أسلوب البناء فَالهدم في رسم ملامح الصورة الحضرمية (أرضًا وإنسانًا) قراءة في سياق الوصف التصويري للمجتمع الحضرمي عند (مايبل بنت) (3 – 3)

دراسات

د. زهير برك الهويمل

ثانيًا: تصوير المباني:

الصورة الأولى (قصر السلطان منصّر القعيطي):

    يعكس نمط البناء في بلد من البلدان بُعدًا حضاريًّا، يكشف عن مراحل حركة التاريخ التي مرت بهذا البلد، وكشف العمق الثقافي المتفاعل مع الآخر الذي تخبئه تلك الحقبات بهذا البلد.

    من هذا المنطلق نرى الجهود المضنية التي تبذلها غالب أشكال الاستعمار بمستعمرةٍ ما لتغيير هوية الأنماط الرتيبة لأشكال المباني للبلد المستعمَر، وما يتواءم مع ثقافة المستعمِر، في محاولة لطمس الهوية الثقافية للمكان، في خطوة أولى لحرف الفكر السائد للإنسان نفسه مع مرور الزمن.

    تميزت حضرموت بقصورها وحصونها وقلاعها، التي تشترك معظمها ـ قديمًا ـ في صفة جامعة توحد نمطها وهي صفة (التحصين) ـ لما تقوم عليه من حياة حربية دائمة لمغالبة الطبيعة للبقاء والعيش ـ؛ إذ يستطيع المرء أن يطلق عليها حصونًا، بماهيات وصور متنوعة، منها ما كان أصيلًا، ومنها ما أخذ أشكالًا مستوردة جلبها الإنسان الحضرمي المهاجر كالأشكال الهندية.

    لذا لم تغب صورة المباني والقصور في ملامح أسلوب البناء، فالهدم في توصيفات الكاتبة (بنت) بعد أن تجلَّتْ لنا صورة الإنسان الحضرمي بمختلف فئاته، وآليات التشويه المترصّد من لدن الكاتبة، ورصد الجوانب المسيئة لذلك الإنسان في كتاب يفترَض أن يكون فنارًا تعريفيًّا بالمنطقة، يقوم على الحيادية والأمانة الكتابية، لكن ذلك لم يكن.

    فلنتعرّفْ على صورة المباني والقصور الحضرمية، في آلية البناء فالهدم في لغة سياقات الكاتبة (بنت)، فهاهي تصف قصر السلطان منصَّر القعيطي الحاكم في المكلَّا قائلة: «يبلغ ارتفاع القصر الأبيض للسلطان مُنصَّر ست طبقات، بنوافذ منقوشة إلى حدٍّ بسيط، ونوع جميل من كورنيش قرميد بنقش مخرم … ينتصب القصر على شبه جزيرة صغيرة، وكما هو الحال في مدن الريفييرا، يتمتع القصر بمشاهد ساحلية جميلة على جانبيه»(41).(↑بناء).

    ثم يتحول سياق الوصف المادح للقصر عن بناء تبدو فيه ملامح صورة جميلة، تستحق الانبهار ـ فجأة ـ إلى صورة مضادة تمامًا يتهدّم فيها ذلك البناء الجميل إلى حالةٍ سيئة مزرية للموصوف ذاته (القصر)، على النحو الآتي:

«كان هذا *القصر* مبنًى كبيرًا، يقود درج كدر جدًّا إلى عدد كبير من الغرف الكبيرة والصغيرة مأهولة على نحوٍ مُربك إلى حدِّ ما، ليس فقط من قبل فريقنا، بل من قبل فريق آخر… كنا أول الوافدين؛ لذلك جمعنا من الغرف المختلفة أكبر عدد من أجزاء حُصر ممزقة ونتنة قدر ما استطعنا إيجاده؛ لنمنع الغبار عن غرفتنا التي كانت بطول أربعين قدمًا وعرض ثلاثين قدمًا، مغطاة بالغبار إلى حدٍّ بعيد بحيث لم يكن بالإمكان رؤية أسطح مرصوفة دون القيام بالحفر.

    كان من الضروري وجود *سبع خادمات مع سبع مكانس لكنس المكان مدة نصف عام* قبل أن يكون بالإمكان تنظيف الغرفة»(42)(↓ هدم).

    كما هو ملاحظ التحوّل الحادث في أسلوب لغة الوصف في النصين السابقين بوصفهما تحولًا عن أسلوب البناء إلى أسلوب الهدم، حيث اتخذ التصوير الوصفي في أسلوب البناء رسمًا جماليًا رأسيًّا في قوله: (يبلغ ارتفاع القصر الأبيض للسلطان منصَّر ست طبقات بنوافذ منقوشة)، كما أخذ مسارًا أفقيًّا في توصيفه بالقول: (ينتصب القصر على شبه جزيرة صغيرة، وكما هو الحال في مدن الريفييرا، يتمتع القصر بمشاهد ساحلية جميلة على جانبيه).

    وفي كلا المسارين جمالٌ مفتعل بفعل الإنسان؛ يتجلّى في تكرار حدث النقش: (بنوافذ منقوشة/ كورنيش قرميد بنقش مخرم)،وهو ما يرسم عمقًا حضاريًّا وثقافيًّا حادث بفعل الإنسان الحضرمي ـ وكذلك جمال طبيعيٌّ بفعل الطبيعة كما في: (القصر على شبه جزيرة صغيرة/ بمشاهد ساحلية جميلة على جانبيه).

    وبالتأمل في لغة سياق الهدم نجد أنها اتجهت عن السطح الظاهر العام إلى الداخل الخاص، حيث التفت السياق عن جمال مشهود للعيان في الشكل العام للقصر، في علوه ونقوشه وزخارفه، إلى تفاصيله الداخلية غير المشهودة للعوام، بل للخواص الداخلين إليه، والتي تعكس مدى الفعل والأثر الإنساني، الذي يقطن ذلك القصر ومستواه الثقافي، في محاولة لكشف عيوبه وإظهار مساوئه، وتعرية مضمراته القابعة خلف السطح الظاهر العام، في وجهةٍ سياقية مترصّدة؛ لتعرية الصورة النمطية الجميلة الظاهرة بالسطح الخارجي.

