المقدّم/سعيد بانهيم المرشدي .. (1312-1395هـ/1892-1975م) (2 – 3)

شخصيات

د. محمد سالم باحمدان

د/محمد سالم باحمدان

3- المرحلة الثالثة (التقدمة على الزي السيباني):

            عُيّنَ بانهيم مقدَّمًا – ضمن المقادمة الأربعة – على الزي السيباني، وذلك بعد مقتل المقدّم/ أحمد سالم باقديم[1]، غير أننا نجهل كيفية اختياره، وكذا عام ذلك الاختيار، علمًا أنَّ أقدمَ تاريخٍ لهذه المرحلة يعود إلى عام 1365هـ/1946م[2].

            وإلى هذه الفترة أيضًا – العقد الرابع – تعود بداية اهتمام الدولة القعيطية بالبادية؛ إذْ سنّ السلطان/ صالح بن غالب القعيطي في عام1359هـ/1940م (قانون تأسيس محاكم القبائل)[3] في خطوة منه نحو كسر حدة المركزية، ونقل المجتمع من البداوة إلى المدنية، وجُوبِهَ هذا الاهتمام باعتقاد البادية أنَّ ذلك يعني (التدخل في شؤونها الداخلية).

            وفي هذه الفترة ازداد ظهور السيارات ودخولها مجال النقل، وبالتالي بدأت تهدّد معيشة البادية، كما رافق ذلك قيام السلطان صالح في ذلك العام بشقِّ الطريق الغربية (القبلية)، والتي تربط بين المكلا ودوعن، وهنا بدتْ تطفو على السطح بوادر مشاكل وصراعات بين البادية، وبالأخص (الخامعة والمراشدة) من جهة والدولة القعيطية من جهة أخرى، وقد بدأت من (مسألة حظر السلاح على البادية أو عدم التجوّل به) في عام 1359هـ/1940م[4]، ثمّ جاءت (مشاكل النقل)، الأمر الذي أدّى إلى وجود بعض الاحتكاكات التي لم تُـتَوقَّعْ أن تكون فاتحة صراع طويل، لذلك تحرّك السلطان صالح ووقَّع صُلحًا في ذلك العام مع قبيلتي (الخامعة والمراشدة)، اللتين وكّلتا عنهما كُلًّا من المقادمة: سعيد باسالم بانهيم، والجويد باسالم باقديم، والجويد باحسن باسلوم، وسالم مبارك بارشيد، ومن سيوضع أمضاه من القبيلتين من جهة وذلك على سير السيارات في طريق المكلا- دوعن على الشروط الآتية :

1- لا تحمّل السيارات سوى الركاب.

2- ليس للراكب سوى ثلاثين رطلًا بما في ذلك عفشه وفراشه.

3- المكائن التي لا تستطيع حملها الجمال تحمل على السيارات… إلخ[5].

            وساعدت تلك الاتفاقية المقدم/ سعيد بانهيم على أن ينسج علاقات طيبة مع السلطة القعيطية، وبالذات رأسها السلطان صالح، مما مكَّنه في إحدى المرات أن يقترح على السلطان صالح، أن يقوم بالصلح بين الحموم وسيبان، وبالفعل منحه السلطان صالح، بمعية المقدم/ سالمين بحمد باقديم عن سيبان تفويضًا للتحكيم في المنازعات التي نشبتْ بين الزيين (الحموم وسيبان) من جهة، والمقدم فرج بن كرامة العليّـي عن الحموم من جهة أخرى، الأمر الذي عكس رجاحة المقادمة وحكمتهم باعتبارهم منظومة ضبط اجتماعي لإنهاء المنازعات بالطرق السلمية حتى ولو أدى ذلك إلى استعانتهم بطرف غير قبلي، ولعل في ذلك ما ينمُّ عن جوانب مشرقة في شخصياتهم من حيث تقديرهم لظروف الساعة.

المهمُّ عَقِبُ ذلك أصدر السلطان صالح حكمًا في (1365هـ) 19/6/1946م (بهدم وردم كل مطالبة بينهم من عيوب وحدر ونهب وسلب وطوارف)[6]مُنهِيًا بذلك التحكيم كُلَّ المشاكل العالقة بين الزيين، بل إنه قد ساعد على شيوع التقارب والتفاهم والتحالف بينهما، خصوصًا عندما اشتدَّ الصراع بين البادية والحكومة في الفترة اللاحقة – سيرد ذكر ذلك لاحقًا -.

          وازدادت المشاكل والصراعات بين سيبان والدولة القعيطية عندما قدم من دوعن إلى المكلا في عام1365هـ/1946م، وفدٌ دوعنيٌّ محتجٌّ على سكرتير السلطنة لفرضه الزيادةَ على أهل دوعن والوادي، وقد قدَّم مذكّرةً ضافية بخصوص الضرائب، وإصلاح النظام الإداري والقضائي[7]. خاصة أنَّ أهالي دوعن مثلهم مثل غيرهم من سكان الداخل الذين خرجوا للتوِّ من المجاعة، ولا يـزالون يكتوون بنيرانها، والذي يبدو واضحًا أنَّ تلك الحركة كانت تنتقد بشكلٍ أو بآخرَ نائب لواء دوعن، بدليل أنه قد عقَّب على تلك الحركة بقوله: (مسألة دوعن صراعًا لتحطيم الامتيازات التي لم يبقى ما يسوغ بقاءها)، المهم أنَّ المفاوضات مع الحكومة لم تثمر بنتائج تذكر. والجدير ذكره أنَّ عدد جمال البادية بلغتْ في ذلك العام نحو (1800) جمل[8]، بعد أن كانت أكثر من ذلك العدد بكثير، مما يدل على تردِّي أحوال البادية، وكان فشل تلك المفاوضات يعني نذير شؤم بتفاقم صراع وصدام مسلح.

