الموسيقار عبدالقادر جمعة خان في حوار ضافٍ (لحضرموت الثقافية) يكشف يوميات رحلته مع الفرقة السلطانية القعيطية ومنافسته في تأليف السلام الوطني الأول لدولة الاستقلال

حوار

أ. صالح حسين الفردي

حاوره: صالح حسين الفردي

في عصر يوم الأحد الثالث من أبريل من عام 2005م، كان هذا اللقاء الذي جمعني بالموسيقار الفنان عبدالقادر محمد جمعة خان، عند زيارته لمدينة المكلا، قادمًا من عدن، وشاء اللهُ أن أجتمع به في منزل شقيقه الفنان الكبير محمد جمعة خان بحي السلام، عندما هيأتْ لي -مشكورةً- الزميلة الأستاذة أفراح محمد جمعة فرصة الجلوس معه؛ لكي نسترسل في سرد ذكرياته الحياتية وسيرة عطائه الفنيّة، التي تجاوزت العقود الستة، ووجدت أن هذه الفرصة لربما لم تتكرَّر، وتُـتِـحْ لي توثيق ذكرات هذا الفنان الكبير بالصوت، في جلسة حميمية، تركت الحوار يسير وفق ما تمليه اللحظة علينا – معًا – من تداعياتٍ استعادتْها ذاكرتُه المتَّـقدة، وقد تجاوز يومَها الثمانين عامًا، غير أنه كان حاضر الذهن، مُمسِكًا بكل تفاصيل تلك الأيام والسنين، التي مرّ بها وعاشها مذ زمنِ طفولته في كنف والده، قائدِ المدفعية في زمن السلطنة القعيطية (جمعة خان).

مجلة (حضرموت الثقافية) وبعد (19) عامًا تنشر هذا الحديث على صفحاتها، وبما درات به الأحرف والكلمات، المُوَشّاةُ بروح لهجةٍ حضرميَّةٍ آسرة.

حديث البدايات:

والدي اسمه (جُمَا خان)، لأن الذي يخلق يوم الجمعة عندهم في الهند يقال له جما، يعني جمعة.

  • العم عبدالقادر، في البداية أنتم كأسرة!

– محمد جمعة خان.

  • الوالد جمعة خان لوْ ذكرْتَ اسمَه كاملًا؟

– جمعة خان بن أحمد عبدالرزّاق البنجابي.

  • يُقال: إنكم من راو لبندي في الهند سابقًا، باكستان الآن؟

– طبعًا في الباكستان.

  • جمعة هذه من أين أتت؟

– ما هو جمعة، هو اسمه (جُمَا خان)؛ لأن الذي يخلق يوم الجمعة عندهم في الهند يقال له جما، يعني جمعة.

  • تتذكّر مجيء الوالد إلى حضرموت؟

– الوالد جاء للخدمة مع السلطنة القعيطية؟!

– زمان، جاء قائد مدفعية، لا أذكر متى تحديدًا، لكن أقول لك: عندما تزوج أم محمد جمعة، وقبل ذلك، تزوج قبل ذلك أخت أم محمد جمعة وأنجبت له بنتًا سمَّاها (بركة)، وبعد وفاتها تزوَّج أم محمد جمعة، هذا في دوعن، أيام الصراعات القبلية التي كانت. وبعد الزواج جاء بها إلى المكلا، كان هذا المكان – يقصد حي السلام بجوار بئر (حطبينة)، بامتداد شارع مستشفى باشراحيل حاليًا باتجاه ربوة الجبل – مجرد عروش – بيوت من القش – حتى المستشفى لم يكن موجودًا حينها، كانت فقط المدرسة السلطانية (صبحي)، ومدرسة (الدّباغ) السادة الذين هاجروا من الحجاز بعد سيطرة (ابن سعود) أسسوا المدرسة في المكلا (1928م).

محمد أخي هو الذي كتب في أول أسطوانة محمد جمعة خان:

– محمد جمعة رجل ذكي، لما طلع أول سنة، يمكن في الثلاثينيات إلى عدن، ويغني ويسجّل لأسطوانات أوديون وجعفر فون، كتب الاسم جمعة خان، فهو ما يريد يقول: (جما خان)، كتبها جمعة خان، وهو ذكاء منه.

حكاية النشيد الوطني: رددي أيتها الدنيا نشيدي.

