ترجمة
د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 24 – 25 .. ص 125
رابط العدد 24 – 25 : اضغط هنا
الفصل الخامس .. في إقليم حضرموت
إن كانت هناك أرض مجهولة لم تُعرَفْ ولم تُرَ إلى اليوم وهي موطن لواحدة من أقدم الثقافات التي عرفها العالم، فهي بلا شك حضرموت، حتى سكان هذه البلاد أنفسهم ليس لديهم إلا القليل من المعرفة والوثائق عن تاريخ بلدهم. على الرغم من أن الكُتَّاب العرب القدامى قد ذكروا المدنَ الثلاث التجارية المهمة: شبام، وسيئون، وتريم، فإن أحدًا منهم لم يشر بدقة إلى مواقع تلك المدن وأهميتها، والاعتقاد العربي هو أن هناك مملكة مستقلة في حضرموت، كانت معاصرة لمملكة سبأ، هذا الاعتقاد قد أكَّده المؤرخ العربي نشوان. ففي عهد الرسول كان يحكم هذه البلدة ملوك يحملون ألقابَ أقيال، وعبر هؤلاء الحكام انتشر الإسلام فيها.
تبوأتْ مراكز الإشعاع الحضاري والثقافي مثل روما وأثينا وبابل مواقع مرموقة في التاريخ العالمي، كذلك استطاعت مدن حضرموت نشر تأثيرها ليتخطى حدودها، غير أننا لا نعرف سوى القليل عن ذلك التأثير، والشواهد الباقية إلى الآن على هذا المجد التليد المنسي هي تلك البنايات الرائعة، والتي لا تزال موجودة في هذا البلد.
بمكن للمرء أن يصف مدن حضرموت بأنها مدن فن العمارة العالمية؛ فروعة هذه البنايات في هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية؛ حيث لا يتوقع الإنسان إلا أن يجد الصحاري والجبال الجرداء، ولكن ما رأيناه فقد تخطَّى كل توقعاتنا – فقد رأينا ناطحات سحاب في وسط الصحراء، في وقت كان لا يوجد في أمريكا سوى أكواخ بائسة.
تقدم كل واحدة من هذه المدن والحواضر الكبيرة والصغيرة الكثيرة صورة معمارية فريدة ورائعة لبنايات لا يتصور المرءُ أن العرب قادرون على بنائها، ويسكن هذه البنايات أناس متشبثون بعادات العصور الوسطى وتقاليدها. بنُيت مساكن الفقراء وأحياء التجار وقصور السلاطين بالنمط والأسلوب نفسه، ولها جميعًا الشكل نفسه. تُبهر نقاوة هذا الاسلوب المعماري وأصالته من يشاهد هذه المباني للمرة الأولى، وتخلق لديه انطباعًا رائعًا لا ينُسى أبدًا. توجد نقاط تشابه بين هذا الفن المعماري والفن المعماري البابلي والآشوري، ويكمن هذا التشابه في الشرفات المفرجة الناتئة، والأسوار الخارجية، والأبراج الضخمة في زوايا المباني، وفتحات الرماية، وأقواس البوابات، والبيوت الشبيهة بالقلاع الحربية.
يكمن السبب وراء اتباع هذا الأسلوب المعماري (غير الشائع عند العرب) إلى حالة عدم الاستقرار التي تعيشها البلد، فالجنوب العربي لم تتوقف فيه الحروب، وعمليات السلب والنهب أبدًا، كما أن غارات البدو تعدُّ عادة الحياة اليومية، وقد شهدْتُ بنفسي ثلاث حروب قبلية صغيرة. لهذا تجد كل بيت وكل قرية وكل مدينة عبارة عن قلعة حربية محصنة ومكتفية ذاتيًا، وزيادة في التحصين تبنى هذه البيوت والقرى والمدن على أراضٍ مرتفعة أو على قلاع جبلية، ولا يعملون نوافذ في الطوابق الأرضية من هذه البيوت، وعادة ما تُخزَّن فيها المواد الغذائية، وتُوضَع فيها الحيوانات، ويسكنون الطوابق العليا من هذه البيوت.