    لكن هذه الآلية تفضح اللغة الوصفية مبالغتها، وبغية التشويه في عمقها المعبّر بالسرد الوصفي، يتجلّى هذا الهدم في سياقات الخطاب المجابه، كما في السياقات الآتية:

    (كان هذا “القصر”/  يقود درج كدر جدًّا/ الغرف… مأهولة على نحو مربك/ حُصر ممزقة ونتنة/ لنمنع الغبار/ مغطاة بالغبار/ لم يكن بالإمكان رؤية أسطح مرصوفة دون القيام بالحفر/ سبع خادمات/ مع سبع مكانس لكنس المكان/ مدة نصف عام).

    في السياق اللغوي الأول تتبدّى لفظة “القصر” بين قوسي تنصيص على الرغم من ورود اسمه في سياق البناء السابق، يُقرأ منها أسلوبٌ تهكُّميٌّ، بوصف هذا المبنى بالقصر، في لغة تكذّب ما سبقها من مديح وبناء وصفي لهذا المبنى، فما هو إلا رسم وهميٌّ يخلقه أسلوب الكاتبة في نهج القدْح والتشويه والهدم، ومما يمدُّ من رقي هذه الصورة الهلامية في نسق المبالغة الصورة الفنية حين خلق مشبهًا به خياليًّا لهذه الصورة في قوله: (وكما هو الحال في مدن الريفييرا)، في وجهة يبدو منها طابع السخرية، قبل تبدّي مصداقية الوصف؛ لأن أسلوب الهدم بعدها يعرّي حقيقة كونها صادرة عن سرد صادق.

    وفي العبارة الثانية: (يقود درج كدر جدًّا)، تقابل لفظة (كدر) ـ المؤكدة بلفظة (جدًّا) ـ وصف القصر بالأبيض في سياق البناء السابق، كما في اللسان: «الكدرة ضد الصفاء، والكُدْرَةُ من الأَلوان ما نَحا نَحوَ السواد والغُبْرَةِ»(43).

    يركز التوصيف في أسلوب الهدم على افتقار ثقافة النظافة، والتحضر الحقيقي في سلوك القاطنين، وهو بُعد باطني عميق، بعد صورة السطح الشكلية؛ فالحُصر ممزَّقة ونتنة، تشويه مرئي ومشموم، يُحَسُّ بنافذتين من نوافذ الإحساس، البصر والشم؛ لتتعمق الصورة القبيحة في إدراك المتلقِّي، ويتكرر الغبار في: (مغطاة بالغبار)، في لغة تكثر وتكثف حجم الغبار في هذا القصر واتساخه. وإن كان بحثنا لا يجابه كل الصفات غير الجميلة السابقة بالرفض والتكذيب، بل يقر باحتمال حقيقة بعضها، في بلدٍ لا تفارقه الرياح في الغالب العام، لكنه ينكر على السياق الوصفي للكاتبة، مقدار التأكيدات والإلحاح في الدنو بالوصف إلى منزلة تفارق الواقع كثيرًا في مبالغة إلى حدِّ الكذب أحيانًا، كما في المبالغة الأخيرة، حين قالت: (لم يكن بالإمكان رؤية أسطح مرصوفة دون القيام بالحفر)، مُدَّعية أن الغبار قد شكل طبقات رأسية كثيفة، بحيث لا يمكن للناظر أن يبصر سطح الأرض حتى “يحفر” ففي لفظة يحفر مبالغة تجافي المنطق الواقعي.

    أما السياق الأخير والذي وضع بين قوسي تنصيص ـ الأمر الذي يؤكد ترصّد التشويه الوصفي من لدن السياق الوصفي للكاتبة ـ يضعنا بما لا يدع مجالًا للشك في رسم بغية السخرية والتشويه لملامح الصورة الحضرمية بطابعها المكاني والإنساني، حين قالت:

    (كان من الضروري وجود “سبع خادمات مع سبع مكانس لكنس المكان مدة نصف عام” قبل أن يكون بالإمكان تنظيف الغرفة)، سبع خادمات وسبع مكانس، بالعدد (سبعة) وهو عدد غاية الاكتمال في العربية(44)، تستمر هذه السبع بأدي السبع نصف عام، في التنظيف حتى تصبح غرفة واحدة جاهزة للسكن، هذا الأسلوب يكشف تمامًا، الهدف الرئيس من رسم هذه الصورة المكانية المشوَّهة التي يتشوه معها فكر حلَّان المكان ووعيهم، في اتصال لحلقات الهدم والتشويه الممارَسة في هذا الكتاب، وممّا يكشف نوايا السرد الوصفي التشويهي المترصّد أيضًا بلوغه طابع السخرية بوضع هذه الجملة بين قوسين مزدوجين تأكيدًا لإبرازها وتقديمها جلية للوعي القارئ.

    إن كان سياق لغة الكاتبة في سردها التصويري الوصفي يحافظ على تقابل نمطي البناء والهدم، (البياض والسواد)، جامعًا إياهما بهدف إصباغ السياق بقدر من المصداقية، في إبداء التوصيف بشقيه الإيجابي والسلبي، لماذا يبدو أسلوب البناء وهميًّا هلاميًّا، كجزء من أسلوب الهدم، أو مرحلة أولى منه؟!

    لماذا لا يتقدّم أسلوب الهدم على البناء ـ إطلاقًا ـ بل يبدو الهدم في الأخير كمنطقة يرمي سياق الوصف الوصول إليها؟!

    هذه التساؤلات تؤكد الوجهة الترصّدية لهذه الآلية من لدن الكاتبة، وأن الحيادية في هذا الأسلوب وإن تُوُهِّمت فهي مفقودة تمامًا، بل يبدو الكيد والترصّد سمتين سائدتين لإبداء صورة مشاهة لملامح الصورة الحضرمية، إن في بُعدها الإنساني (فكرًا وثقافةً)، وإن في مجتلاها المكاني حضارةً وجغرافيا.