جاء بها الجماعة من عدن، قلنا نشوف عمَّنا عبدالقادر جمعة أيش يقول:

– في التسعينيات وأنا قد خرجت من الشغل جاءوا لي كلمات: ردّدي أيتها الدنيا نشيدي، من أجل أن نلحّنها كسلام جمهوري، بعد تجربتي في السلام الجمهوري لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، في المسابقة بعد الاستقلال، عندما أبدلوه بهذا أعطونا نسخة منه، عن طريق مدير الثقافة هنا – يقصد عبدالله حسين الهدّار – وأبو عمر – سعيد عمر فرحان – كان حاضرًا، طلبوني وأنا في ورشة عملٍ أعمل بها، فقلت: لديهم عملٌ أعمله، فأعطوني الورقة ذي جاءتهم من عدن، وكنتُ آخر مَنْ تسلَّمها، قالوا جاؤوا بها الجماعة من عدن، قلنا: سنرى عمَّنا عبدالقادر جمعة أيش يقول، قلت لبو عمر:

يا خي انته تشاغبنا بهذا الكلام، أنا قد خرجت من الشغل، ولعاد لي مزاج للطرب والفن، فشجعنا بو عمر وقال لي:

إلَّا قل معاد شيء معك في كور عبدالقادر من حق آل جمعة خان، هذا كلامه ثاني، يعني نسيت محمد جمعة ونسيت أبوك وأهلك، تاريخكم با تمسحه انته.

قلت له: لا با محشه، هت الورقة اللي معك هت.

– قلت: الورقة طويلة النشيد، ما يقع سلامي، إلا أنا باقسمه لك إلى قسمين.

قال لي كيف؟.

قلت له: أكيد، أنا رحت درست في بريطانيا، وجالست ناس كبار، وأعرف أيش الطريقة لوضع السلامات الجمهورية والرسمية في دول العالم، وأعرف النوتة؛ لأن السلام في جميع دول العالم يكون بالثواني، أكبر زمن للسلام الملكي البريطاني، هذا (60) ثانية، والسلام الذي عملته أنا للجنوب في (25) ثانية، والسلام: ردّدي أيتها الدنيا نشيدي، عملته في (50) ثانية، لأن السلام دائمًا يراعي زعماء ورؤساء وملوك الدّول، قد يكون كبيرًا في السن ولا يستطيع أن يتحمل وقتًا طويلًا.

سلام السلطنة نذكره كتبه الشيخ صبحي، ولحَّنه محمد خوي:

  • على ذكر السلام، السلام حق السلطنة القعيطية تذكره؟

– أيوه أذكره، هذا السلام حق محمد جمعة، والكلمات حق الشيخ (صبحي)، واحد مصري، هو مدير المدرسة السلطانية، كان الصغيِّرين يجيبونه عندما يزور السلطان المدرسة، يقولون – (ينشد النشيد لحنًا):

شرّف السلطان بشرى ** بقدومٍ كالغمام

ولنا عزٌّ وفخرٌ ** كان هذا والسلام

فمحمد جمعة لحَّنه، والكلمات كلمات الشيخ صبحي.

(دو سندي خان)، كان قبل محمد جمعة، وكانت الفرقة حقّه كبارًا في السن، شيبان، في وقت السلطان صالح بن غالب، وقبله السلطان عمر بن عوض يرحمهم الله، ما فيه أحد صغير إلا محمد جمعة وعبيد باعيسى:

– عندما جاءت الجبهة القومية، طبعًا – تغيَّرت كل السلامات، العربي والإنجليزي، وكل شيء، معاد معنا إلا قلنا للجماعة في الفرقة، كل واحد يلقي له فكرة، وأنا في تلك الفترة قائد الفرقة السلطانية القعيطية، وكنت في الستينيات برتبة رائد.

– القائد الهندي (دو سندي خان)، كان قبل محمد جمعة، وكانت الفرقة حقّه كبارًا في السن، شيبان، في وقت السلطان صالح بن غالب، وقبله السلطان عمر بن عوض يرحمهم الله، ما فيه أحد صغير إلا محمد جمعة وعبيد باعيسى، وكان الدريس (الزي) قصيرًا كما تشوف في الصور، والجيش كله الشيء نفسه، ولا يلبسونه إلا من العيد للعيد، لأن ما كان هناك (الرزميت) – سكن الضباط والجنود -، ثم بدأ في عهد السلطان صالح التحديث والتطوير في كل شيء، وعمل هذه المساكن والمواقع للفرقة، فأنا دخلت العمل عام 1941م، يعني قبل (65) سنة، اشتغلت مع الحكومية (35) في الموسيقى، وخرجت من الموسيقى وطلبونا إلى عدن، كمدرس في الجامعة، ولي الآن (22) في الجامعة، وخرّجت أجيالًا، وفي المكلا أيام السلطنة وبريطانيا عملوا معهدًا للعميان، يقولون له:

– معهد النور للمكفوفين، كان موقعه في المسجد، وكان المعهد مهملًا، وفي عدن كان هناك معهد يستخدم طريقة بريل في تعليم الأعمى، طلبنا المستشار.