وبالفعل عقدت البادية اجتماعًا لها في منطقة (السويرقة) بدوعن في1366هـ/1947م، واتفقت فيه على عدم الامتثال لأوامر الدولة، ما لم تحتفظ بتعهداتها[9]، وعقدت البادية مؤتمرات بين (حجر-المشقاص)، ورتبت لثائرتها ترتيبات منظمة، وعندما شعر سكرتير الدولة بالخطر، أرسل مندوبين عن الدولة، ومندوبين من طرف المستشارية لمفاوضة قبائل دوعن[10]، وفي هذه الظروف تشكّلت الهيئة الدوعنية، التي طالبت بــــ:

1- إصلاح حالة القضاء الشرعي والمدني بواسطة لجنة منتخبة.

2- تقنين الضرائب على جميع سكان البلاد بنسبة واحدة بواسطة لجنة منتخبة.

3- احترام العقائد والتقاليد.

4- فتح مدارس وملاجئ ومستشفيات.

5- إعطاء كل لواء بالداخل من المالية (جزءًا من رسم الخيرية من جمارك البلاد).

6- إعطاء أهل الداخل من القروض والمساعدات الحكومية مثل الساحل.

7- إلغاء جميع الضرائب بالسدد والتشاور حول كل ضريبة وكل تشريع تريد الحكومة إحداثه.

8- إلزام القضاة الحكم بمعتقد مذهب الشافعية، وغير ذلك[11].

            وحاولت الحكومة معالجة بعض الإشكالات، كتلك التي شملها إعلان عام 1365هـ/1946م. غير أن ما لم يشمله ذلك الإعلان، إضافة إلى عدم تلبية المطالب المذكورة أعلاه، قد أذكى ووسع شقة الخلاف بين الطرفين، وأطرافٍ أخرى.

            وفي أثر هذه الأحداث أصدرت الحكومة إعلانًا في 1366هـ/1947م. جاء فيه:

1- إيقاف استلام ضرائب النخيل والحبوب والبناء في أنحاء المملكة حتى صدور إشعار آخر، ويستثنى من ذلك رسوم البناء ببندرَي المكلا والشحر.

2- يعوّض النقص الذي يتسبب بميزانية الدولة من إيقاف الضرائب المذكورة أعلاه، وذلك بإعادة رسوم السدة ابتداءً من (1366هـ)1/7/1947م.

            وفرضت الحكومة القعيطية مثل تلك الشروط على منصب بضة، الذي وافق عليها أخيرًا؛ إذ كانت بضة قد شهدتْ لقاءاتِ قبائل الشحر، ودوعن، وحجر، وفيها رُسِمت الخطط، وكمكافأة له، تم منح منصب بضة وسام (الاستحقاق) من قبل السلطان صالح[12] تكريمًا وتقديرًا لخدماته، والحقيقة أن الهدف من ذلك هو إغراق الرجل في المشاكل، وتجنيب الدولة والمواطنين أية أفعال قد تصدر منه من شأنها أن تمسَّ سيادة الدولة، أو تُلحِـقَ ضررًا بالمواطنين، فسعتِ الحكومة إلى تجنُّبها بحكم الوجاهة وتأثير آل العمودي على الكثير  القبائل الساكنة وادي دوعن وسفوحه، فضلاً عن مظهر التكريم والحفاوة التي تجعل منصب بضة مواليًا للحكومة.

            وبالنسبة للمقدم بانهيم، فقد تحرَّكت الحكومة إلى إلقاء القبض عليه أينما كان، وعن هذا الموضوع أفاد العقيد – متقاعد – أحمد سعيد باضروس واللواء – متقاعد – سالم عبود بابيتر بالآتي: (كنا في عام (1368هـ) 1949م في دورية عسكرية تابعة للجيش البدوي برفقة المساعد البدوي وقائد الدورية إلى منطقة ريدة الدّين، وهي منطقة تقع شمال غربي حضرموت، وكان قيام الدورية بسبب نزاع قامت به قبائل الدّين لمنع مرور خط للسيارات وإنشائه إلى الجهة الغربية، وقد تمّ تسوية النزاع وحل المشكلة بعد الجلوس مع هذه القبائل في قرية – قويرة (الباحث) – باخريبة، وقد كنت أحد جنود هذه الدورية، ومن الذين كانوا معي أتذكّر سالم أحمد بادحيدوح رحمه الله – وآخرين من سيبان والحموم، وقبائل أخرى.

            وعند عودتنا من الريدة بالطريق القبلية توقّفنا بمنطقة (إيدمة)، ولم يكن بها سكن في ذلك الوقت، وإنما بها غرفتان اثنتان متباعدتان عن بعضٍ، تستخدمان استراحاتٍ للمسافرين والمتنقلين على الطريق ويقال لها (مضارب).

            وصلنا (إيدمة) قبل المغرب وبتنا فيها، وعرفنا أن المقدم بانهيم موجود للمبيت عند بدو رحّل من قبيلة (السموح) بالقرب من (إيدمة) في الغييل من أجل حضور موعد للقبائل بقرية (النويمة)، وإن المستشار البدوي لديه علم بوجود المقدّم (بانهيم-الباحث-)، وقد أرسل إليه يطلب حضوره غير أن المقدّم لم يحضر إلا في الصباح. وعند حضوره إلى موقع وجودنا في (إيدمة) جلس المساعد البدوي وقائد الدورية مع المقدم بانهيم، ودارَ بينهم نقاشٌ وحديثٌ لم نعرف عنْ ماذا، وفي أي موضوع، وارتفع بينهم الصوت، وقام المقدم من عندهم في اتجاه إحدى الاستراحات الواقعة في جهة الغرب – تجاه المسجد حاليًا – وجلس.

            أما البدو المرافقون للمقدم وعددهم (6) أشخاص فقد أخذوا لهم مواقع في الجهة الغربية بالقرب من المقدّم في جروف احتموا بها، في تلك اللحظة دار حديث بين المساعد البدوي وقائد الدورية، في إثره أعطى قائد الدورية أمرًا للجنود بالانتشار في اتجاه موازٍ للمقدم، وتحرّك هو في اتجاه المقدم، أما الجنود فمجموعة منهم قامتْ بالانتشار وأخرى لم تتحرّك. وقد نبَّه عريفٌ بجيش البادية المساعد البدوي إلى ذلك عندما افترقوا فأعطى أمره لقائد الدورية بالعودة إلى المحطة قبل أن يصل إلى المقدّم، وعند عودته أعطاه أمرًا بركوب السيارات، وتحركنا إلى المكلا، وتركْنا المقدّم ومجموعته في (إيدمة)، وفيما بعد سمعْنا أنَّ الخلاف بين المقدم بانهيم وقائد الدورية عبد الله سليمان كان بسبب طلب الأخير من الأول ترك الوعد ومرافقته إلى المكلا إلا إن المقدم رفض ذلك الطلب)[13].