الصورة الثانية (صورة أحد مساجد المكلا):

    كما قرأنا في الصورة السابقة تقصّد خلق لوحة تقابلية بين البياض والكدرة (السواد)، في أسلوب تصوير الكاتبة السردي، في رسم ملامح المباني الحضرمية، ينتهي بالكدرة والسواد كحصيلة ثابتة لا تندحر ببياضٍ، وهو نسق يكشف عن مضمر أسود مكدَّر يشكل صورة انطباعية عامة، تغذي روح الكاتبة سردًا وتصويرًا نحو حضرموت، أرضًا وإنسانًا، حتى ممن تلقَّتْ منهم كرمًا ومعاملة واستقبالًا حسنًا، كـ (السلاطين القعيطيين)، نرى هذا التقابل بين البياض والسواد في صورة المباني، تتجلّى في وصف مكانٍ مقدّس، وهو أحد مساجد المكلا، حين قالت: «وبجانب الشاطئ، وكمنارة، تنتصب مئذنة المسجد البيضاء»(45)(↑ بناء).

    ثم يتحوّل السياق السردي الوصفي متحوّلًا عن هذا البياض، الذي يرمز للنقاء والصفاء، إلى الكدرة بقولها: بعد كلمة البيضاء في الوصف السابق مباشرة، «وقد كسيت جدران وقمم المسجد العالية بكتل كثيفة من مخلفات طيور البحر والحمام»(46)(↓هدم).

    تتلون تلك اللوحة البيضاء ناصعة البياض لمكانٍ نقي نقاء العبادات التي تؤدّى فيه، لكن هذا النقاء والطهر تلوَّنت صورته ليس بمجرد صورة سوداء أو مكدرة لونًا، كصورة القصر السابقة، بل هي صورة نجسة، تتشكل من فضلات طيور البحر والحمام، تتجابه تمامًا مع محور القداسة في الصورة المقرونة بقداسة المبنى (المسجد)، حين يكون السواد المغطِّي للبياض سوادًا نجسًا، هو لا يشوّه صورة ظاهرة، بل يقدح في صورة النقاء والطهر، في نسق يتفلَّتُ عن صراع أيديولوجي ديني، تحاول الكاتبة إضماره، فيتفلت في سياقات لغتها، فجمع الوصف بين بُعدين أفقيٍّ (جدران)، ورأسيٍّ (قمم) المسجد، فأسهم الفعل الماضي (كُسيت) المبني للمجهول، المسبوق بـ (قد) في تأكيد ملامح هذه الصورة وترسيخها، بالإضافة إلى التصوير الفني الاستعاري، في الفعل نفسه؛ فقد أعطى امتداد مساحة السواد مجالًا أوسع؛ بحيث يغطّي السواد النجس كل البياض النقي، فيلغي بياضه، أو قل إن شئت يلغي نقاءه وقداسته في أسلوب الكاتبة، كما غلظت لفظتا (كتل كثيفة) من سُمك ذلك السواد وقتامته، لتخلق منه ظلماتٍ بعضها فوق بعض، كما مدَّت صورة الكسوة من حدث القتامة والنجاسة السوداء لتغطي كل جدران المسجد وقممه.

الصورة الثالثة: (قلعة السلطان منصَّر في شبام):

    هي قلعة بناها جند السلطان منصَّر سلطان المكلا في شبام، تصفها الكاتبة بنهج يتحوّل فيه الوصف عن أسلوب البناء إلى أسلوب الهدم، يوازيه تحوُّلٌ عن السطح الجميل إلى الباطن المغاير لذلك الجمال، كما مرّ معنا في التصوير السابق، في نسق يضعنا أمام آلية دقيقة يتقفَّاها الأسلوب الوصفي التصويري للمشهد الحضرمي في أسلوب الكاتبة (بنت)، تقول في وصف القلعة:

    «البوابة عبارة عن تحفة فنية من النقش في نماذج معقدة. عند الدخول إليها، تتجه نحو اليمين بزاوية حادة أعلى سلم مسطح محمي خارجيًّا… الأعمدة في الغرف الفخمة منقوشة بشكل جميل، وجميع النوافذ مشغولة بنقش شبكي جميل، والمزاليج والأبواب وإطارات النوافذ منقوشة أيضًا. الأبواب الكبيرة منقوشة من جانب واحد فقط؛ هو الجانب الخارجي…»(47)(↑ بناء).   

    ثم يتحوّل السياق كالعادة إلى أسلوب الهدم، في أسلوب الكاتبة، في تمام الوصف السابق حين قالت:

    «أما الجانب الداخلي فهو خشن فقط ومعرق بشكل رديء ومرشوش بماء الكلس المبيض»(48)(↓ هدم).

    إذا قمنا بتحليل اللوحة التصويرية الموصوفة في لغة سياق أسلوب البناء، نجد أنها لوحة فنية رائعة من تصاميم الجمال الإنساني، تكرَّرتْ مادة النقش فيها خمس مرات؛ هي على التوالي على النحو الآتي: النقش/ منقوشة/ بنقش/ منقوشة/ منقوشة. تلك أوصاف تشكل الوجه الخارجي (السطحي).

    أما ضمن الوجه؛ الشق الداخلي فهو مغاير تمامًا لما بدا عليه السطح، حيث كان الوجه الداخلي سيئًا، تألَّف من ألفاظ لغوية، مثل: خشن/ معرق/ رديء/ مرشوش/ ماء الكلس/ المبيَّض. وهذه أوصاف مفارقة لتلك الأوصاف المزيَّنة بالنقش، تتألف منها صورة الداخل (الباطني). حتى البياض في هذه اللوحة تبدّى زيفًا مصطنَعًا ليس حقيقيًّا، وهو ما تفيده كلمة (مبيَّضًا)، أي ليس أبيض حقيقيًّا، وإنما تم إيهام تبييضه؛ لأن مادة التبييض فيه ليس الكلس نفسه، بل ماء الكلس.

    هذه الصورة في نمط تباين جوهرِها وباطنها، يمكن أن تحيلنا على صورة مشابهة لها، لكنها متسعة الإطار التكويني حيث تستوعب أطرها مكانًا أوسع من مجرد وصفٍ لقصر أو باب، إلى وصف مدينة شبام بأكملها، حين تصف الكاتبة تحصينات مدينة شبام كمدينة حربية حصينة في أسلوب بناء وصفي أمنيٍّ:

الصورة الرابعة: (لوحة مدينة شبام):

    «شبام هي المدينة الواقعة على حدود قبيلة يافع، وتحتل قبيلة الكثيري Kattiri الوادي على مسافة ميلين تقريبًا إلى الشرق… يمتلك السلطان على جدران قلعته مدافع موجهة باتجاه مدافع عدوّه القديمة التي تخص شركة الهند الشرقية، ويرجع تاريخ أحدث مدفع منها إلى عام 1832م…»(49)(↑ بناء).

