تراث
د. زهير برك الهويمل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 26 .. ص 96
رابط العدد 26 : اضغط هنا
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءً، من يوم الأربعاء الموافق العشرين من يوليو من هذا العام، حين وطئت أقدامنا بوابة القرية التراثية بمنطقة (سكدان) مديرية ساه؛ إذ كان في استقبالنا الشيخ عبدالله بن قعفان الجابري مؤسس القرية، التي حملت من اسمها نصيبًا مفروضًا، فعلمنا منه أنها تأسست في عام 2018م، وتم افتتاحها في عام 2019م.
ما إن تطأ أرضها بقدمِك فتدخل حقبةً تاريخية، تأخذك عقودًا وقرونًا من الزمان إلى الوراء، فتسافر إلى الماضي الحضرمي، تعيش عبق التاريخ بعتاقته البسيطة والعميقة في الآن معًا، تقرأ واقعًا متشكلًّا من مستوياتٍ مجتمعية شتى بتنوع أنماطها وعاداتها، البدوية والريفية والمجتمعية المختلفة.
لقد وعى ابن قعفان قيمة الموروث والتراث الحضرمي المتنوع بعقلٍ متشرّبٍ لثقافة الأمس وانعكاسها على حاضرنا، فأدرك أن عيش الأمس العتيق في لحظته أبلغ من الكلام وأن بثَّ صورة الواقع المجتمعي عيانًا أبلغ من سرد كاتبٍ في كتاب؛ لذا قام برسم لوحاتٍ تراثية ناطقة عن طريق المجسّمات المنصوبة للمرأة والرجل؛ كونهما بؤرة المجتمع الأولى، في لوحةٍ تكررت فيها صورة المرأة وهي تحتطبُ وحزمة الحطب على رأسها، والزنبيل بيدها اليُمنى، في ملمحٍ لازدواجية العمل الكفاحي، الذي تنجزُهُ في آنٍ واحد، وهو مَلمحٌ يسرد حكاية نضالٍ وكفاحٍ طويل، قامت به المرأة الحضرمية.
وتبدو تارةً وهي تحترف غزل المفروشات والأدوات البيتية وصناعتها من جريد النخل، بأنامل تتوهج بالدقة والإبداع فيما يخرج من بين طموحها الذي لا يُحد، أو وهي تمخض اللبن بوعائه الجلدي المصنوع من جلود الأغنام، أو وهي ترعى الأغنام، أو وهي ممدَّدة الرجلين نفساء تكابد آلام الولادة، وإلى جانبها المهد الحضرمي للطفل المصنوع من الخشب والجلد، وهي صورة تاريخية تعيد الإنسان إلى مراحله الأولى في وجهة، تتساوق مع فكرة القرية التراثية المنطلقة من أعماق الماضي، أو وهي تتشكّل في إظهار الثياب وأنواع اللبس النسوي الحضرمي الأصيل المتشكل والمتنوع بتشكل البيئة والجغرافية الحضرمية وتنوعها، ممتدة الأطراف مختلفة الهيئات والثقافات.
وبدت المرأة عروسًا مجهّزة على فراش وبساطٍ بسيط لكنه عميق المعنى، وبجانبها امرأة أخرى تتوسط عدة الشاي، وهي صورة لا تنفك ترتسم في كل جلسة أُنسٍ حضرمية.
كل تلك الصور كانت مجسّمةً لابسةً اللباس الحضرمي التقليدي الجميل، حتى لكأنها لحظاتٌ معيشة تختلج الروحَ نفحاتُ عبَقِها الزاكي، أسهمت في إظهار القرية لوحةً تراثية تسر الناظرين إليها، وتسلب أفئدتهم نحو الانشداد إلى تفاصيل الفكرة المعروضة.
هذه اللوحة تضعك أمام بُعدٍ اجتماعيٍّ، هو أن دور المرأة الحضرمية المجتمعي يوازي دور الرجل في الماضي، بل يفوقه؛ فهي كعاملة ومربية في البيت، وفي الحِرف اليدوية والاحتطاب والرعي والزراعة وحصادها، بل حتى في الموروث الفنِّي كانت وجه العملة الناصع في فلوكلور الرقص، والموروث الفني الشعبي الغزير، وكانت اللبنة الأولى لبناء الحاضنة المجتمعية، والمسهمة الأولى في التنمية الاقتصادية ـ وإن على نطاقها البسيط ـ بما تقوم به من أعمال تشارك فيها الرجل؛ إذ ترتكز كثير من الأسر عليها، فهي بحق عمود خيمة البيت الحضرمي، كما كانت قديمًا عمود البيت والقصيدة في طللياتها الأولى.