            وعلى الرغم من عرضية هذه الحادثة وبساطتها فإنها تعطي جملةً من المدلولات، من ذلك رجولة المقدَّم ووفاؤه، ومثل ذلك وفاء رجاله له، كما تكشف في الوقت نفسه عن رغبة الجانب الحكومي ونواياه في إلقاء القبض عليه، لذا فهو محق في أخذه الحيطة.

            وتحركت في عام (1370هـ)1950م مجموعة من مقادمة آل بارشيد (نوّح) إلى حجر، فتم إخبارهم بالآتي:

أ- إن السلطنة ستبني سبعة حصون لتكون مقرًّا لقوات أمنها.

ب – إنه غير مسموح للقبائل حمل السلاح[14]. فعقدوا اجتماعًا لهم خرجوا فيه بالآتي:

1- تحديد موقف السلطنة تجاه أحلافهم والمكاتبات التي بينهم والسلطة.

2- رفضهم لقرار منع حمل السلاح.

3- رفض تحميل السيارات المواد الغذائية التي يمكن أن تحملها الجمال.

            وتم التنسيق بين آل باحكيم وباسويد وباحميش مع مقادمة آل بارشيد حول هذا الموضوع، وتحركوا إلى دوعن وتحديدًا إلى منطقة قرن باحكيم وقرحة باحميش، وهناك تم الاتفاق بينهم مع بعض قبيلة الخامعة الموجودين في دوعن، على أن يُرسَلَ وفد منهم لـزيارة المشهد التي ستقام في12/3/1370هـ الموافق 23/12/1950م.

            أما أيسر وادي دوعن، فقد تحرّك سليمان باسعد – مقدم آل باسعد – وبمساعدة محمد عبود الحميقاني لتحريض البادية على رفض المنشور الخاص بمنع إطلاق النار أو حمل السلاح، وعقدوا لقاء مع آل باحكيم لتدارس الخطوات الواجب اتباعها، وتم إرسال شعارات إلى مقادمة القبائل للحضور، كما تم الاتفاق بينهم على التحرّك إلى زيارة المشهد في موعدها، واللقاء بمختلف القبائل التي ستحضر الزيارة.

            وعندما حان موعد الزيارة، تحرّك محمد أحمد باصبرين بمعية آخر كمندوبين عن أيمن دوعن، وسليمان باسعد، وأحمد سالم بانخر، وعبدالله سعيد بقشان كممثلين عن قبيلة الحالكة، والمقادمة: علي سعيد بن كردوس، وعوض سالم الجبلي –  مقادمة بازار العوابثة -، وحضر عبدالله سماح باسلوم، أحد عقلاء الخامعة، وفي الزيارة تم الاتفاق على:

1- تحديد موعد محدد بالمكان والزمان للقاء قبائل نوّح الديّن – سيبان – الحموم، وتم تحديد السويرقة كمكان للقاء، و(25ربيع الأول1370هـ/ 4يناير1951م) زمانًا لذلك اللقاء.

2- تحديد التكليفات الآتية:

– تكليف باسعد بإشعار المقدم بانهيم مقدم المراشدة.

– تكليف عبدالله باسلوم بإشعار المقادمة سالمين بحمد باقديم والجويد حسن باسلوم – مقادمة الخامعة-

– تكليف ابن الجبلي بإشعار ابن حبريش – مقدم الحموم -.

– تكليف أحمد باحكيم وآل باحميش بإشعار نوح حجر “باصبارة”.

– تكليف آل بارشيد بإشعار الديّن.

– تكليف أحمد سعيد باحكيم وعبدالله سعيد بقشان بتوفير المواد الغذائية اللازمة لاجتماع القبائل، وقدرت بـ(6) أوعية تمر[15]، وبالفعل حضر المؤتمرون، في أكبر اجتماع قبلي تشهده بادية حضرموت في تاريخها المعاصر، وذلك في منطقة (السويرقة)، وكانت مطالبهم تتمثل في:

1- إحياء الأحلاف والمكاتبات التي وقّعت بين هذه القبائل والحكومة القعيطية في بداية نشوئها.

2- إلغاء قرار منعهم من التجول بالسلاح.

3- ألا تحمل المواد الغذائية والمواد الأخرى، التي يمكن أن تحملها الجمال على السيارات، لا عبر الطريق الشرقي أو الغربي – طريقا السيارات آنذاك -.

4- عدم تدخل القضاة في عوائدهم، وبالذات طلب النساء إلى المحاكم دون القبول بوكيل عنهن.

5- ألا تناقش المحاكمُ القضايا التي مضى عليها عشرون عامًا.

6- ألا يحبس أي منهم أو يحاكم في المحكمة، وإنما يعاد إلى عوائدهم، وهم سيقومون بالفصل في القضايا التي لها عوائد وأعراف لديهم، والقضايا التي هي من اختصاص الشريعة، سيعيدونها هم إلى الشريعة.

7- أن تلغى مسألة (ربط إخراج التمور) من حجر بالحصول على تصريح من النائب، وأن يكون للناس الذين لهم نخل هناك الحق في إخراج تمرهم دون تدخل النائب (نائب حجر).

8- ألا تقيم الحكومة أي مراكز في مناطقهم إلا برضاهم.

9- مسألة إرث النساء يجب أن تظل حسب عوائدهم وأعرافهم، لا تتدخل فيه المحاكم[16].

