حضارمة  استثنائيون .. عمر حسين البار

شخصيات

شكري نصر مرسال

الحلقة الأولى

يطيب لنا طربًا أن نتذوق موسيقى كلامه شعرًا؛ لنبحر في فنون رجزه، ونعوم في مصفوفة نثره، وللروح أن تميل لمجالسه صاغية لسحر بيانه إذا ما تحدث عمر واقفا أو متكئًا، ويحق للمرء منا – عزيزي القارئ – أن  يستلذ بذائقته ممسكًا بأوراقه، إمَّا مستطلعًا لحياته، أو متتبعًا لسيرته؛ لينهل من فيض أنوار معارفه الواسعة الشاسعة؛ بوصف القاضي عمر بن حسين البار أديبًا وشاعرًا كبيرًا وشخصية وطنية. وفي العموم فإن الرجل يُصنَّف بأنه مكسب أدبي ومعرفي عام.

لكننا حين نقف على مقربة من مكتبته الحياتية لنتصفح بعضًا من نصوص روائع دواوينه الشعرية، منها (دمعة على ضريح سبأ الأكبر)، و(الرحيل عن المهجة)، ندرك أننا أمام هَامَةٍ إبداعية، وموسوعة ثقافية، تمتلك إرثًا أدبيًا متنوّعًا، استطاع من منافذ سعته الخيالية متمكّنًا من فلسفة صناعة فكرة الصورة الشعرية، وتطويع مشاهد القصيدة دون المساسِ بحرمة معاني اللغة، بأسلوب فني مقتدر في رسم لوحة تعبيرية كما يراد لها أن تكون.

ذهلنا حقيقةً لعوالم البار عمر ومزاياه، وتنوع مواهبه المتعددة، والكثرة الثقافية المعرفية التي تشرَّبَها متشبِّعًا، حتى أيقنت لهمسِ قناعاتي أننا نقفُ على عتبات مدرسةٍ أدبيَّةٍ حضرميَّةٍ عريقة، أصولُها متمدّدة في قاع الأرض، وفروعُها تتناسل في رحاب العطاء زهراتٍ باسماتٍ سابحاتٍ، جامعةً لكثيرٍ من العلوم، جمعتْ بين معاني الذوق وأسرار الجمال ورقة الفن الأدبي، حتى ارتأينا أنه  ليس سهلًا الخوضُ في مملكته الإبداعية، بل من المجازفة بمكان أن أقف  كاتبًا وإن كان في قليلٍ من قليلٍ من مصفوفة أوراق سيرة هذا العلم البار، ودليلي حَيرَةُ أفكارنا، وارتعاشُ عباراتِ ألفاظِنا، نراها تصطرعُ في مجرى لغتِـنا المتواضعة، وإن كنا مستشعرين مشاهدتها على أسطح ألسنتنا تتنافسُ الكلماتُ فرحةً مستأنسةً إعجابًا  بالبار عمر، الذي تعالت قامتُه في عموم ميادين البذل والعطاء الفكري، حتى صار شامخًا منتصبًا كأعمدة البخور، فنصب لنفسه باكرًا راية الحضور والنصر في ميادين الأدب والشعر، الذي فاز بساحتها، فحملَها متفوّقًا بامتياز مع مرتبة الشرف..

أعتقد أنَّا لسنا بحاجة إذا ما تساءلنا من أين أكتسب عمر البار مَـدَدَ البلاغة في فصاحة أدب الشعر؟ وكيف له أن صار في ما بعدُ ضليعًا وعلمًا في عالم القضاء والمحاماة؟ لطالما أنَّنا عرفنا أن هذا الأسد من ذاك الأسد، فوالده المحامي والشاعر الكبير حسين بن محمد البار شخصية اجتماعية معروفة، لها باع طويل في مسالك الأدب، ومكثرة في ثقافتها، ونجم لامع ساطع أشهر من فصول السنة الأربعة في دنيا الأدب والشعر، وله الكثير من روائع الأطروحات الشعرية المُغنَّاة، نتذكر منها يا زهرة في الربيع، تفضل يا منى الخاطر، يا خير ليلة معك، معذبتي، التي أطربَنا فأمتعنا بها جمالًا جيًلا بعد جيلٍ الموسيقار المبدع محمد جمعة خان، و يليه تباعًا من بعده أبوبكر بلفقيه، وكرامة مرسال، وعبد الرب إدريس، وآخرون من الفنانين العرب. وغيرها كثيرٌ من المصنفات الغنائية البارية. كما كانت لِأنفاس الشاعر الأب وذائقته الفنية الرفيعة ضمن فريق محاطٍ بالفنان محمد جمعة كما قيل، الفضل في اختيار نصوص غنائية مختارة لجهابذة الشعر العربي تغنَّى بها الفنان الكبير محمد جمعة خان..

