلي.
[10] تاريخ الشحر، ص 196-197، الطيب بافقيه.
[11] حضرموت بين القرنين، ص 331، سالم مفلح.
[12] جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الملقب بالصادق، وهو أحد الأئمة المعصومين عند الشيعة الإسماعيلية والاثناء عشرية، وينسب إليه انتشار مدرستهم الفقهية والكلامية.
[13] تاريخ حضرموت، ص 639، صالح بن علي الحامد.
[14] المدخل إلى البصمة الوراثية وعلاقتها بالأنساب، ص 170، الخريطة الجينية لأصحاب السلالة G))، تأليف المهندس عمار محمود شاكر النعيمي، الطبعة الأولى، 2019م.
[15] الشامل، ص 22، علوي بن طاهر الحداد.
[16] الجماعات الوظيفية، ص 63، عبد الوهاب المسيري.
[17] أشراف حضرموت ودورهم في نشر الإسلام بجنوب شرق آسيا، ص 143، د. محمد حسن العيدروس.
[18] حضرموت بين القرنين، ص 479، من رسالة الشيخ أبي بكر العدني أرسلها إلى أحد أفراد أسرته من العلويين، وفيها يقول: وقبيلتنا الغالب عليهم عدم الاحتراز في الأقوال والتلبيس في الأفعال، فلا يجروا على أنفسهم إلا زيادة سوء ظن فوق ما جبلوا عليه، وفي ص 480، يقول أيضًا: وعدم احتفالهم بمراعاة المودة، وقل امتثال العاقل، وعدم رمق العواقب، وسيَّان عندهم عدوهم وصديقهم في إفشاء غوابي أسرارهم.