    يتحول الوصف الأمني الذي يظهر قدرة شبام الدفاعية عن المسار البنائي (القلعة)، إلى المسار الإنساني المبني على أسلوب الهدم وإظهار صورة الإنسان الشبامي المشوَّهة، في نهج أسلوب الهدم التوصيفي، كما تقول:

    «لم يكن سكان شبام ودودين إطلاقًا اتجاهنا. يوم وصولنا، تجرّأ زوجي مع اثنين من جنود السلطان على دخول السوق وعبر الشوارع الضيقة، لكن وفي هذه المرّة الوحيدة، تجمهر الناس حوله وصرخوا في وجهه، وأهانوه باذلين أقصى جهودهم لإيقافه وإعاقته من متابعة سيره، كان على وشك الاختناق بسبب غيومٍ من الغبار القذر الذي أثارته الغوغاء، وقد جعل الجميع تحقيقاته غير مرضية للغاية بحيث أصبح متخوّفًا بجدية على سلامته، ولم يحاول أبدًا أن يخترق قلب مدينة شبام مرة ثانية»(50)(↓هدم).

    تكثف خطر الإنسان الشباميّ في هذا التوصيف في قلب المدينة شبام، وهو الباطن السيّئ أو الجوهر القبيح، حيث مزجت الصورة التوصيفية بين التكوين الجغرافي (تحصينات المدينة الدفاعية) بوصفه موكنًا سطحيًّا خارجيًّا جميلًا ومتينًا، والمكوّن البشري (قلب المدينة) مكمن الخطر الذي تمتزج مكوناته من شق بشري هو مصدر الخطر لزوجها، ومكوّن مكاني؛ ما تحتويه الشوارع الضيقة المتسخة بالغبار والغيوم المتسببة في الاختناق، الناتج عن مسبب بشري (الغوغاء).

    إن هذا النسق من التصوير ينسلُّ فيه السياق الوصفي عن مسارات مكانية جغرافية، لتضحي تلك المسارات القذرة القبيحة مسبباتٍ بشرية، فالحقد على المكان (شبام ومبانيها) هو في أساسه ومضمَره حقد على الإنسان، مع الحفاظ على نمطية السطح الجميل ↑(بناء)، والباطن القبيح ↓(هدم)، في أسلوب التصوير السردي، كما هي صورة البوابة الجميلة المزخرفة بالنقوش سابقًا، التي يبطّنُ داخلَها منظر قبيح مشوه مزيَّف. هذا التماهي بين المكاني والبشري، أو قل التحوّل عن المكاني إلى البشري يُقرأ حتى في تكوين الصورة الداخلية المشكلة لقلب شبام، كما في قول الخطاب: (كان على وشك الاختناق بسبب غيومٍ من الغبار القذر الذي أثارته الغوغاء، فالغبار والغيوم (المكوّن المكاني) المتصاعدان الخانقان نتيجة حادثة وآثار عن الغوغاء (المفتَعَل البشري)، تبرهن بجلاء على وجهة ذلك التحوّل أو الانسلال في السياق الوصفي عن التكوين الجغرامكاني إلى التكوين البشري؛ كونه المضمَر المعادي في مستوى السياق الوصفي الباطني، وكونه المعنيَّ الأول بكل محاولات التشويه، إذن تشويه المكان هو في حقيقته تشويه للإنسان بعمومه (المجتمع).

الصورة الخامسة: (صورة رجل الدين النبيل في شبام):

     هكذا يتدّرج أسلوب السياق في هذه المرحلة حين جاء شق البناء السطحي بنائيًّا, وشق الهدم الباطني بشريًّا, ليصل في مشوار تحوله نحو البشري راسمًا صورة سردية بالآلية نفسها, من التحوّل عن البناء السطحي إلى الهدم الباطني, جاعلًا من طرفي البناء والهدم مكونين بشريين, وهي غاية السياق الوصفي برمته في كتاب (بنت), إذ يمكن قراءة صورة أحد المرجعيات والشخصيات الدينية في المكان (شبام) يحوي الإطار السطحي (البناء), ومضموره القلبي الباطني (الهدم), فيكون ظاهر ذلك الرجل الصلاح والتقى والبركة, وباطنه يحوي خلاف ذلك من الأوصاف المغايرة تمامًا لما يُظهر السطح, في نهج تعبير (بنت), هذه الصورة تتجلّى في قولها واصفًة أحد رجال الدين بشبام, مبتدئة من المكان (المسجد) متجهة نحو الداخل الإنسان, واصفة ذلك الداعية بالإمام والحبيب↑(بناء), وهما صفتان ظاهرتان خارجيتان بنهج أسلوب البناء, أما الأوصاف المشكّلة لذلك الرجل الداعية ـ غير المرحِّب بوجودهم في شبام ـ بأنه متعصّب حيث دعا ربه قائلًا: ثلاث مرات: «يا إلهي هذا مناف لديانتنا أبعدهم من هنا!»(51)↓(هدم), إن هذا الدعاء بالنسبة للكاتبة هو اتهام له بالكره تجاههم؛ أي أسلوب هدم لصفات نبل هذا الرجل الذي وصفته بالنبيل؛ في تمام السياق ذاته.

   إذن الكاتبة ترى أن عمق هذه الدعوة هو صميم التعصب ضد غير المسلمين, القابع في قلب ذلك الرجل, الذي وصفته بالإمام والحبيب في بداية سياقها, الخارجي السطحي قبل الدخول إلى التدليل على ما يملأ قلبه.