– قال: بغيناك تعلِّم هؤلاء الأطفال الموسيقى.

– قلت له: اسمع، الموسيقى بالنفخ وهؤلاء ما يشوفون، كيف بغيتهم يتعلمون، أنا عندي لك طريقة، أنا بعلمهم طريقة وترية، المهم إنها موسيقى.

– قال: تمام.

– فاشترينا لهم: عود، وكمان، وكورديون، وإيقاع ورق، وعملت معهم بغير مقابل، في الصبح في عملي، والعصر معهم، كجانب إنساني.

 ـ بعدين المستشار قال: والله هذا الولد شاطر، من صدق استفاد من الإمكانات البسيطة، وكنا حينها في مقر في الشرج – سوق اللخم، وبعد ذلك أعطانا مقرًّا عند سوق الصيد القديم في الشرج، كان سكنًا لضابط بريطاني، وتوسّع المكان، وأنا أول من افتتح هذا المكان.

– بعد فترة كان معنا فنان بصير اسمه سالم رزق الله، والشيخ سالم بن حميد في الخيرية، وهو أستاذي سابقًا، راح سالم إلى عند ابن حميد، وأنا معي الورشة.

– قال: لهم هذا الرجل مواظب كل يوم في شغله معنا، ويعلّم الصغيرين، ومنه نتيجة، يعني لابدَّ تلقون له خيرية، وأنا ما أدري بهذا. وكان محمد حورة كان ضابط يجيب (المشاهرات) لما جاب المشاهرة، جاب لي: (200) شلن.

– قلت له حق أيش؟

– قال: من ابن حميد، قلت له: قل له تلميذك يقول لك شكرًا، أنا أقوم بعملي بغير أجر، ورفضتها.

أحمد قاسم عطّل علينا المسألة في السلام الجمهوري الثاني، الذي هو ردّدي أيتها الدنيا نشيدي، وفشل، وفي الأول دخل وفشل، حتى ابن غودل كذلك فشل:

  • تجربتك في السلام الوطني بعد الاستقلال مباشرة، ودخولك في منافسة مع عدد من الأعلام الموسيقيين في دولة الجنوب، مثل الموسيقار أحمد قاسم، والموسيقار يحيى مكّي؟

– هو أحمد قاسم عطّل علينا المسألة في السلام الجمهوري الثاني، الذي هو ردّدي أيتها الدنيا نشيدي، وفشل، وفي الأول دخل وفشل، حتى ابن غودل كذلك فشل، هؤلاء درسوا في الخارج، واحد في فرنسا، والآخر في مصر، درسوا النوتة، وأنا الذي قُدْتُ هذه المسألة كلها، أخذت حقهم، وأريته الجنود في الفرقة، وقلت لهم: كل واحد يصلّح حقه.

– قالوا: لا، نحن مكتفون بك، في التطبيق، وقاموا فجلسوا عندي.

يحيى مكّي، جاء ومعه ورقة فيها نوتة تقريبًا (5) دقائق ما تصلح، ونحن في الطائرة من المكلا ذاهبون إلى عدن وهو معنا، كان يقول لي: هذه نوتة أنا عملتها والجماعة اختاروها للسلام:

– قلت: لا أحد منكم يتحرّك، وعملتُ زام عليهم، وقيّمت الفرقة، وعزفنا، وهناك شاشة لا يمكن لأي واحد أن يتصل بصاحب الاستديو، لكنْ هناك إشارتان: الحمراء إيقاف تسجيل، والخضراء بدء التسجيل، عزفتْ نوتاتهم ثلاث مرّات لكل واحد منهم، ولكل واحد رقم وليس له اسم، وعزفت كل الأعمال التي تقدّمت، وعددها (8) أو (9) أعمال، أربعة من عندنا – حضرموت: عبدالقادر جمعة، وأبوبكر التّوي، وسعيد بارباع، وسالم حسين لرضي، وجميعهم من عازفي الفرقة السلطانية – وأحمد قاسم، وابن غودل، والشيخ عبدالله هو قائد الفرقة، وهو الآن مريض – شفاه الله -، أما يحيى مكّي، جاء ومعه ورقة فيها نوتة زمنها يقاربُ (5) دقائق، فهي لا تصلح، ونحن في الطائرة من المكلا ذاهبون إلى عدن وهو معنا، كان يقول لي: هذه نوتة، أنا عملتها والجماعة اختاروها للسلام.