            وتم الاتفاق على إدراج مطالب كل قبيلة في الرسالة الموجهة إلى الحكومة، وتم الاتفاق على عقد لقاء آخر للقبائل في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة 1370هـ الموافق 5مارس1951م لدراسة رد الحكومة، كما وعد ابن حبريش بأن يحضر معه كل مقادمة الحموم، وأن يدعو لهذا الاجتماع العكابرة، وتحرك ممثلو القبائل يحملون الرسالة إلى عاصمة لواء دوعن، وسلَّموها النائب، الذي بدوره أرسلها إلى الشيخ القدال – سكرتير الدولة –[17]. والجدير ذكره هنا أنه في هذا الاجتماع، تم الإعداد والترتيب للقيام على الحكومة، غير أنه تم تأخير ذلك بطلب من نوح وخامعة دوعن، كما حدثت بعض الاختلافات بين المقادمة[18].

            ويمكن القول إن من نتائج ذلك الاجتماع هو أن أصبح بانهيم زعيم البادية، رغم أنه لا يمتلك الجمال والمزارع، وإن الذي دفع به إلى الحضور والمشاركة هو كبر سنه ورجاحة عقله، وأيضًا حرصه على مصالح البادية[19].

            وفي الأخير قادت كل تلك التطورات البادية إلى التحالف في 28/ربيع الأول1370هـ/يناير1951م حيث اتفقت الأزياء (نوّح، وسيبان، والحموم)، وقبيلة الديّن، وقبيلة العوبثاني على (ما علق في وجوههم من حلوف ومكاتبات بينهم وبين حليفهم القعيطي من وقت عوض بن عمر صفه بعد صفه وهم قيام على الحلوف والمكاتبات جميعها ولا يزالون عليها وكل أمر خلاف ما في الحلوف والمكاتبات غير مقبول ولا نوافق عليه… بمنع للتجول بسلاح وإطلاق النار ولا نقبل ذالك ولا نوافق عليه ولا نوافق على كل مبدوع فصل من شان سكة المواتر الشرقية والقبلية)، وبعد مضي ما يقرب من عامين، وتحديدًا في فاتحة المحرَّم 1372هـ/ سبتمبر1952م انضم بيت القرزات إلى ذلك الحلف[20].

            وأقلقت تلك التحركات سكرتير الدولة، وبدأ يتتبع خيوطها بدقة عبر نُوَّاب ألوية (دوعن- حجر- الشحر)، وكان يرسل إليهم برصد التحركات، فجاءه الرد من نائب لواء حجر أن “بانهيم وعقال قبيلة آل بارشيد وهم: المقدم/ عبدالله محمد بادريس، وعوض باعمر باقديم، وعبدالله بامحروس، وأحمد عمر باوعل، وزاده نائب لواء دوعن بأن عبود عمر باحاج يعتبر – مع الواردة أسمائهم أعلاه – من المحرّضين والداعين إلى هذه الاجتماعات”[21]، وهنا يبرز السؤال كيف ستتعامل الحكومة معهم ومع تلك المطالب، خصوصًا وإنها سوف تتكرر كثيراً ؟

            كانت أولى الخطوات هي اتباع طريق التهدئة؛ إذْ بعث القدَّال برسائل؛ الأولى كانت سرية عمومية إلى نُـوَّاب الدولة في الألوية بشأن تفكير الحكومة في وضع سياسة ثابتة لتحسين حالة البدو المادية والاجتماعية، ومن بين النواحي التي أشار إليها:

1- العمران الزراعي.

2- تحسين نسل الحيوانات.

3- تحسين الحالة الصحية.

4- نشر التعليم.

5- إيجاد مصدر رزق للبادية – كالحمول والصيد –[22].

            أما البقية فقد كانت علنية عمومية إلى مقادمة البادية المشاركين في تلك الاجتماعات والأحلاف يرد فيها على رسائلهم التي وصلته، ومما جاء في أحد الرسائل الموجهة إليهم في (1370هـ) 22/1/1951م:

1- إن الحكومة لم تتدخل أولًا في كل ما يختص عوائدكم الحسنة التي لم تخرج عن الشريعة السمحاء ولا يخل بالأمن ولا يضر بالأنظمة والقوانين الحكومية التي وُضِعت لخدمة الصالح العام بعد أن بذلت عليها جهودًا جبارة.

2- لم تنو الحكومة منع البادية من حمل السلاح وعدم التجول به وإطلاق النار في المناسبات في جهاتكم، التي لم يقرر عليها منع ذلك من قبل، بل إنها – أي الحكومة – تؤكد إبقاءه لديكم والتجول به كعادتكم لأجل حفظ أرواحكم وجمالكم وأغنامكم من الطيور الضارة.

3- بالنسبة للحمول على السيارات، فالحمول ممنوع على السيارات، إلا ما هو مقرر للراكب فراسلة ونصف، أي (30) رطلًا فقط، على صورة عفش، وستعمل الحكومة على تنفيذ ذلك.

4- بالنسبة للخطوط (الوثائق) القديمة التي لا تحتوي على ثمن وغير مؤرخة وليس عليها اسم البائع والمشتري والشهود الذين في عهدهم كتبت، قد هلكوا، فهذه مسألة أثيرت من جهات عدة والحكومة تنظر فيها[23].

            وبالطبع فقد كان هدف القدال الظهور بمظهر حسن لما لحق بصورته من اهتزاز نتيجة لحادثة القصر، خاصة وأن البادية كانت تراقب تلك التطورات، إضافة إلى أنه أبدى اهتمامًا ملحوظًا تجاه البادية من خلال إعطائه صورة مصغرة عن سياسة الإصلاحات التي تبنَّتْها الحكومة بهدف تحسين أوضاع البادية في نواحي الزراعة والصحة والتعليم وغير ذلك.

            أما الخطوة الثانية فهي السير إلى البادية واللقاء بهم، وهنا قام المقادمة بردة فعل عكسي ومن هؤلاء بانهيم، إذ اعتذر عن ذلك؛ (كون القبيلة غير موجودة، بل ومتفرقة في أراضٍ بعيدة لأسباب مختلفة، بل كان أكثر مرونة عندما برر ذلك انه لم يكن عن عصاه)، وكان نفسه يرسل الرسائل المتضمنة ذلك[24].