لم يغب الرجل عن مَشاهد لوحة القرية التراثية، بل كان حاضرًا بشكلٍ مباشر في مجسَّم الرجل الذي يحمل معرص الماء (عود ممدود تعلق فيه تنكتان تملآن ماءً يُحمل على كتفي الرجل لسقي الزرع)، ويكون الرجل مرموزًا حاضرًا في صورة البنادق المعروضة في ملمح النسق الحربي، لذي عاشته حضرموت في مختلف حِقَبِها الزمانية الماضية، أو في آلية سناوة الماء من البئر.
إن هندسة عرض المعروض في أروقة القرية التراثية تشير بسبابة الإبداع إلى مهندسٍ فنّانٍ ذي فكرٍ عميق، يعي جيّدًا قيمة اجتماعِ كل تلك التفاصيل التراثية في جزئياتها، في لوحةٍ واحدة متماسكة النظم، محبوكة البناء، منسجمة الألوان، يؤطرها ـ جميعًا ـ إطار القرية التراثية.
آنئذٍ يتسنّى لكل باحث الالتقاء ببُغيته من هذه اللوحة؛ إذ بإمكانه أن يُعيد تشكيل تفاصيلها وفقًا وثقافته الخاصة، من منظوره الخاص، فتبدو له لوحةً جديدة، غير تلك التي رآها أو قرأها القارئ الأول.
هنا تتعدّد اللوحة في لوحات، والقراءة في قراءات تناسبًا مع ما يحمله كل قارئ من فكر، وما يبحث عنه من نمطٍ بنائي في بنائه الخاص في خياله قبل الولوج والمجيء.
على الرغم من أن الجُهدَ لا يزال في بدايته، والقرية تطمح لأن تصبحَ مدينة، فإنَّ ذلك يظل جهدًا يحتاج إلى التطوير والإسهام في إبرازه محليًّا وخارجيًّا، فالدعم مطلوبٌ من مؤسسات المجتمع المدني، كما هو مفروضٌ على المؤسسات الرسمية؛ لا سيما الثقافية والسياحية في الدولة، ومن كل محبي التراث، ومن يملكون تفاصيل، يمكن أن تضاف إلى تلك اللوحة الحضرمية الأصيلة؛ لإبرازها، والعمل على ضمان خلودها؛ لأنَّ البشرَ راحلون لكنَّ الموروثَ خالدٌ.
إن هذه اللوحة التراثية وُجدت لتبقى وتخلد؛ لقيامها على فكرٍ، يعي قيمة الموروث وأثره في تفعيل الحاضر، والنهوض به إلى المستقبل؛ فقد قيل قديمًا من لا ماضي له لا حاضر له، ومن لا حاضر له لن يكون له مستقبلٌ.
في ختام الكلام لا يسعنا إلا أن نتوجّه بالشكر الجزيل للدعوة الكريمة من رسّام اللوحة التراثية وباني تفاصيلها الشيخ عبدالله بن قعفان الجابري، الذي أرانا فعلًا أن هذه القرية هي أم القرى التراثية، بل هي النواة، التي نأمل أن يكون لها أبناء وأحفاد بررة، يعملون على خلودها ضد عوامل التعرية العامة، التي طالت يدُها هذا البلد بكلِّ ما هو مُشاهٍ.
كما لا ننسى أن نتوجه بالشكر الجزيل لكل الشخصيات الاجتماعية، والمناصب والشخصيات العسكرية ومرافقيهم، الذين طافوا بهذه اللوحة، وشاركوا في فعالية موروث الشرح الحضرمي، الذي أحيي تشريفًا بمقدمهم، وعلى رأسهم مستشار المحافظة الثقافي، والنحلة التي تعيش على رحيق الثقافة والفن والإبداع أينما وجدت أزهاره؛ المنصب صالح بن عبدالله باوزير (أبو عاطف)، والوفد المرافق له.
لا يعدو ما تقدّم كونه ارتدادَ إعجابٍ بإبداعٍ، يفرضُ نفسَهُ، فكان لا بُدَّ لحبرِهِ الموجدَن أن يُسال.