– قلت: له ما تصلح، ليس من المعقول أجعل رئيس دولة يقف خمس دقائق للسلام الوطني لبلادنا وبعد السلام الوطني لبلاده، هذا غير معقول.

– قال: أنت أعمل ما تراه مناسبًا، خفف منه أو اختصره، وأصلحه.

– قلت: له معقول، أنا على بساطتي، نسيت كلامَنا، لأنني قلت: جاء مندوب من دار الرئاسة إلينا في حضرموت لطلب الفرقة حتى تقوم بالعزف واستقبال وفد الجبهة القومية، وصلنا مع مغادرة آخر جندي بريطاني غادر مطار عدن، أنزلونا في فندق في كريتر، للمستر حمود، بناه حديثًا، بعد ذلك جاء واحد فأنقذنا، هو حسن أحمد باعوم، وفي ذلك الوقت كان باعوم مناضلًا، جاء إلى عندنا في الفندق.

حسن باعوم جاء لنا إلى الفندق، وقال: حقّكم مع حق الآخرين، وأي واحد يفوز هو الذي سيتم اختيار سلامه.

– قال: يا عبدالقادر أيش با تعملون.

– قلت له: معنا هذه النوتة، ليحيى مكّي سنعدلها ونختصرها.

– قال: ولِمَ، أنت وأصحابك ما معكم شيء تقدمونه.

– قلت له: بلى معنا.

– قال لي: هات حقكم مع حقّه، صلحت حقه أنا في الليل، وحاولت أختصره إلى دقيقة، هذا في الليل، ومن الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية فجرًا، ونحن نجهِّـز ونعزف النوتات المقدّمة للمسابقة، فجاءت اللجنة تقول: رقم كذا، ورقم كذا، ليعزفوا، فأخذتُها أنا والعويلة، خرجوا في الخارج يتشاورون، ورجعوا قالوا: نريد رقم (3)، ورقم كذا مرة ثانية.

– قلت: الحمد لله رقم (3) حقي، والثاني حق سعيد بن ربّاع، يعني لن تخرج من حضرموت، إمَّا أنا، وإمَّا صاحبي، وهذا شرف لنا، ولا واحد ثاني يأخذها علينا، ألا وجاؤوا.

– فقالوا: رقم (نمبر) ثلاثة حق من؟

– قال رفاقي: حق قائدنا، فصفقوا جميعًا.

– قالوا هذا هو الفائز، جهزوا أنفسكم والبسوا الدريس الزين وتجهزوا، من أجل الرئيس قحطان محمد الشعبي ووفد الجبهة القومية سيأتيان من جنيف.

– لبسنا الثياب، وغادرنا إلى المطار، جاء إليَّ صحفي إنجليزي، ودخل وسط الفرقة، فناداني وهو وسط الفرقة.

– قال لي: أنت قائد الفرقة.

– قلت له: نعم.

– ما اسمك؟،

– قلت: عبدالقادر جمعة خان،

– ما رتبتُك؟

– قلت له: رائد، وقائد الفرقة الموسيقية النحاسية.

– قال: هذه الفرقة، وماذا تعملون الآن؟

– قلت: نعزف هذا النشيد، الذي تم اختياره بعد مسابقة، ومن قِبل لجنة.

كان يسألنا وسط الفرقة حتى لا نكذب، ونقول حقيقة السلام الوطني الأول لدولة الجنوب في 30 نوفمبر 1967م، وبعد قليل جاءت الطائرة وعزفنا السلام:

– كان يسألنا وسط الفرقة حتى لا نكذب، ونقول حقيقة السلام الوطني الأول لدولة الجنوب في 30 نوفمبر 1967م، وبعد قليل جاءت الطائرة وعزفنا السلام، وأصبح هو السلام الوطني للدولة الجديدة، واستمر لـ(15) سنة، ثم جاءوا بـ(ردّدي)، بعد خروجي للمعاش في السبعينيات.

    عملت نشيدًا للحرس الجمهوري، وكنت في دار الرئاسة مقر عملنا، ولكن تعرضنا في السنوات الأخيرة لمضايقات. وفجأة أنا ونائبي حسين الكلدي ومن غير مقدّمات.

– قالوا لنا: أنتم لكم أكثر من (35) سنة، والأفضل نحيلكم للتقاعد.