تُبنى هذه البيوت من الطين. أما بخصوص عملية بنائها فتتم على النحو الآتي: عندما يقرِّر سلطان أو مواطن ثري في مدينة من مدن الجنوب العربي بناءَ بيتٍ، يُدعَى الأصدقاء والأقارب إلى اجتماعٍ، تتم فيه مشاورات مطوَّلة، وتُوضع الخطط الأوليَّة للبناء، وقبل البدء في البناء يتم البحث عن حرفيين مهرة، وعند العثور على البنائين والنجَّارين، يبدأ التفاوض والجدال حول الأُجور، بعد ذلك يتم اختيار الموقع الذي سيُبنى فيه البيت الجديد. ولقد لاحظْتُ بأن النساء يعملْنَ في الحقول، ولم أُشَاهِدْ قَطُّ امرأةً تعمل في البناء.
الأيدي العاملة في البناء هنا رخيصة، ومواد الناء أرخص؛ إذْ يتم اختيار مكان في الوادي به تربة جيدة، وبتم الحفر إلى أن يظهر الماء، وإن كان من النادر الحفر عميقًا، بعد ذلك يسكب الماء على هذا التراب المحفور ويضاف إليه التبن (تبل)، ثم يُدعس ويخُلط بأرجل العمال أو أرجل الحيوانات ليُصنع منه (المدر)، الذي يترك تحت أشعة الشمس الحارة، إلى أن يجفَّ تمامًا، بعدها يستخدم في بناء البيوت، وهذه هي الطريقة نفسُها التي تُبْنَى بها البيوت الطينية في مصر والموصل منذ قرون.
يتم البدء في بناء البيت في الجنوب العربي من الوسط، وفي الأخير يتم استخدام نوع من السقالات مصنوع من جذوع النحل، تستخدم جذوع النخل أيضًا دعامات للأسقف. وبعد الانتهاء من البناء يتم طلاء الخشب غير المنحوت، أو يتم نحته بعناية.
هناك صفة مهمة تمتاز بها البيوت في الجنوب العربي ألا وهي المزاريب الخشبية، التي تقوم بتصريف المياه من مختلف الغرف والأسطح؛ إذ يُولَى لها اهتمام خاصٌّ؛ كي لا يوصل الماء الى الجدران الطينية ويتلفها، كما أن هناك خصوصية أخرى في هذه البيوت وهي استخدام مادة جيرية تشبه الإسمنت في زخرفة الرفوف وعتبات الأبواب والنوافذ، أما الرسومات التي تعمل على الجدران الطينية وهي بنية اللون فهي من الجص الأبيض السميك، وتوجد موارد كثيرة لمادة الجير في الجبال؛ إذْ يتم ضربه بأعمدة خشبية طويلة.
تريم هي العاصمة الحالية للإقليم، وتتكون من خمسة أحياء أو مناطق، كل واحد من هذه الأحياء تسكنه قبيلة واحدة، ويعيش السكان الأصليون هنا مع البدو الذين جعلوا من هذه المدينة سكنًا دائمًا لهم، أكبر الأحياء وأهمُّها هو حي الحوطة، ومعظم سكانه من البدو آل تميم، وفي كل حيٍّ يوجد قصرٌ، يعود لأحد الإخوة الخمسة من آل كاف، وقد نزلنا في بيت يعود للسيد عبد القادر بن حسين بن شيخ الكاف.
كل سيد ينبغي عليه أن يكون جاهزًا لتلاوة نسب عائلته، ابتداءً من اسمه إلى اسم آخر جدٍّ له، وهذا قد يأخذ من الوقت ربع ساعة كاملة، يُدرَّس ويحُفَظ تاريخ العائلة في ذاكرة السيد منذ مرحلة الطفولة لضمان عدم نسيان بعض الأسماء المهمة في العائلة عند الكبر، وبما أن العرب ليس لديهم تشكيلة واسعة من الأسماء ليختاروا منها، تجد الاسم الواحد مكررًا أكثر من مرة واحدة في شجرة العائلة نفسها، وهذا يُعقِّد ويصعّب من مهمة الذاكرة خلال تذكُّر تلك القوائم من الأسماء وسردها.
وعلى أي حال فإن هناك سِجِلَّ شجرة العائلة، والذي يعدُّ أثمن المقتنيات لدى الأُسَرِ، ويتمُّ الرجوعُ إليه مرارًا، ويعدُّ مُعِينًا للذاكرة إنْ وهنتْ.
لتريم سلطانٌ أيضًا، ولكنَّ السادة أطاحوا بكل سلطاته تمامًا، فهو مثل إمبراطور سابقًا، ويعيش في المنفى مع حاشيته ووزرائه وعبيده، وله قصر ضخم في سيئون القريبة من تريم.