 إن هذه الصورة يمكن أن تكون خاتمة مركزية تصل إلى قلب الإنسان الحضرمي الخاص (رجل الدين), في ذلك الزمان بل يمكن أن تكون نواة وبؤرة الدافع التصويري في منهج البناء فالهدم الذي اتخذته الكاتبة منذ بداية كتابها, فمركز المعتقد (الأيديولوجي) ضد غير المسلم, هو المهيمن على شخصية الإنسان الحضرمي, وهو من غذّى وجهة أسلوب الكاتبة في مسيرة تشويهها كردة فعل مجابهة لهذه الأيديولوجيا التي يغذيها التعصب كما ترى؛ لأن الدين الإسلامي لا يحرم القرب من غير المسلمين ومجالستهم, والحديث معهم, بل يجيز الزواج من الكتابيات, فتجاوُزُ هذا المسار الديني هو تعصب عُرفيٌّ أكثر منه ديني؛ لذا وصفته بالتعصب؛ لأن هذا هو الشعور الذي تولّد لديها, وما يشعر به الرحالة يُعدُّ رافدًا من روافد كتاباته كما يرى د. مسعود عمشوش: «فالرحلة بالضرورة هي نص سرديٌّ يحكي فيه مسافرٌ ما أحداث انتقاله من مكان (هنا) إلى مكان (هناك) والعودة ويسجل ويصف ما شاهده وعاشه, مازجًا السرد والوصف بمشاعره وانطباعاته حول (الهناك) والناس الذين قابلهم فيه»(52) .

    ثمة رابط ممنهج بين الصور الثلاث الأخيرة, صورة بوابة القصر المزينة من الخارج بالنقوش والزخارف, لكنها سيئة الباطن؛ إذ اختفت تلك النقوش في سطح البوابة الداخلي فكان سيّئ المنظر. وصورة مدينة شبام الجميلة من الخارج, لكن داخلها تشوه بغيوم الغبار القذر والغوغاء, وهذه الصورة الإنسانية الأخيرة حيث بدت على هيئة ذلك الرجل من الخارج سمات الخير والصلاح (الإمام +الحبيب) لكن باطنه كان يتشكّل من الكره لغير المسلم والتعصب. إن تلك الصور تتوالى تراتبيًّا من حيث تكوينها السطحي والباطني, تنتسل فيها اللاحقة عن السابقة وصولًا إلى نواة التصوير وبغيته الحقيقية العميقة, كما ذكرنا, على النحو الآتي:

الأولى: عمرانية عمرانية (صورة البوابة)← الثانية: عمرانية بشرية(صورة مدينة شبام) ← الثالثة: بشرية بشرية (صورة الرجل الصالح).

ولعل ممّا زاد من شحن نفسية الكاتبة ضد هذا المبدأ؛ أنها ترى عدم وصولها وزوجها إلى الغاية الأسمى (قبر نبي الله هود), وبئر برهوت, بسبب هذه الحجة التي يتذرّع بها رجال الدين والسلطان من أهل حضرموت. لا سيما أنها قالت قبل سطرين من هذه الصورة: «… مع الشعور بأن رحلتنا إلى بئر برهوت Bir Borhut  كانت مستحيلة»(53), تمامًا هذه هي الحجة نفسها التي منعت زوجها من التعمّق إلى داخل مدينة شبام. لا سيما حين تتجذّر فكرة تدنيس الكافر للمكان, التي يغذيها صوت ديني ذو نفوذ وقبول واسع في حضرموت, حيث استشهدت بقصة بين رجل وامرأة (بنية اجتماعية حضرمية صغرى), حين وبّخت تلك المرأة ذلك الرجل لسحبه كمية كبيرة من ماء البئر فردَّ عليها قائلًا: «يجب علينا أن نطهر مدينتنا من الكفرة في هذا اليوم»(54), فكان هذا تبريرًا مقنعًا وكافيًا لإسكاتها.

هذا الفكر الأيديولوجي العام لوعي الإنسان الشبامي أسهم في تبدِّي كمية الشحن النفسي لدى الكاتبة (بنت) نفسها في سياقات مغادرة مدينة شبام, حين قالت: «لا داعي للقول بأننا كنا سعداء لنفضنا غبار شبام عن أقدامنا…»(55).

إن غبار شبام هنا هو نفسه الغبار الذي كاد يختنق به زوجها, حين حاول التعمق وسط مدينة شبام, والذي كان سببه الغوغاء, يمكننا تأويل الغوغاء هنا بالمعتقد الأيديولوجي الصادر عمّا وصفته بـ (التعصّب).

وعند تحليل العبارة السابقة: (لا داعي للقول بأننا كنا سعداء لنفضنا غبار شبام عن أقدامنا). نقرأ أسلوبًا تؤكد فيه الكاتبة على كره عميق لكل ما هو حضرمي أرضًا وإنسانًا, فلا داعي للتأكيد على سعادتهم بمغادرة شبام, فهي سعادة حتمية, لكن قولها: كنا سعداء لنفضنا غبار شبام عن أقدامنا, فيه احتقار لهذه الرؤية الأيديولوجية الحضرمية العميقة, وإن كانت نابعة عن تعصب ديني ـ كما هي مقتنعة ـ وهو الأمر الذي يزيد من قتامة الصورة, وسوئها حين يُنفض غبار هذه الفكرة؛ أي مظاهرها عن الأقدام, الأمر المغرق في المهانة والاحتقار.

إن السياقات المسرودة في تصويرات التشويه للصورة الحضرمية بنهج (البناء فالهدم) ـ عند قراءة بعض الصور الفنية منها نجدها تشكلت بأدوات مطبخية ـ تؤكّد بما لا يدع مجالًا للشك على أنها صادرة عن أنثى وليست عن ذكر؛ أي أنها للكاتبة نفسها وليست لزوجها كما تدّعي في بداية مشوارها التأليفي للكتاب, وأن الكاتبة (بنت) هي المؤلف الرئيس للكتاب إن لم يكن الوحيد, من هذه التصويرات المطبخية, قولها:

ـ تدقق في شكل كتل السكر؛ قائلة: «أُرسلت لنا كتل سكر مخروطية الشكل …»(56).

ـ تصف وديان حضرموت: «وتبدو كأنها قد أُخذت من النجد العالي كقطع صغيرة من الكعكة»(57).

ـ تصوّر قبرًا حضرميًّا: «وهو يتألف ببساطة من كومة طويلة من الحجارة غير المغطاة, تشبه إلى حدٍّ ما فطيرة البطاطا»(58).

ـ تصف مباني مدينة شبام: «… بيوت طويلة من النوع الثري والمبيَّض والتي تجعلها تبدو كعكة مستديرة كبيرة يعلوها السكر»(59).