– قلنا: تمام، اعطونا (4) آلاف شلن، تصفيات، و(500) شلن راتب شهري كمتقاعد، وبقيتْ هذه مستمرة، حتى الآن، رجعوها بالريال: (4200)، وهو راتبي الآن هل تصدّق ذلك! بعد العمر هذا كلّه، وانا قائد فرقة الدّولة، ومع أنني عملت لهم السلام الجمهوري، وأصلحت لهم المعهد، ودرّست الموسيقى في الجامعة (22) سنة، وخرّجت أجيالًا كثيرة، لكن ما هناك أحد قدّم لنا أي شيء.

شف محمد جمعة الله سبحانه وتعالى أعطاه موهبة، في حين أنه إذا أراد أن يتكلّم الكلام يصعب عليه، لأن لديه (تأتأة)، حتى إذا أراد أن يناديك، لكن عندما يغنّي فلا يغلط غلطة واحدة.

  • إذا تركنا هذه الهموم قليلًا، أنت عاشرت الفنان الكبير محمد جمعة خان، وتعلمتَ منه الكثير، اليوم وبعد هذا المشوار الطويل مع الموسيقى علمًا وتجربة وموهبة، وأنت من القلَّة في حضرموت الذين درسوا علم الموسيقى، كيف تقوّم تجربة الفنان الراحل محمد جمعة خان الفنية، ولا سيَّما في جانب اللحن والأداء؟

–  انظر: محمد جمعة الله سبحانه وتعالى أعطاه موهبة، في حين أنه إذا أراد أن يتكلّم الكلام يصعب عليه، لأنَّ لديه (تأتأة)، حتى إذا أراد أن يناديك، لكن عندما يغنّي فلا يغلط غلطة واحدة، هذا من الله، ثمَّ إنَّ تلحينه وأداءه كان مشبّعًا بالموسيقى، وهو من صغره، وهو لديه الموهبة، ووالده كان مغنّيًّا وصوته جميل، ومحمد وهو صغير تعلّم على السمسميّة، وكان فيه واحد اسمه عمر عمارو بازهير، وواحد آخر اسمه باعساس علَّمه العزف على العود العربي، أنا اتفقت مع باعساس، وهو الذي فهمنا.

– وقال لي أنا: الذي علمت أخاك.

   وعندما سألت محمدًا؟ قال لي: نعم، علّمني باعساس.

   أولع محمد بفن الفنان سلطان بن الشيخ علي بن هرهرة وبفرقته، فذهب فاشترى له العود والكمان والإيقاع والرق، واهتم بتعليم نفسه على فن ابن الشيخ علي، وبعد فترة ألا وقد محمد جمعة ثاني، وقليل ألا وطلبوه في عدن وسجّل أغاني ونجح، وفي الأربعينيات عملت السلطنة القعيطية (رزميت) ثكنات للعسكر ومقرًا للفرقة، يعني إنَّ هناك ضبطًا وربطًا وانضباطًا والتزامًا بالمواعيد.

– قال لهم محمد: أنا خدمت (25) سنة، ورتبتي ملازم أول، وهي رتبة رفيعة، تقترب من رتبة قائد الجيش، (جمعدار وسبيدار)، ومن الصعب البلوغ إليها، فاستجابوا لرغبته في التقاعد والتفرّغ للفن والغناء، فأعطوه الرتبة والمعاش الزين، وكان معاشه (30) روبيّة تقريبًا في ذلك الوقت، ويمكن كان ذلك في عام (1945م)، وكانت معه فرقة قبل فرقة الحبّاني وسعيد عبداللاه، كانت مشكَّلة من: أحمد عبدالرزّاق ضارب إيقاع، وآخر اسمه الصبّان ضارب إيقاع، وعبيد البمبا عازف رباب، ثم عبيد (عبدالقادر) باعيسى يمسك رباب، وكان معه في الفرقة السلطانية، بعد ذلك جاء سعيد عبداللاه الحبشي وأبوبكر الحبّاني وبكّار هيّال، ثم يسر بن سنكر، وناصر الحبشي، وعمر الصيعري – أبو أنيس- بعض أحيان يمسك (الشبّابة) معه.