            وبعث المقدّم بانهيم برسالة في 16من جمادى الأولى1370هـ/فبراير1951م إلى سكرتير الدولة – القدَّال -، ذكّره فيها بموضوع المكاتبات التي بين البادية والحكومة فيما يتعلق بقضايا النقل، ويبدو أن رسالة بانهيم قد حملتْ في طيَّـاتها شيئًا من الشِدَّة[25]، لذلك كان ردّ السكرتير متراوحًا هو الآخر بين الشدة واللِّين، وبذر بذور الفرقة، عندما خاطب بانهيم بخصوص تلك الاتفاقات بقوله: (المكاتبات بين الحكومة وعقال قبيلة الخامعة والمراشدة وأنت كفرد منهم)، أمَّا فيما يختص بحدَّة رسالة بانهيم فقد علّق القدَّال على ذلك بقوله: (وأما مكتوبكم المذكور أعلاه فيه تهديد للأمان الذي لا يمكن للحكومة أنْ تتساهل بمن يعبث فيه)، بل مضى القدَّال في وعده ووعيده إذْ قال: (جوابكم آنف الذكر سنحتفظ به كشاهد عليكم، فإذا حصل أي خلاف يضرُّ في خدمة الصالح العام بطريق الصرك أو غيرها فأنتَ وأولادُك المسئولين للحكومة. وستتخذ الحكومة كل الإجراءات الشديدة ضدكم يكون معلوم)[26].

           والحقيقة أن تلك الرسالة كانت شاهد حال على الشيخ القدَّال نفسه؛ إذ عكست الحالة النفسية التي استبدَّتْ به على خلفية حادثة القصر التي جرت في (1370هـ) 27/12/1950م والتي على سلّم دماء شهدائها ارتقى منصب (السكرتير) هذا من ناحية، كما أنَّ البادية هي الأخرى قد خرجت في اليوم التالي للحادثة تتحقق مما جرى، لذلك كانت نظرته للبادية في تلك الفترة ما هي إلا امتداد لنظرته لأبناء المكلا الذين عارضوه، ومع ذلك لم يستمر على ذلك المنوال نفسه؛ إذ طرأ تغيّر في موقفه، ولعل ذلك الوحي أو الإلهام قد أُملي عليه من صنّاع القرار.

            أما الرسالة الثانية فكانت (1370هـ) ففي 19/ 3/1951م، وهي علنية، خص بها نائب لواء دوعن، ليعمِّمها على المقادمة: (سعيد بانهيم، وأحمد بن حبريش، وعلي بن كردوس، وعبدالله بادريس بارشيد، والحاج باسعد الحلكي، وعبدالله بانقيطة، وعوض بالجبلي، وسالمين الحيقي، وسعيد السومحي، وسالم بلحمر، وعبدالله باحنحن)، وقد جاء فيها الإشارة إلى تلك الشروط نفسها والتي سبق ان ذكرها في رسالته في (1370هـ) 22-1-1951م[27]، وهو هنا إنما يسعى من جانب آخر إلى امتصاص نقمة البادية، وكانتْ – فعلًا – كادت مثل تلك المسكنات أن تنجح لولا أن الحلول لم تكن جذرية بحيث تقضي على مثل تلك الحركات نهائيـًـا.

            وتواصلت لقاءات القبائل واجتماعاتها، حيث عقد لقاء – بعد مؤتمر السويرقة – في البطح بـ(غيل الحالكة) بتاريخ 29جماد الآخر1370ه(1951م)ـ وحضره سيبان والعوابثة والحموم، حيث تم تدارس الموقف ورد الحكومة، وتم الاتفاق على:

1- أن تقوم كل قبيلة بقطع الطريق.

2- أن تقوم كل قبيلة بمنع السيارات من التحرك[28].

            ويلاحظ في هذا الاجتماع تغيُّب بعض القبائل، ويعزى ذلك إلى:

1- إما إلى نجاح الحكومة في خلخلة صف البادية.

2- أو انسحاب تلك القبائل لعدم تضررها من تلك الأحداث، بل إنَّ دخولها في مثل هذه التحالفات سيفقدها الكثير من المنافع. هذا وقد ذهب نائب لواء دوعن إلى قبيلة(السموح)، وتوصَّل معهم إلى:

1- أن يتجنبوا حضور الاجتماعات التي تدعو لها البادية.

2- أن يعلنوا موافقتهم على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة.

3- أن يتراجعوا عن إدراج مطالبهم ضمن المطالب التي قدمت في عريضة السويرقة[29].

            وكثّف النائب والمساعد البدوي جهودهما في أوساط البادية القاطنة على امتداد الطريق الغربي من(النويمة) إلى الجحي، وأخذوا يجتمعون بالقبائل بصورة ثنائية، وانفرادية، وأحياناً يشعرونهم بعدم الثقة في بعضهم، إذ يطلبون لقاءً مع(السموح)، وأحياناً مع الحالكة من دون بقية قبائل سيبان، ويحددون لقاءً مع بارشيد بمعزل عن الديّن وسيبان والحموم، وأحيانًا يلجأُون إلى منصب بضة للتأثير على المقادمة[30]، والحال كذلك في مسألة إرسال الرسائل كان يتم بالأسلوب نفسه، بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك عندما أمر نائب لواء دوعن ضابط شرطة لوائه أن يلقي القبض على بانهيم عند دخول أسواق الدولة[31].

            أما الجبهة الشرقية؛ فكان يقودها نائب لواء الشحر والمساعد البدوي أيضًا؛ لترويض البادية التي تقطن على طول الطريق الشرقية بين (المعدي-رسب)، والتركيز على ابن حبريش، إضافة إلى قيامهم بالإجراءآت الآتية:

1- تحريك قوة من المكلا وقعوضة إلى الجحي، لتعسكر بوادي ليسر؛ كون المراشدة أكثر تشدُّدًا في مؤتمر السويرقة.

2- رفض التعامل مع رسائل المقادمة المتشدِّدين، مثل بانهيم وباكردوس العوبثاني وإهمالها، وبخاصة بانهيم[32].

3- توجيه الإنذارات المتكرِّرة بعدم حمل السلاح وإطلاق النار، وإرجاع المنهوبات، وتقديم الجناة.

4- منع التجوُّل ليلًا من الساعة الثامنة وحتى الصباح[33]، وبما أن مشكلة حمل السلاح لم تكن بعيدة عن مرمى السياسة البريطانية، فقد حرص المستشار البريطاني على طرح تلك المعضلة أثناء حضوره الدائم لزيارة الشيخ بارأس[34]، الحولية التي تقام بسفح جبل دوعن.