ـ تصف صعوبة الهبوط إلى وادي عدم: «بدا الهبوط منه مشابهًا كثيرًا للهبوط عبر أطراف فنجان من الشاي…»(60).

وإن كانت تلك جملًا قصيرة متفرقة, فالجملة كما يقول مارتيه: «هي المقطع الأكثر صغرًا, وهي التي تمثل الخطاب تمثيلًا تامًا وكاملًا»(61).

  هكذا بدت تلك الصور المطبخية مشبهاتٍ بها دلالةً على موصوف تحركه بواعث أنثوية, في تنويعات تلك الأشكال الجميلة للصور الحالية المأكولة والمشروبة, والتي لا تنفك تكشف على شغف ومطامع عميقة مضمرة للحصول على نصيب من ملذات تلك الصور المكانية اللذيذة, من خلال تحقيق الغايات التي من أجلها ابتعثت هذه البعثة إلى حضرموت, فقط صورة القبر جاءت خارجة عن تكوين المذاق الحالي حين شُبه بشطائر البطاطا؛ كون القبر مكانًا غير مرغوب في مآله, لكنه احتفظ بصورة شطائر البطاطا؛ لأنه يظل بالنسبة لأي رحالة مكانًا أثريًّا ذا قيمة بحثية واستكشافية.

الخاتمة:

   إذن يمكننا القول وفقًا لما تقدم أن الملامح الفنية في الصورة المشوهة في الكتاب كانت صادرة عن الكاتبة (بنت) نفسها وليست عن زوجها, الأمر الذي يفسّر لنا مستوى الكره ومنه التشويه الذي طال ملامح الصورة الحضرمية (أرضًا وإنسانًا) في سياقات الكاتبة, لدافع آخر أقوى هو وفاة زوجها بعد رحلتهما بوقت قصير, وهو دافع قويٌّ بقدر ما يفسّر ذلك الكره والتشويه, بقدر ما يؤكد أنها الكاتبة الحقيقية للكتاب, والرسامة الماهرة لأسلوب البناء السطحي, فالهدم الجوهري, المصاحب للسياقات اللغوية لرسم الصورة الحضرمية المشوَّهة, وليس زوجها, لا سيما في جوانبه الفنية المشحونة ضد كل ما يمت بصلة إلى هذه الجغرافيا التي تسمى (حضرموت).

كما يحفزنا هذا البحث أن نطرح أسئلة تتجه نحو حقيقة رفض وصول الأجانب إلى عمق حضرموت, وإقامة علاقات ودية معهم, هل هو نابع عن باعث أيديولوجي ديني أم سلطوي نفوذي؟!.

    لن يستطيع أن يكتب تاريخًا حضرميًا محايدًا لحضرموت إلا كاتبٌ من خارج حضرموت؛ لذا لا ينكر البحث كلَّ الأوصاف التي ساقتها الكاتبة لرسم الصورة الحضرمية, فمنها ما هو حقيقة, ومنها ما هو مطمور يفتقد إلى جرأة الطرح, ومنها ما هو مجهول, قد يعلمه الخواص ولا يعلمه العوام, فالتاريخ بتعبير د. عبد الماجد عبدالرحمن: «التاريخ مثل الرواية تمامًا لا توجد قراءة واحدة صحيحة له, وقابل باستمرار للقراءة والقراءة الجديدة, وهو يتسع على الدوام لتأويل المختلف»(62).

لكن هذا لا ينفي أسلوب الإساءة, التي تصل إلى حد الكذب في مواضع كثيرة لرسم الصورة الحضرمية, وقد ناقش البحث بعضًا من دوافعها.

لا يستطيع مؤرخ حضرمي الدخول إلى العمق الحضرمي السلطوي السلطاني الحاكم, أو عمق التكوين القيادي القبلي (شيخ القبيلة), لكن المستكشف الأجنبي استطاع ذلك؛ لذا تبدو بعض الحقائق صادمة للقارئ ـ وقد تكون صحيحة ـ لكن البحث لا يناقش صدقها من كذبها, بل يناقش أسلوب لغة سياقات عرضها, التي تحيل في بعضٍ من مواضعها على كذب بائن, أو تشويه مترصّد؛ كما هي الحال في صورة (كثرة الذباب), التي استشهدت بها الكاتبة على عدم نظافة البيئة الحضرمية العامة (المدن), والخاصة (البيوت)؛ فمن صور المدن قولها واصفة المكلا:

«لكن وبالنسبة للجزء القريب من سوق السمك, يمكن القول فقط بأن هناك رائحة نتنة هائلة ومن المستحيل أن يغادر الذباب الأجزاء التي يباع فيها البلح وأنواع الفاكهة الأخرى»(63).

كان من الممكن أن تقول: (يكثر فيها الذباب), لكن سياق الكاتبة واصفًا مكانًا من الطبيعي أن لا يخلو من تواجد الذباب (سوق السمك), بهذا الأسلوب (ومن المستحيل أن يغادر الذباب), وصف مترصّد لتشويه ملامح هذه الصورة الاجتماعية التي كان بالإمكان أن تبدو جميلة تجسّد لحياة المجتمع البسيط في ذلك السوق الجميل.

وإذا تأملنا قولها: (يمكن القول فقط بأن هناك رائحة نتنة هائلة …), يؤكد لنا مدى الترصّد للتشويه والإساءة, فلا يوجد وصف لسوق السمك بعمقه الاجتماعي المكلاوي إلا هذا الوصف, وهو وصف الرائحة الموصوفة بوصفين هما النتانة الهائلة, ثم تنتفي الأوصاف المغايرة المحتملة, بحد تعبير الكاتبة السابق. هنا لا يقرأ القارئ تاريخًا له أهداف علمية مجرّدة عن الانتقام, والإساءة, بل يقرأ الجانب القاتم والمظلم من وجدان الكاتبة تجاه حضرموت, مجتمعًا ومكانًا.

ومن صور البيوت, الخاصة والمتطورة معيشيًّا, وصف سطح قصر السلطان القعيطي بشبام, قائلة: «اعتدنا أن نستنشق الهواء على السطح ليلًا, ولم يكن هناك بعوض, لكننا لم نعانِ في حياتنا أبدًا من الذباب كما عانينا هنا»(64).