حظينا باستقبال حار في تريم، وأُعطي لنا قصر كاملٌ، ونُثرت علينا الهدايا القيمة وكأنهم استقرأوا كل رغباتنا، وانهال علينا الزُّوَّار صباحًا ومساء، ففي الصباح تمتلئُ الغرفة بالضيوف قبل أن نصحوا من النوم، ويبقَوْنَ إلى منتصف النهار. وعند عودتنا من أي جولة للتنزُّه مشيًا في المدينة، على الرغم من ندرة قيامنا بهذا الشيء فإنَّ ظهورنا في الشارع يلفت انتباه الناس، ويثيرُ وفضولَهم وكأنهم يشاهدون إمبراطورًا يستعرض استعراضًا مهيبًا، نجد دفعة من الزُّوَار في انتظارنا، وينبغي علينا أن نقوم بدور المضيف الودود تجاههم، هذا الشيء قد يكون متعبًا إلى حدٍّ ما في طقس معتدل كطقسنا، غير أنَّه في طقس استوائي كهذا يعدُّ مُنْهِكًا للأعصاب، ولاسيَّما وأن هذه اللقاءات تمتد إلى الليل. لدينا رغبة شديدة في رد هذه الزيارات، وأن نقوم بزيارة من زارونا غير أنَّ الفكرة لم تلقَ ترحيبًا من أبرز الزوَّار لاعتبارنا نصارى (مسيحيين كُفَّارًا)، لا ينبغي استقبالهم في بيوت مسلمين، بل وأعلن البعض منهم بأنهم سوف يطلِّقون زوجاتهم ويغادرون تريم إذا سُمح لنا بالبقاء في تريم مدة أطول.
يوجد بتريم مسجد يسمى مسجد الرباط، وهو عبارة عن معهد عالٍ لتعليم العلوم الدينية والقضاء، ويقدم لطلُابه كل شيء حتى تكاليف زواجهم يتكفل بها، ولكن ليس من السهل على النساء الالتحاق بهذا المعهد، فهُنَّ معزولاتٌ تمامًا عن المجتمع وعن الحياة العامة، ويعشْنَ في أماكن الحريم، ولا يُسمَحُ لهن بالمشاركة في الأنشطة الترفيهية ولابتهاجية للرجال، وفي حال نزولهن إلى الشارع – وهذا نادر الحصول -يرتديْنَ حجابًا أسودَ غليظًا، به فتحتان للعينين، ولا يسمح لهن بالسفر ولا ارتياد المساجد، فهي حكرٌ على الرجال فقط، وأفظع جريمة يمكن أن يقترفها الأجنبي في هذا البلد هي السفر بصحبة امراة.
النساء في الجنوب العربي لا يتمتَّعْنَ بصحة جيدة، أو في الأقل هذا هو حالهن في المدن، في حين أنَّ النساء البدويات في المناطق الريفية لا يعانين من الأمراض الشائعة في المناطق الاستوائية، ويَعِشْنَ حياةً أكثرَ تحرُّرًا.
الزواج الأحادي هو السائد في الجنوب العربي؛ إذ لا يتزوج الرجل إلا امرأة واحدة، ولا يقدر على تكاليف تعدد الزوجات سوى الأغنياء منهم، تتم الزواجات حسب الطريقة الشرقية المألوفة، أي إنَّ الرجل يشتري زوجة، فالزواج هنا عبارة عن ترتيبات وتفاهمات تجارية بين الأهل، ويتزوج الولد حين يصل عمره أربع عشرة سنة، وتتزوج البنت حين يصل عمرها اثنتي عشر سنة.
على الرغم من أن المرأة تعيش حياة تسودها الرتابة والملل، فإنها قد تحظى بقليل من البهجة؛ إذ يسمح لها بتربية الدجاج، وبما أنها عادة ما تكون دائمًا في بيتها ولا تخرج منه إلا نادرًا، وبما أن الدجاج في حاجة إلى من يطعمهن، فإن بيوت الدجاج تثبَّت على الجدران الخارجية للبيوت خارج النوافذ. في حضرموت تُربَّى الدواجن في البيوت إما في بيوت مثبَّتة على الجدران الخارجية وإمَّا في بيوت على الأرض، وهي دواجن أليفة جدًا، إلى حد أنها تضع بيضها بالقرب من نوافذ بيوتهم.