إذًا دعوني يا سادتي أفترش فؤادي مساحة زرقاء، مرصَّعة بقوافي مآثره الشعرية، مظلَّـلة بغمام خيالاته البديعة، أطير خلالَها محلّقًا بجناحَيْ حنيني ووجدي، من الخيصة المدينة التي أحبَّها الأديب الشاعر عمر البار طفلًا صغيرًا، وترعرع بأزقتها  صبيًّا، وعشقها شابًّا، ومنها إلى معابر بقية المدن التي ارتحل إليها، وصولًا إلى ديار أزال، آخر مدن الأرض التي حلَّها فأخذتْه إحساسًا مُرهفًا فسكنتْه، فأفنى بها بقية حياته عزيزًا بين عسرٍ عابرٍ وسعةِ اليُسر، ومن ثم احتضنتْه كهلًا في إحدى جنباتها الأبدية فرقد بها جسدًا طاهرًا، لعلي أعودُ مبتسمًا من هناك أحملُ لكم من روح عمر بشائرَ الإذن فأسكبُ لكم مقتدرًا من صحن مواهبه المعرفية ما يختلج وجدانَ خواطري منتصرًا على تعثُّـراتِ قلمي المفتعلة، بدءًا من تلقّـيه لدراسته الأوليَّة في الداخل الحضرمي وعبقريته التي ظهرتْ عليه في سنواته الأولى، وصولًا إلى ابتعاثه للدراسة خارجيًا، بدءًا بالكويت محطته الأولى للدراسة الثانوية، ومنها إلى مصر العروبة، تباعًا إلى سوريا، كما سنتطرق أثناء عروجنا خلال حلقاتنا القادمة إلى البعد الإنساني والمهني ومساراته..

 شبَّ الأديب القاضي عمر حسين البار في رحاب أسرة علتْ عرشَ المعارف منذ زمنٍ بعيدٍ، تتوارث أنفاس العلم وفنون الحكمة أجيالًا متلاحقة، فبرز عمر البار من سليل هذه العطاءات المباركة متأثرًا بسعة أدبياتها، فاستهوتْه نواميسُ أصولها حتى تشرّبَ من نصوص أسرار مواهبها، ما جعله فاضلًا مشهودًا له، يشار إليه من فضاءات الجمال المعرفي الواسع.

لقد عُني الشاعر عمر بن حسين البار طفلًا بفائق العناية التربوية والتعليمية من قبل والده الشاعر حسين بن محمد البار، فكان له والده نِعم المرشد الموجه، والمعلّم الأوحد، غرس فيه مبكّرًا من غراس حديقته المترامية الأطراف بذرة التعليم، وحبَّب  لديه ثمار حصاد العلم  منذ نعومة أظافره، كما ذُكر من جوانب العناية به أن والده قد أرسله صغيرًا إلى سيئون إلى إحدى الزوايا التعليمية للعلَّامة المفتي الشيخ عبدالرحمن بن عبيد الله، صاحب كتاب (العود الهندي)، الذي عُرف من كبار المؤلفين العلماء، ومعروفٌ عن ابن عبيد الله أن له صولات وجولات إصلاحية بحضرموت وخارجها، وضليعٌ مشهور بالشعر، حتى قيل إنه كان يختبر نباهة تلامذته أحيانًا بإتيانه أبياتًا للمتنبي، فيضع بين أسطرها بيتًا من أبياته، فأرسله والده إليه ليتلقَّى في زاويته أصول العلم قرابة تسعة أشهر، كما كان يدفع  بنجله عمر في بارقة كل فرصة إلى مجالس العلم مجتهدًا في تعليمه وإن كان ذلك بقطع مسافات من جغرافية الوادي المتعرِّجة مشيًا إلى المناطق المجاورة لمنطقة القرين، التي احتضنتْه طفلًا مولودًا في عام اثنين وأربعين وتسعمائة وألفِ من الميلاد، متلقّيًا في كتاتيبها، مطالعًا علوم القرآن العظيم؛ ليستلهم من نور بيانه، مطالعًا معارف أحرفه الأولية؛ ليتسنى له إتقان مخارجه اللغوية..