5- ويذكر الأستاذ/ سالم أحمد الخنبشي أن من جملة هذه الإجراءات إلقاء القبض على بانهيم، وبالفعل تم حبسه فترةً، ثم أطلق سراحه بضمان الخامعة، وفرض عقوبة مالية آنية ومؤجلة[35].

            وفي الأخير التقى في عام (1370هـ)1951م في منطقة (شهورة) – بالقرب من مولى مطر – نائب لواء دوعن والمساعد البدوي بمقادمة سيبان ونوّح والحموم (سعيد بانهيم، وعلي بن حبريش، وصالح بن قطيان، وعبدالله بادريس) الذين توصَّل معهم إلى اتفاق نص على: (التأكيد لمندوبي البادية أنَّ الدولة لا تفكّر في نزع سلاحهم وأنه ضروري، ويجب إطلاق النار في حالات الضرورة، كما عفي عن المقدم بانهيم عفوًا شاملًا)، وغير ذلك من الشروط[36]، التي وافق عليها المقادمة باستثناء جديد وهو (قضية السلاح)؛ حيث طلبوا من الحكومة أن تسمح لهم بوضع السلاح فقط في بلدة (الخريبة) عند دخولهم إليها باعتبارها مركز اللواء الرئيس، وقد وافقت الحكومة على ذلك؛ لأن (نواياها طيبة مع البادية، وهي تفهم من نائب لواء دوعن والمستشار البدوي أنَّ نوايا البادية نحو الحكومة كذلك)[37].

            ووجهت قبيلتا الخامعة والمراشدة في (10ربيع الأول1371هـ/9ديسمبر1951م) رسالة إلى نائب لواء دوعن تتعلق بالقضايا الآتية:

1- سكة السيارات.

2- سجن النساء.

3- عادات تسديد مشاكل النساء. وقد ردّ النائب برسالة موجهة إلى المقدم باقديم وبانهيم تضمنت أجوبة وحلولًا لتلك القضايا[38].

            وسعيًا من الحكومة نحو تنظيم الأمور، قامت بإنشاء مكاتب للنقل في أوائل1371هـ/ 1952م[39]، إضافة إلى إرسالها قائد الجيش النظامي، وناظر العمارة، والمقدم باصرة للكشف عن الطريق وإصلاحها، وجاء هذا البعث في ظل تهديد المقدّم/ سعيد بانهيم للفرقة التي جاءت إلى البادية[40]،وفي الوقت نفسه كان بانهيم (في[غيل بن يمين] يحرّض قبائل الحموم ويلقى منهم كل تعاطف، بل انتشر التعاطف معه إلى أوساط العوابثة ونوّح؛ إذ كان يقوم بعقد المواثيق والتعهدات والوجوه بين القبائل ليكونوا يدًا واحدة ضد حكومتهم فيما إذا حدث خرق مكاتباتهم وعوايدهم) هذا من ناحية، وطلبه من الشيخ/ حسين بن عبدالله العمودي – منصب بضة – التوسّط بينه وبين الحكومة من أجل تسوية الخلاف بين الحكومة وبانهيم؛ إذ عقد اجتماع في مصنعته في عام (1371هـ)15-10-1952م، حضره بانهيم ومن طرف الحكومة النائب/ حسن باصرة والمساعد البدوي، وقد تم الاتفاق على:

1- إلغاء العقوبة المالية المؤجلة المفروضة على بانهيم.

2- صرف مرتبه من يوم توقيفه، ورفعه ليصل إلى (25) شلن، أسوة ببقية المقادمة، غير أنها قد ربطت بحسن نوايا بانهيم، وبالمقابل تعهَّدَ بانهيم بأن يكون مواطنًا صالحًا، خصوصًا وأنه من أولاد الدولة منذ القدم[41].

            ويلاحظ أن بانهيم لم يعترف بأنه قد تسبب أو كان السبب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تلك الأحداث، بل على العكس؛ إذ نفى أي صلة له بها، وقد جاء ذلك في رسالة بعث بها إلى سكرتير الدولة حيث يقول: (لم يصدر ما أي خلاف وقائمين على ما بيننا وبين دولتنا بكل وفاء ونقا)[42].

            ولا يوجد أدنى شك أن هدف هذه السياسة اللينة من جانب الحكومة، هو امتصاص واحتواء النقمة القبلية، بل وكان لها ثمار جنتْها مستقبلًا، وضمنت في الوقت نفسه تسهيل وصول إمدادات التموين إلى مناطق الداخل، وتأمين أرواح الناس.

ونشب الخلاف مجدَّدًا على الاتفاقية المبرمة بين الحكومة والقبائل بشأن نصوص الاتفاقية المبرمة بينهما على نقل البضائع والسلع التجارية داخل حضرموت، نتيجة لذلك أطلق أحد البدو في (ربيع الآخر1373هـ)يناير1954م النار على السيارات في منطقة (شهورة) و(بين الجبال)، وهي في طريقها إلى المكلا، وقد نتج عن هذا الحادث مقتل أحد البدو من أبناء تلك المنطقة، الذين يعملون في تحميل الفحم، فتحرّك المساعد الشرطي، ونائب دوعن للتحقيق في هذا الأمر، في حين قدمت الجمعية الخيرية مبلغًا مقداره (150) شلنًا كمساعدة لأسرة القتيل[43].

ولم يكن متوقعًا أن ذلك الحادث هو الآخر فقد كان إضافة جديدة لسلسلة من الأحداث والصدامات المسلحة؛ إذ أوقف بعض أبناء البادية في (جمادى الأولى1373هـ) فبراير 1954م السيارات الذاهبة إلى حضرموت عبر الطريق الشرقية والغربية، بدعوى أن السيارات كثيرة ولا تتفق وكمية الحمول التي تنقل إلى الداخل، مما أثَّر في نصيب النقل بالجمال[44]، فقام الحموم والحيق بقطع الطريق بين دوعن ووادي حضرموت والتعرّض للسيارات المحمَّلة بالبضائع، والعوابثة تجبي المعشرات على السيارات المارَّة بها حيث أحدثوا في (جدفرة عجران – قرب المشهد) مركزًا لحركة المرور[45]، وقد اتَّهم بانهيم بأنه كان وراء تحريض القبائل[46].