شف، محمد كان إذا أحد أعطاه حتى في الشارع ورقة فيها قصيدة، يتكي في أي مكان، أو يسير ويدندن، تعبر جنبه تسلم عليه وهو لا يشعر بك، له قصص جم في هذا الجانب:

  • في تلك الفترة، وعندما كان يقوم بوضع ألحان لأغنياته، هل تعرف كيف كان يقوم بهذه العملية الفنية؟

– شف، محمد كان إذا أحد أعطاه حتى في الشارع ورقة فيها قصيدة، يتّكي في أي مكان، أو يسير ويدندن، تعبر جنبه تسلم عليه وهو لا يشعر بك، له قصص جم في هذا الجانب، وكان يحرص على حضور جلسات الحضرات في (علوية) و(يعقوب) مع أناشيد آل بابطّاح بالطِيْرَان، فألحان الغناء العوّادي، يلتقطها من هذه التواشيح الدينية، مثل أغنية:

قال الذي هو في بحور العشق قبل الفطام

ومثل:

                                قال الذي قد هام في حبّ الذي قد تيّمه

ومثل:                            

                                   تملكتموا عقلي وطرفي ومسمعي

هذه هي من أغاني السماع، التي تعزف في الزواجات، وهناك رقصة (البطيق) ومن أبرع عازفيها على الطبل: مفتاح سعد الله فرج، الله يرحمه، وعبدالحبيب حيابك الآن، ومحمد جمعة لديه قدرة على أداء رقصة الزفين، قد شفته بعيني، في الشرج العصرية في الزواجات لمان يدخل يرقص البطيق بروعة وإتقان وفن.

  • أي من أغنياته، تحس أنها قريبة إلى قلبك حتى اليوم؟

– شرع بالغناء:

                    تسألوني حلوة المبسم ** متى أنت قبلتني في فمي

هذه للشاعر علي محمود طه، شاعر مصري، أما بشارة الخوري، فله:

أتت هند شاكية لأمها ** فسبحان من جمع النيرين

شف هذه الألحان ليست هندية، يعني مش حق أفلام، ولا منقولة من أي غناء هندي، هو وظّف الإيقاعات والجمل اللحنية، وجعلها أغنية حضرمية تمامًا.

وأما الأغنية الحضرمية، فهناك الكثير من الألوان، والإيقاعات، مثلًا أغنية حامد السري: بالغواني قلبي مولع

هايم وفاني

دايم يدير الفكر

كم يعاني

في حب خرعوب

سوّس مباني

في القلب

له دور وحصون

هذه مثمَّنة، يعني أشطارها ثمانية، وجملها اللحنية ثمان، وهناك ليالي الدّان المطولة، مثل: بسألك يا عاشور، وحيّا ليالي جميلة، وهكذا كثير.

باحكم هذا من أحسن النّاس المعجبين بمحمد جعة خان، وهو أصلًا شاعر شبواني، لكنه يروح لمداراة الشبواني، ويجيب أغاني حكميّة، أعطى محمد الكثير منها:

  • تتذكّر أنت الشاعر المرحوم يسلم باحكم، كيف كانت علاقته بمحمد جمعة خان.

– هذا من أحسن النّاس المعجبين بمحمد جعة خان، وهو أصلًا شاعر شبواني، لكنه يروح لمداراة الشبواني، ويجيب أغاني حكميّة، أعطى محمد الكثير، منها: ويلاه من حكم القدر، هذا عوّادي، وحسبه ربّ البريّة، في دقيقة القمر ولّى وفاجأني الظلام، وغيرها.

  • طيب، أنت لك تجابر في التلحين، هل تتذكّرها؟

– طبعًا، هناك من كلماتي وألحاني، آخر أغنية:

عطيته كل ما يطلبه ووليته فؤادي

وخليته منى روحي وشربي هو وزادي

ولكنه تمادى بالغلط قط ما له إحساس

مصالح كلها الناس

لا جات زلّه من حبيبك قول لا باس

***

حبيبك لا قنع منك يسوي لك طواري

ويمع كل ما تقوله كلامك في خلا خالي

أخيراً قد قنع منك وشافك في فلان

مصالح كلها الناس

لا جات زلّه من حبيبك قول لا باس

***

عساه يرجع إلى عقله وباحطّه وسط عيني

وباعطيه كل ما يطلبه وبا ودّه بأسراري

بس لا يكذب ولا يغالط ويطلع بانوّاس

مصالح كلها الناس

لا جات زلّه من حبيبك قول لا باس

اختصرت لك القصيدة، والثانية تقول:

بذكرك في الليل في وقت السهر

يا حسين الوجه يا نور القمر

ما يفارقني خيالك يا غزال

لو دري بك فين با شدّ الرحال

***

ما مثيله في جماله والقوام

لي هو بعينيه رماني بالسهام

صاغها الرحمن آية للجمال

لو دري بك فين با شدّ الرحال

***

يا حبيبي فين بيكون اللقاء

في عدن إن شئت ولا في الخلاء

حدد الموعد بساعات الوصال

لو دري بك فين با شدّ الرحال

***

لو تجينا والحبايب حولنا

با يطيب الأنس فيما بيننا

زادت الفرحة بساعات الوصال

لو دري بك فين با شدّ الرحال

***

هناك ثلاث أو أربع أغانٍ، لمْ أسجِّلْها بعد، أما واحدة صلَّحتها أقول فيها:

فصل قلبي من اللي قد جرى لي تعب

شفت أشياء غريبة والنبي ما كذب

منها علّ نومي سببت لي الكدور

حلّق الصقر عينه ع الحمامه يدور

***

شفت معيان خارب با عمل يسطلب

خذت جربه وحيده وذريت فيها عنب

كنّ خلي تكبّر زاد فيه الغرور

حلّق الصقر عينه ع الحمامه يدور

***

الثقة خلّصت كلين يغش الذهب

والصوغ في الخيانة هم رؤوس الشعب

كيف غشوا الذهب وعليه كل المهور

حلّق الصقر عينه ع الحمامه يدور

***

وانت يا صاحبي شف ذا الزمان انقلب

كم وكم عاتبك ما فاد فيك العتب

ايش جاك تتبع أهل الشيطنة والشرور

حلّق الصقر عينه ع الحمامه يدور

***

هذه سجلتها.

  • من تعتقد أنه في عدن ممكن أنْ يقدّم هذه الأعمال بشكل جيد؟

– في عدن أعتقد من الصعب، لأنني أشتغل في جامعة عدن مدّرسًا موسيقيًا، ويجيء أسبوع الطالب الجامعي فأعطي لهم بعض الأعمال فيخفقون في أدائها، يصعب عليهم فهم اللهجة الحضرمية وفهم المعنى، والإنسان الذي يغني ولا يفهم المعنى لن يعطيك ما تريد ولا يتفاعل مع الأغنية.

صار كل واحد يشوف نفسه كبير، قلت لهم لا تقول قدنا على الفيل راكب شف بعض الأفيال تبغض ركوبها، يعني لا تعتقد أنك قليل (تتنتن) إنك قدك خلاص:

  • ليش ما تعطي هذه الأعمال لفنانين في المكلا وحضرموت؟

– للأسف الشديد، صار كل واحد يشوف نفسه كبير، قلت لهم لا تقول قدنا على الفيل راكب شف بعض الأفيال تبغض ركوبها، يعني لا تعتقد أنك قليل (تتنتن) إنك قدك خلاص، الموسيقى علم له أصوله، مثلًا أنا لا يمكن أغني صنعاني، لأن لهجتي الحضرمية ما تعجبهم، يعني: (ما يصير تركّب الجمل فوق الريم)! يضحك! وهذا حصل مرة طلبونا نغنّي في صنعاء، وفي الطريق عملت أغنية من كلماتي ولحني قلت فيها:

لنته تبى صنعاء استعد لك بالدفاء

سيئون نعرفها ونعرف بردها

ماشي كما الساحل

تقيّل يا سلام

البرد في صنعاء

ما هو في شبام

فاستغربوا منها، وأعجبتهم.

في عدن يعجبني كثيرًا محمد سعد عبدالله، ثمَّ محمد مرشد ناجي، وكانا يقدِّراني كثيرًا، ويحترمان فنهما، ولا يقدمان على أداء أي أغنية لا يعرفان معناها ومتشبّعان بها:

  • ما هي الذكريات التي طلعت بها من خلال استقرارك في عدن؟

– أنا في عدن جالست أناسًا كثيرين، خاصة في منتديات، كالتي لباهيصمي، ووجدت أن لهم لونًا غنائيًا خاصًا بهم، وأنا لي طابع ولون آخر، فأنا مثلًا لا أستطيع أن أقدّم أغنيات عدنيّة، لأنني لستُ بارعًا فيها كفنَّاني عدن، وكنت أحرص كثيرًا على تقديم أغنياتنا الحضرمية لباحسن وحداد والمحضار والبار وباحكم وباعمر وغيرهم، وفي عدن يعجبني كثيرًا محمد سعد عبدالله، ثمَّ محمد مرشد ناجي، وكانا يقدّراني كثيرًا، ويحترمان فنَّهما، ولا يقدمان على أداء أي أغنية لا يعرفان معناها ومتشبّعان بها، وهناك أصوات متعددة في عدن، الآن تقدّم نفسها بشكل جيد، خاصة في الصوت النسائي، مثل: (روينا ورويدا رياض) تجد لديهم الأصوات العذبة والتنوّع في الاختيارات.