قد يتلقى المتلقي هذا الخبر بالتصديق في حال لم يأت بالأسلوب البلاغي الإنكاري الذي يعتقد صاحبه سلفًا شك المتلقي للخبر, حيث توالت المؤكدات, النفي + (في حياتنا) + (أبدًا) التشبيه (كما) + الماضي (عانينا)+ تخصيص الوجهة المكانية (هنا).

كان سيكون الخبر أكثر قبولًا وتصديقًا, لو قال الأسلوب: (وقد عانينا من الذباب كثيرًا), وهو أمر لن ينفيه إلا فردٌ حاضر, لكن الأسلوب الذي عرضت به الكاتبة الخبر أسلوبٌ بقدر ما يبني التأكيد للسياق, يبعث الشك لدى المتلقي في تصديق الخبر.

وتتكرر صورة الذباب في وصف قصر السلطان القعيطي بشبام, في سياق الوصف السردي لمكونات القصر داخليًّا: «تم تعليق أطباق صينية قديمة للتوابل وصوان نحاسية للفناجين ومراوح؛ لإبعاد الذباب»(65).

ليس بغريب على الكاتبة رؤية الحضارمة يستخدمون المراوح اليدوية المصنوعة من سعف النخيل؛ لتخفيف حرارة الصيف بأرض حارة, وهي قد مكثت فترة لا بأس بها في حضرموت, فهي تعلم جيّدًا أنَّ هذه المراوح لها غاية تلطيف الجوّ وليس طرد الذباب, لكن الكاتبة تجتهد لرسم الصورة القذرة للبيئة الحضرمية الخاصة والعامة, بعيدًا عن نقد التبيُّؤ, أو النقد البيئوي(66), اتخذت الكاتبة من (الذباب) رمزًا وعنوانًا أساسيًّا لإبداء ملامح هذه اللوحة, التي سخّرت لرسمها ما استطاعت من وسائل التعبير السياقي, ووسائل الوصف السردي والتصويري.

وحين تتعلق في واجهة مجلس قصر السلطان أداة محاربة الذباب, هذا سياق لغوي يصوّر إعلانًا جليًّا لا يترك مجالًا للقارئ الذي يجهل هذه الحقيقة من تصديق وقبول هذه الفرية الجلية, وتؤكد من خلالها على كل لوحات الذباب القذرة التي ساقتها مسبقًا.

فتزداد تلك اللوحات قتامة وظلامًا حين تقرن بين الإنسان الحضرمي والذباب في صورة تشبيهية فنية, ظاهرها الكثرة, وباطنها ـ مما تقدم ـ يتجلّى وجه المقارنة العميقة في وجه الشبه, حين بدا الذباب مشبّهًا به لمشبَّهٍ هو الإنسان الحضرمي, وكما هو معلومٌ في علم البلاغة أن المشبه به يكون أقوى في الصفة المشتركة بينهما, فيكون الذباب هنا أعلى وأغلى قيمة من الإنسان الحضرمي, وإن تفننت في حرف مسار الصورة التشبيهية الظاهرة, فإنَّ تكاتف مثيلاتها من التصويرات السابقة يفضح حقيقة دلالتها, يتجلَّى ذلك في قول الكاتبة واصفة حال الناس في الهجرين: «… والمكان كله مرتع للمرض. بدا الناس معتلِّي الصحة جدًّا, وعندما يحل مرض الكوليرا يموت الناس كالذباب»(67).

هكذا تظل صورة الذباب صورة قارة في وعي الكاتبة, ورمزًا تسويقيًّا لرؤيتها الجديدة لملامح الصورة الحضرمية, كلما سنحت لها الفرصة التعبيرية ذلك, لم تقل يموت الناس كما يموت الذباب, أو كموت الذباب, الأمر الذي يدحر تشبيهَ موتٍ بموت هنا, ويحيل على تشبيه أناس بالذباب, وهو ما يتغيَّاه أساسًا أسلوب الوصف بهذه الطريقة من تشويه, وإساءة لملامح الصورة المرسومة.

وما قول الكاتبة: (والمكان “كله” مرتع للمرض) ـ بصيغة التعميم ـ إلا دليلٌ على ذلك الترصّد السيِّئ؛ لأنه وصف لا يقبله عاقلٌ, ولا يخفى زيفه على قارئ حكيم ومحايد.

على وجه العموم وعلى وجه الخصوص لم يتوانَ أسلوبا التصوير والسرد في الكتاب عن تشويه أي صورة إنسانية حضرمية, سواءً رجل دينٍ كما تقدّم شرحه, أو نساء, فيبدو السلطان (طائر كناري ضخم ملون)(68), وقد شُوِّه الإنسان الحضرمي في طور براءته ونقائه الفطري, حين يشبه مهد الأطفال بـ(أقفاص الدجاج الضيقة)(69), فتكون صورة الحالّ في المهد هي صورة الحالّ في تلك الأقفاص صورة كاريكوتورية مضحكة تسوّق الكاتبة من خلالها كتابها, وتبلغ غاياتها السيئة من هذا التأليف, منوعة تصويراتها بين أنساق فنيٍّة تشبيهيٍّة.

     لقد انحرف الكتاب في أسلوبه عن مساره الأساس المعلَن منذ مقدمته؛ المتمثل في رسم صورة لتلك الجغرافيا التي ظلت غامضة على المستكشفين الرحالة وطريق البخور, والوصول إلى العمق الحضرمي, وبيان السبل اليسيرة لمن أراد أن يكمل المشوار كما توضح الكاتبة. فغدا في سياقاته سردًا كيديًّا, يقوم على أساس تشويه صورة الإنسان الحضرمي أرضًا وإنسانًا, جغرافيا ومجتمعًا, أسهم في حرف ذلك المسار دوافع جمة, يرى البحث أن الزوجة (بنت) هي صاحبة ذلك التحوّل في النهج السردي والتصويري للكتاب, بعد وفاة زوجهاـ كما أسلفناـ لأسباب تم شرحها, يمكننا في الأخير أن نقول أن نهج السرد الوصفي والتصويري جاء على مسارين متعاقبين, مسارٍ صادق هدفه الاستكشاف وعرض الحقائق, كان يقوده الزوج (ثيودور), ومسار تالٍ هدفه الإساءة والتشويه, بعد وفاته تولّت القيام به زوجته(بنت), لعله من هذين المسارين بدا أسلوب التشويه يقوم على مسارين, متواليين بالترتيب الآنف ذاته, مسار يقوم على البناء يُحيل على نهج الزوج, ومسار قائم على الهدم هو نهج الزوجة بنت, وهو الأمر الذي يمكن أن يكون بسببه بدت هذه الثنائية متلازمة, في نهج التصوير السردي في أسلوب الكتاب (البناء فالهدم) = (ثيودور فـ بنت).