            وشهدت هذه الفترة – حقيقةً – زيادة ظهور مجموعة من قوافل السيارات، التي تعمل في خط: (المكلا – الجحي – سيؤون)، و(المكلا – المعدي – سيؤون)، وأصبحت تحمّل الركاب والبضائع معًا، بسبب انتعاش الحالة الاقتصادية في الداخل[47]، وبذا دخلت مسألة النقل مرحلةً معقَّدةً؛ إذ هدَّدَتْ معيشة البدو المعتمدة على الجمال التي وصل عددها في تلك الفترة بين (1000 –1500)جمل[48]، لذا أصبح موضوع النقل قضية حياة أو موت.

            وسعيًا من الجانب الحكومي لتهدئة الحالة، زار البادية في (مولى مطر) كل من المستشار والسكرتير القعيطي والمفتش الإقليمي، والمساعد البدوي، ونائب دوعن، وتفاهموا مع البدو، في حين دعا الشيخ/محمد بن مالك لإطفاء فتيل الحرب بين قبائل نوح وسيبان من جهة، والسلطان القعيطي من جهة أخرى[49]، ودعا سكرتير الدولة مساء (15-7-1373هـ)20-3-1954م عددًا من التجار، وأعيان البلاد، وأعضاء اللجنة الـمُشرِفة على تنفيذ سير أعمال النقل، ودعا نائبي لوائي المكلا والشحر، وقائم مقاطعة الحامي، بصدد تسوية النزاع مع البدو، وأشعرهم أن تحميل الجمال بالأسبقية، ثم السيارات، وأن أمر الفصل بموافقة مقادمة البادية[50]، وتم الاتفاق على أن يكون سعر البهار على النحو الآتي:

1- سعر بهار المواد الغذائية (70) روبية من المكلا إلى شبام، و(60) روبية من المكلا إلى دوعن.

2- سعر بهار المواد غير الغذائية (60) روبية من المكلا إلى شبام، و(50) روبية من المكلا إلى دوعن[51].

وسمحت الحكومة بعد ذلك، لسيارتي حمول بالذهاب عبر الطريق الشرقي[52] ظنًّا منها أن الأمور على خير ما يرام، غيرَ أن قبائل المعارة هاجمت السيارتين، فرجعتا فارغتين، وفي الحال ذهبتْ فرقة من جيش البادية بقيادة القائد البدوي، الذي اصطحب معه المقدم/ محمد بن قيدوم، وتم إعادة المنهوب ما عدا جزءًا قليلًا[53]. ومن الملاحظ ان التدخل العسكري جاء في هذه المرة ولأول مرة في تاريخ الصراع القبلي القعيطي من قبل القوات البريطانية.

            وإزاء هذه التطورات، عقدت البادية مؤتمرًا (بين الجبال) في عام (1373هـ)1954م، حضره سكرتير الدولة، وتم الاتفاق مع البدو على الآتي:

1- تنظيم حمول السيارات والجمال، على أن يكون بعد  أنْ تُحَمَّل كل سيارة، يتم تحميل 18جملًا.

2- تحدد الدولة معرّفين من قبلها للقبائل لتنظيم الحمول، فعُيِّنَ سعيد باريدي معرّفًا لقبيلة سيبان، ومحمد بن قيدوم للمعارة والحموم[54]، بعد ذلك أبرق نائب دوعن إلى السكرتير يخبره بشروط البدو، وهي:

1- إرسال مفاوض قعيطي محض.

2- أن تكون للمفاوض سلطات نافذة، تخوِّله البث في المشاكل القائمة.

3- خضوع الجميع لشروط البدو[55].

            ويلاحظ أن استياء البادية كان واضحًا نتيجة التدخل البريطاني، لذا كان تفضيل اختيار القعيطي، مما يؤكد على الرغبة في المفاوضات بكل حرية وارتياح، دون أية ضغوطات، حتى الشرط الأخير لا يمكننا أخذه على محمل الجد، طالما وأن الدعوة قائمة في ظل أجواء غير صدامية، بدلالة الشرطين المتقدِّمين. تلا ذلك تم تشكيل لجنة لحل النزاع، وتقرَّر:

  1. الفصل بين التجار والبادية في مسألة الحمول والمتعهّدين به والتجار.
  2. تشكيل أعضاء لجنة الفصل من: نائب لواء المكلا – بالنيابة -، ومساعد السكرتير، و(3) أعضاء من التجار، وعضو عن البادية.
  3. تراعي اللجنة عند نظرها في النزاع بين التجار والبادية من حيث:
  4. كثرة الحمول الموجود في المكلا أوْ قلَّــتُه.

ب- نزول الفصل وارتفاعه.

  • اختلاف فصول السنة ما بين شتاء وصيف.

د- وجود أقوات الجمال وقلَّتها[56].

       ويمكن القول إن تلك النقاط التي اقترح مراعاتها قد تميزت بالعقلانية مما خفَّف من حدَّة الاصطدام بالبادية؛ إذ إنَّ إجحافها يعني القضاء عليها، وهم الذين يمثِّلون عنصرًا مهمًّا في المجتمع الحضرمي، لذا فالقضاء عليها يعني القضاء على الازدهار[57].

            وكانت الحكومة القعيطية تراقب أوضاع البادية، وتستغل المناسبات المختلفة لمعرفة أحوالها، من ذلك قيام السكرتير برحلة داخلية إلى حضرموت في عام (1373هـ)12/3/1954م، بدأها من لواء دوعن، وشهد زيارة قيدون، التي تحضرها البادية، رافقه فيها ناظر القضاء العالي والمفتش الإقليمي[58].