الوالد مرة أتى بقصيدتين مكتوبتين في ورقتين، واحدة (بدوي من الريدة ولابس خاتم السادات) والثانية: (يا ذا الجراد المعلّي لا أرضنا أيش جابك)، وأعطاها محمد، قال له: جبتها وين لحنها، قال له هذه على أصوات الدّان الحضرمي:

  • كيف تصف لنا تجربة أغنيات الدّان لحدّاد وغيره، وتركيب إيقاعات التخت الموسيقى لها من قبل محمد جمعة خان وتحويلها إلى غناء؟

– في الأربعينيات وبعد حرب (ابن عبدات) الوالد مرة أتى بقصيدتين مكتوبتين في ورقتين، واحدة (بدوي من الريدة ولابس خاتم السادات) والثانية: (يا ذا الجراد المعلّي لا أرضنا أيش جابك)، وأعطاها محمد، قال له: جبتها وين لحنها، قال له: هذه على أصوات الدّان الحضرمي، جلس فترة محمد يقلّب فيهن، حتى غناهن كما هو مسجّل الآن وموثّق، ومحمد حضرمي بحت، من كلماته ولحنه:

ليتها با تقع لي بالتماني ** بركب الطيّار وباشوفك وبرجع

علّ نومي يومنا قلبي مولّع

قل بو يسلم محبّك زاد شوقه ** عنده الليله كما شهرين تجزع

علّ نومي يومنا قلبي مولّع

في الخمسينيات أتى لي الشاعر حسين شيخان بقصيدة تقول:

صدفة تلاقينا وارتاح له قلبي وحبيناه

ما حسبت إنه شين

سلّم ولو حتى برمش العين

***

خان الوفاء خلّي والعهد لي بيني وبينه

جرّح لي الخدين

سلّم ولو حتى برمش العين

***

ما هو سوى منّك شتمت بي العذال ذا طبعك

ما هو كذا يا زين

سلّم ولو حتى برمش العين

هذه لحَّنْتُها وغنَّيتُها، فأخذوها في الخليج وقالوا هي لنا، وهي لشيخان ولحني وغنائي؛ لأن ما عندنا رقابة ولا توثيق ولا حقوق، ومكاتب ثقافتنا يسمعون هذا السطو ولا يتكلمون، ولا يعنيهم الموضوع، مع أنه من المفروض أنَّ مَنْ يُرِيد أنْ يُغنّينها أو يجدّدها لابد من أن يأخذ رخصة وإذنًا منَّا نحن، و(صاكين) علينا الذي يغلط أو يأخذ شيئًا ليس له يقول هذا من التّراث. فأيُّ تراثٍ ماله صاحب!.

  • أتبعناك يا عم عبدالقادر؟.

– لا، بل أنت أسعدْتني، ولأول مرة أحكي كل هذه الذكريات، وأطلعها من قلبي.

  • شكرًا لك!.

– موفَّـق.

سيرة حياة وفنّ:

  • الموسيقار عبدالقادر جمعة خان من مواليد مدينة المكلا في أجواء عام 1916م.
  • التحق بالعمل في الفرقة السلطانية ولم يتجاوز (20) عامًا في فترة قيادة شقيقه محمد جمعة للفرقة.
  • تدّرج فيها حتى أصبح قائدًا لها بعد مغادرة قائدها الهندي (دو سندي خان).
  • وكان له شرف تأليف السلام الوطني الأول بعد الاستقلال، وقيادة الفرقة النحاسية حتى عام 1972م، عندما انتقل من مدينة المكلا إلى العاصمة عدن يومها لقيادة الفرقة الموسيقية العسكرية الرسمية.
  • ترك تراثًا غنائيًا حضرميًا متنوعًا وثريًّا، وسجّل منذ وقت مبكر عددًا من الروائع الغنائية على الأسطوانات الشمعية وأشرطة الكاسيت وغيرها.
  • له عدد من الأغنيات كلمات ولحنا.
  • تتلمذ على يديه الكثير من المواهب الفنيّة في العزف على الآلات الموسيقية في مدينتي المكلا وعدن.
  • درّس الموسيقى لعدة سنوات بعد تقاعده من كلية التربية والآداب بجامعة عدن.
  • له من الأبناء أربعة وابنتان.
  • رحل إلى جوار ربّه في مساء الأربعاء: 13 سبتمبر 2006م، وشيّع جثمانه من مسكنه بمدينة المعلا، ليصلّى عليه ويوارى جثمانه الثرى في مقبرة المنصورة رحمه الله رحمة واسعة.