إن تلك اللوحة الحضرمية القاتمة المرسومة بهذا الأسلوب المتّبع في الكتاب, تضع للقارئ العام تبريراتٍ لوجود مستعمر بريطانيٍّ؛ يسعى لانتشال الأرض والمجتمع في حضرموت, من هذا المستوى المعيشي المتردّي والقاتم, إلى مستوياتٍ أرقى كذريعة يتذرّع بها باعثو هذا الفريق ـ الاستكشافي ـ لدى العالم.

يمكن إيجاز أهم عوامل التشويه, والإساءة والحقد المضمر في أسلوب الكاتبة, في الآتي:

ـ عدم استطاعة الزوجين (بنت) بلوغ غايتهما المنشودة من رحلتهما؛ بالوصول إلى قبر نبي الله هود ـ عليه السلام ـ وبئر برهوت.

ـ المناهضة القوية ـ المعلنة والمضمرة ـ من قِبل مكونات المجتمع الحضرمي عامة ضد كل من هو غير مسلم.

ـ قد تكون تلك الصور المشوهة والغريبة, عامل تسويق يسوّق من خلالها الكتاب لدى القارئ الأوروبي.

ـ سوء المعاملة والاستنزاف المالي من قبل بعض السلاطين(70) وشيوخ القبائل(71), والمرشدين والحمّالين, ووعورة الطريق إلى حضرموت الداخل عن طريق الجمال والخيل, انعكس سلبيًّا على حالة الزوجين, فظهر أثر ذلك على أسلوب الكتابة.

ـ محاولة إظهار المستوى المعيشي للمجتمع الحضرمي في صورة قاتمة سيئة, تبرّر وجود مستعمر خارجي ينتشلها إلى مستوى أفضل, لتحقيق غرض الجهة الداعمة للرحلة الاستكشافية.

ـ تهويل الصورة, والمبالغة في رسم قتامتها؛ لثني أي محاولات استكشافية أوروبية غير إنجليزية, لهذا الجزء من العالم.

ـ وفاة الزوج (ثيودور) قبيل تأليف الكتاب وبعد الرجوع خاليًا من تحقيق هدفه من الرحلة, كان حافزًا قويًّا في تجسيد هذه الصورة الحضرمية المشوهة, الأمر الذي يؤكد وجهة البحث من أن الزوجة (بنت) هي المؤلف الحقيقي للكتاب, والراسم الأساس لكل ملامح صوره القاتمة.

ولأنه لا يوجد كتاب خالٍ من قيم معرفية, أو فكرية, لا يدّعي بحثنا ـ في الأخير ـ أن كتاب الزوجين (بنت) خالٍ, من القيمة المعرفية, والتاريخية بتفاصيل الحياة الحضرمية, على العكس تمامًا سيجد الباحث والفيلسوف والمؤرخ المتابع لحركة التاريخ وأثرِها الحضاري بغيته؛ لا سيما في التعمق لمعرفة بعض المطمورات من العادات والأيديولوجيات المتعلقة بالتركيبة الاجتماعية الحضرمية؛ ممثلةً في البلدة والقبيلة والأسرة والمسجد الشيء الكثير؛ كون المؤلف قد ولج إلى عمق التكوين الاجتماعي الحضرمي(البيت), في كل مستوياته الطبقية السلطانية والقبلية والعامة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

41ـ السابق: 111.

42ـ السابق: 111.

43ـ لسان العرب, ابن منظور, مادة (ك د ر).

44ـ إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد؛ قال تعالى: «إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً» (التوبة : 80).

 ولما كان كذلك, فلما وصلوا إلى الثَّمانية, ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا: وثمانية, فجاء هذا الكلام على هذا القانون, ينظر, تفسير اللباب لابن عادل, أبو حفص عمر بن على بن عادل الدمشقى الحنبلى المتوفى بعد سنة 880 هـ, دار النشر / دار الكتب العلمية ـ بيروت: 1/3410.

45ـ جنوبي جزيرة العرب: 108.

46ـ السابق: 108.

47ـ السابق: 189.

48ـ السابق: 189.

49ـ السابق: 190.

50ـ السابق: 190 ـ 191.

51ـ السابق: 197.

52ـ أدب الرحلة في حضرموت, أ. د. مسعود عمشوش, ط(1), 2021م, مركز مهارات للتدريب والدراسات والترجمة والنشر, عدن, ص 5 ـ 6.

53ـ جنوبي جزيرة العرب: 196.

54ـ السابق: 197.

55ـ السابق: 197.

56ـ السابق: 111.

57ـ السابق: 127.

58ـ السابق: 172.

59ـ السابق: 187.

60ـ السابق: 215.

61ـ التحليل البنيوي للقصص: 23.

62ـ النص والخطاب, جدل القراءة والمعنى, د. عبد الماجد عبدالرحمن, ط(1), 2014م, مدارات للطباعة والنشر, الخرطوم: 164ـ 165.

63ـ جنوبي جزيرة العرب: 112.

64ـ السابق: 192.

65ـ السابق: 153.

66ـ هو اتجاه نقدي جديد نشأ حديثًا في مضمار النقد الأدبي, أخذ شكلًا محدَّدًا, وسمّي بنقد التبيُّؤ أو البيئوي ((Eco criticism هذا الاتجاه النقدي يهتم بدراسة العلاقة بين الأدب والبيئة, يمكن من خلاله دراسة الحضور الكثيف للحشرات كالنمل والصراصير والجراد في النصوص الشعرية, ينظر, النص والخطاب: 137.

67ـ جنوبي جزيرة العرب: 140.

68ـ ينظر السابق: 163 ـ 164.

69ـ ينظر السابق: 122.

70ـ ينظر السابق: 134.

71ـ ينظر السابق: 129.