            وتجدد النزاع بين البادية والحكومة في عام 1374هـ/1955م، وكان سببه اتهام البادية للحكومة أنها وراء نقض (اتفاق الحمول)، فقامت البادية بمنع مرور سيارات الحمول والحج، وعقد نائب دوعن اجتماعًا مع المقادمة: بانهيم، والجويد باسلوم، وباقديم في منطقة (بين الجبال)؛ لبحث موضوع الحمول، وتحركوا إلى دوعن، في حين خرجت فرقة نظامية إلى مولى مطر بهدف المفاوضات حسب اجتماع الدولة بالبادية، وأوضح البدو أنهم متمسِّكون باتفاقية عام (1358هـ)/ 1939م، التي نصّتْ على أن يكون الحمول على الجمال والركاب على السيارات مع حق نقلهم (30) رطلًا، وقام بانهيم بدعوة الخامعة، والمراشدة، والعكابرة، وبني حسن إلى مولى مطر، ثم قيامهم بقطع طريق (حسر السلطان) وحيرة، ومولى مطر، فتم محاصرة الفرقة القعيطية المكوَّنة من (90) جنديًا[59]، ولنجدتها تحركت فرقة من المكلا من جيش النظام، وفرقة نظامية أخرى من الجحي[60]، وكان هدفها تطويق المنطقة وإحكام الحصار على تلك المجموعة من أبناء البادية. وفي هذه السنة توفي زعيم الوادي/ مصطفى بن أحمد المحضار، فجدَّد المقدم بانهيم كتابات المعاضدة لحامد بن مصطفى المحضار[61]. وذلك لما يربطهما من صلة.


[1] ) الخنبشي، سالم أحمد: سيبان عبر التاريخ، دار حضرموت، المكلا،2007م، ص283.

[2] ) من وثائق المقدم.

[3] ) الدولة القعيطية، قانون تأسيس محاكم القبائل لعام 1940م وثيقة مطبوعة.

[4] ) من وثائق المقدم.

[5] ) انظر الملحق رقم (3).

[6] ) انظر الملحق رقم (4).

[7] ) صحيفة فتاة الجزيرة، العدد:(326)16-6-1946م، ص6.

[8] ) بلاغ إدارة العلاقات العامة بعدن، بوساطة صحيفة النهضة، العدد:(257)30-6-1955م، ص5.

[9] ) صحيفة فتاة الجزيرة، العدد:(377)22-6-1947م، ص5.

[10] ) صحيفة الأيام، العدد:(114)13-1-1993م، ص6.

[11] ) صحيفة الأيام، العدد:(114)، ص6.

[12] ) الخضر، سالم عمر، الطابع الاقتصادي العفوي والانتفاضات القبلية في حضرموت (48-1961م)، بحث مقدم إلى الندوة الشعبية، ص111؛ الخنبشي، الانتفاضات، ص129.

[13] ) هذه المعلومات زوّدنا بها العقيد باضروس، واللواء بابيتر في 1/5/2007م بوساطة الأخ/ سالم حسن بانهيم (حفيد المقدم).

[14] ) من وثائق البادية (ملف موجود في مكتبة كلية التربية بالمكلا أيام تبعيتها لجامعة عدن)، وسيرمز له (من وثائق البادية).

[15] ) من وثائق البادية.

[16] ) من وثائق البادية.

[17] ) من وثائق البادية.

[18] ) من وثائق البادية.

[19] ) القاضي/ عبد الله محمد باحويرث، مقابلة شخصية، المكلا،25/1/2004م.

[20] ) من وثائق البادية.

[21] ) من وثائق البادية.

[22] ) من وثائق البادية.

[23] ) من وثائق البادية.

[24] ) من وثائق البادية.

[25] ) من وثائق المقدم.

[26] ) من وثائق المقدم.

[27] ) من وثائق المقدم.

[28] ) الخنبشي، الانتفاضات، ص133.

[29] ) من وثائق البادية.

[30] ) الخنبشي، الانتفاضات، ص137.

[31] ) من وثائق البادية.

[32] ) من وثائق البادية.

[33] ) صحيفة الطليعة، العدد:(93)30-3-1961م، ص1؛ الخنبشي، الانتفاضات، ص137.

[34] ) صحيفة النهضة، العدد:(97)25-10-1951م، ص2.

[35] ) الخنبشي، الانتفاضات، ص137. وهناك رأي مخالف مفاده أن بانهيم لم يسجن على الإطلاق.

[36] ) صحيفة النهضة، العدد: (84) 19-7-1951م، ص2.

[37] ) من وثائق المقدم.

[38] ) من وثائق المقدم.

[39] ) صحيفة الأخبار، العدد:(1) فبراير 1953م، ص10.

[40] ) من وثائق البادية.

[41] ) من وثائق البادية.

[42] ) من وثائق البادية.

[43] ) صحيفة النهضة، العدد:( 193)18-3-1954م ص9؛ صحيفة الأخبار، العدد:( 15)15-2-1954م، ص7.

[44] ) صحيفة النهضة، العدد:( 193)، ص9.

[45] ) من وثائق البادية.

[46] ) صحيفة الأخبار، العدد:(49)15-7-1955م، ص2.

[47] ) الخضر، الطابع، ص111.

[48] ) صحيفة الأخبار، العدد:(49)، ص2.

[49] ) صحيفة شبام، العدد:(233)13/8/2003م، ص5 – المكلا-.

[50] ) صحيفة الأخبار، العدد:(18)21-3-1954م، ص7.

[51] ) صحيفة النهضة، العدد:(195)1-4-1954م، ص5.

[52] ) صحيفة النهضة، العدد:(199)29-4-1954م، ص9.

[53] ) صحيفة النهضة، العدد:(199)، ص9.

[54] ) الخنبشي، الانتفاضات، ص133.

[55] ) صحيفة النهضة، العدد: (256) 23-6-1955م، ص1.

[56] ) صحيفة الأخبار، العدد: (33) 15-11-1954م، ص8.

[57] ) صحيفة الاخبار، العدد: (40) 28-2-1955م، ص5.

[58] ) صحيفة الأخبار، العدد: (42) 21-3-1955م، ص8.

[59] ) صحيفة النهضة، العد: (256)، ص1؛ صحيفة فتاة الجزيرة، العدد:(779)26-6-1955م، ص7.

[60] ) صحيفة فتاة الجزيرة، العدد:(79)26-6-1955م، ص7، الخنبشي، الانتفاضات، بحث الندوة، ص 138.

[61] ) من وثائق المقدم.