مرَّت الأعوام متلاحقةً من رحم الأيام والفصول، وكبُر الأديب عمر البار، فانتقل إلى بندر يعقوب، ملتحقًا بمدارسها، فأكمل بها بدائية التعليم الأساسي، ومن ثم منتقلًا طالبًا إلى المدرسة الوسطى بمدينة غيل باوزير في منتصف الخمسينيات، ضمن سجلات الدفعة الرابعة عشرة، فدرس بها أربع سنوات ولم يكمل الأخيرة من السنين لظروف شخصية ألمَّتْ به أجبرتْه على عدم مواصلة ما بقي له من أشهر قليلة من إكمال مرحلة الوسطى، كما أخبرني التربوي القدير أحمد باحبارة، على الرغم من حقيقة تفوُّقه، متميزًا في مستوى الطلبة المبرزين في تحصيله العلمي؛ إذ إن الطالب الشاب عمر البار البالغ من العمر بلوغ الحس الوطني (البار بوطنه) كان ضمن الطلبة الذين عبَّروا عن رفضهم للوجود البريطاني تأييدًا للزعيم العربي جمال عبدالناصر، وممن أشاعـوا من أروقة المدرسة الوسطى عدم رغبتهم أن يأتي المستشار البريطاني زائرًا، أو يحلَّ ضيفًا على المدرسة الوسطى، وذاك كان تقريبًا من الميلاد في الثمانية بعد الخمسين وتسعمائة..

 كان مَنْ زامله طلابًا بحسب سجلات دفعته بالمدرسة الوسطى: التربوي الفاضل الوالد أحمد محمد باحبارة، والشاعر الوزير خالد محمد عبد العزيز، وسالم عبد الملك بن همام، وعمر عبد الرحمن باسنبل، وعبد العزيز أبوبكر بارحيم، وكانت فصول المدرسة الوسطى في أيام تلك الفترة تعد أقصى مراحل التعليم بحضرموت، فغادرها عُمر البار إلى الشقيقة الكويت؛ ليكمل بها المتوسط، والتي من خلالها أنجز مرحلة الثانوية بمدرسة (الشويخ)، حاصدًا درجات الترتيب الأول..

في هذه المرحلة من عمرهِ قد بدأت تبرز عليه أنوار أشعته السحرية بيانًا للعين، وفي تزايد تتشكل نباهة هذا الشاب العبقري، فظهرت في مجالس الرجال فصاحةُ منطقِهِ السليم، فتوقَّع المبصرون لهذا الشاب القريني شأنًا كبيرًا، ولمح الأب تطوُّرَ مجرى ملامحِ النبوغ والدهاء، التي كانت تسري متفرِّدةً في نجله الأكبر، متسارعةً كسنا برقٍ، فزاد به اهتمامًا وتوجيهًا..

لقد كان بدهيًا أن يكون مقرّرًا للطالب عمر بن حسين البار في سجل برنامجه التعليمي الذي خُط له بمداد قناعات والده من ضرورة مواصلة ابنه عمر لمرحلة الثانوية العامة بعد تخرُّجه من المتوسط. وبالفعل حصل أن سار البار الابن على جسر قناعات والده، فتأهب من جديد ليوصل ما تقطع به في مرحلة الوسطى، ومنها ليمضي في مواصلة نيل استحقاق مرحلة الثانوية العامة، ولكن هذه المرة من خلال حصوله على دعوة ستسير به الى رحلة دراسية خارجية..

فما كان من  الأستاذ عمر البار المتشبّث بوطنه، والذي حُرم لظرفٍ ما من مواصلة مراحل تعليمه في وطنه الأم إلَّا أن يتنهَّـد الأسى، ويحزم أمتعة الفراق، والاستعداد ليوم الرحيل، ذهابًا إلى خارج الوطن، من خلال حصوله على منحة دراسية من أمير دولة الكويت، من خلال والده بالتنسيق مع  دار المعارف الكويتية عبر الأستاذ الكبير الكريم الفاضل علي عقيل بن يحيى، الذي كان حينها موجودًا هو وأسرته بدولة الكويت، تسمح بقدوم الطالب عمر البار، ووجوده بالأراضي الكويتية ليتلقى فيها تعليمه الثانوي بمدرسة (الشويخ) النموذجية الرائدة، الواقعة بمنطقة الشويخ الساحلية، التي بالمطلق اكتسبت حضورًا منهجيًا كبيرًا، على أرضية تعليمية صلبة، أخذت صفة الأفضلية في تقديم جودة التعليم، ضمن المدارس الرائدة على امتداد مدارس الشرق الأوسط منذ تأسيسها ثانويةً عامة إلى أن تحولت فيما بعد الى جامعة الكويت..

فلقد كانت مرحلة الكويت تعـدُّ دون شك النقطة الفاصلة والفارقة، وإن شئت فلك أن تقول المفصلية في مقياس التحوُّل الذي جرى في كتابة رواية الفصل الأول من حياة الأديب الشاعر القاضي عمر حسين البار، على المستوى العلمي منها، والمهني والعملي، التي سنبرز من وجدانيتها أدق تفاصيل تجلياتها وذاك في قادم الحلقات.