كيف تبدو ناطحات سحاب الجنوب العربي من الداخل؟
حَسَنًا تدخل عبر باب منحوت جميل إلى فناء، أو بهوٍ فيه سُلَّمٌ طيني مَطْلِيٌّ بالإسمنت، يقودك إلى (المجلس)، أي غرفة الاستقبال الرئيسة، هذه الغرفة جيدة التهوية، وتسمَّى أيضًا (مرواح)، وبجوار هذه الغرفة توجد المطابخ والحمامات (بيوت الماء)، المطابخ بها رفوف طينية، توضع عليها الأواني والأوعية، أما الحمامات فتجد بها جرار الماء الكبيرة، وقنوات في أرضية الحمام متصلة بالمزاريب الخشبية لتصريف المياه المستخدمة إلى خارج البيت. تصب المياه الملوثة الآتية من الحمامات في الشارع مباشرة، أما الفضلات الأخرى فتجد طريقها إلى حفرة غير مُغَطَّاةٍ في الشارع، لا تصل القمامة إلى الشوارع الرئيسة، ولكنها توضع في الأزقَّة الموجودة بين البيوت.
غرف المعيشة متشابهة في كل البيوت، وجدرانها مزخرفة بالجير الأبيض، وأرضياتها مسمَّتة، وإطارات النوافذ خشبية، وبها شبابيك صُنِعَتْ بطريقة فنية، أما النوافذ الزجاجية فلا تُعرَف هنا، ولمعظم الغرف أبوابٌ مزدوجة وأقفال خشبية تسمى (القالودة). فيما عدا المنحوتات الخشبية للحرفيين الحضارمة والمشهورة في الشرق، لم نجد أي أنواع أخرى من الأثاث كما تعنيه هذه الكلمة عندنا. يُفرَش السجَّاد على أرضية الغرفة، وتُوضع مخادُّ كبيرة ذات ألوان فاتحة للاستناد عليها، ويستخدمون البنادق القديمة والسيوف والخناجر المرصعة كزخارف جدارية. يجلس الخدم في الغرف نفسها مع أسيادهم، ويستمعون باهتمام إلى ما يُقال، والمشروب المحبوب والشائع لديهم هو الشاي والقهوة غير أنَّهم نهم يضعون مع البن الزنجبيل مما يجعل طعم القهوة جارًّا، وهو ما يحرم الشخص الأوربي من أي متعة في شربها، بينما يضع البعض قليلًا من العنبر في القهوة، والعنبر عبارة عن إفرازات رمادية اللون تخرج من أمعاء حوت العنبر، توجد طافية على المحيط غالبًا بالقرب من الشواطئ، ويستخدم العرب هذه المادة الغالية الثمن في صناعة البخور الذي يحبونه كثيرًا.
تريم مدينة يحيط بها حزام كثيف من أشجار النخيل، إنها مدينة الجداول الجارية والمنارات البيضاء المتلألأة، فمن نافذة قصري أستطيع رؤية هذه الواحة الكبيرة بأطرافها المترامية وبيوتها الكثيرة الممتدة أمام ناظري.
هدوء عجيب جاثم على المشهد في الجنوب العربي، فالطمأنينة والاستكانة هما الصفتان البارزتان للناس هنا، إنهم أناس يعيشون في عالمهم الخاص بهم، أناس لا يعني لهم الزمن أي شيء، أناس أنتجوا نمطًا ثقافيًّا نقيًّا، لم يُعَدْ له أي وجود فيما يسمى بالعالم المتحضر.
التشابه بين نمط المباني وميول السكان الموسيقية أمرٌ جديرٌ بالدراسة، وهذا شيء نفهمه جيِّدًا، غيرَ أنَّ موسيقى الشعوب الشرقية كالعرب والهنود والصينيين لغزٌ محيِّرٌ لمعظم الناس، وأمرٌ مثير للعناء للبعض الآخر، وبالرغم من ذلك فإنه من الخطأ المرور سريعًا على موضوع كهذا، فعلى المرءِ أنْ يحاول أن يفهمه، ومن الممكن أنْ يتعلَّم منه، وفيه سيجد أدلَّةً من فنون أخرى، وبمقارنة هذه الموسيقى بموسيقى شعوب أخرى قد نستطيع الوصول إلى استنتاجات ذات أهمية ثقافية وتاريخية.