مانهاتن الصحراء …. بين الأقدمية وخطر الزوال

حسن محمد البيتي

إعداد الباحث/ حسن محمد البيتي

مرحلة الماجستير بتخصص الصحافة

إشراف الدكتور/ مهيب النشار صالحة

محاضر بالمدرسة العليا للصحافة والتواصل بباريس سنة 2022

المقدمة

     إذا ذكرت ناطحات السحاب اليوم، فالكل سيشير إلى برج خليفة الموجود في دبي، والذي بني بأحدث التقنيات الهندسية التي سهَّلت من بناء ناطحات السحاب وسط تضاريس جغرافية مختلفة، وأما أقدمها والتي جعلت المستكشفة الإنجليزية فريا ستارك تطلق عليها “مانهاتن الصحراء”[1]، أو كما يطلق عليها المستشرق الألماني هانز هلفرتز بــ “شيكاغو الصحراء”[2]، فهي موجودة منذ القدم، وبالتحديد في شرق اليمن، والمعروفة بشبام.

     لشبام وجدان في تراث العرب قبل الإسلام، ففي وصف امرئ القيس الكندي الحضرمي لها، قال في قصيدته (لمن الديار):

فَظَلِلتُ في دِمَنِ الدِيارِ كَأَنَّني *** نَشوانُ باكِرَةٌ صَبوحُ مُدامِ

أُنُفٍ كَلَونِ دَمِ الغَزالِ مُعَتَّقٍ *** مِن خَمرِ عانَةَ أَو كُرومِ شَبامِ

وأما فيما بعد الإسلام، فجامع الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي أمر ببنائه سنة 166 للهجرة، وهو خير شاهد على أن شبام كانت حاضرة من حواضر الدولة العباسية، لِما لها من أهمية دينية واقتصادية.

     أشار مؤرخ اليمن أبو محمد الحسن الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” إلى أقدمية بناء شبام، العائد إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأنها أول بلاد حمير.

     تعد شبام قديـمًـا عاصمة مملكة حضرموت إبان القرن الرابع الميلادي، وذلك بعد أن كانت عاصمتها شبوة، التي انهارت بعد الدمار الذي حل بها، ففر سكانها إلى شبام لبناء موطنهم الجديد كما ذكر ذلك الهمداني، وشبام تقع على طريق التجارة في شبه الجزيرة العربية، والذي تمر بـه القوافل المحملة بالتوابل والبخور.

     لكن بات التدهور ظاهرًا في شبام بسبب العبث بلون مبانيها ذات اللونين الأبيض والبني، حيث ظهرت بعض العمارات باللون الأزرق، كذلك بحسب اليونسكو فإن إهمال نظام إدارة الفيضانات الزراعي القديم بوادي حضرموت، والضغط الزائد على أنظمة الصرف الصحي التقليدية من خلال إدخال إمدادات المياه الحديثة إلى جانب أنظمة الصرف، يسبب تدهور لمعالم المدينة، في نهاية عام 1984 وجه المدير العام لليونسكو نداءه من أجل الحفاظ على مدينتي شبام وحضرموت (المعني بها سيئون).

     تقوم اليونسكو بالتعاون مع الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية في اليمن لتأهيل المباني في شبام منذ عام 2000، وقد تم تأهيل 60% من تلك المباني، في حين أن في الجانب الآخر تمَّ توثيق 90% من المباني القديمة[3].

     ولكن وبفعل الحرب الدائرة في اليمن منذ عام 2015، والتي ألقت بظلالها على السياحة والآثار، كيف أصبحتْ حال شبام في الوضع الحالي؟ وهل سيتم استكمال الترميمات المتعلقة بالحفاظ على هذه المدينة التاريخية؟

العمران في شبام

إذا تحدثنا عن أقدمية بناء ناطحات السحاب في العالم، فلن نجد ما هو أقدم من مباني شبام الشاهقة، التي بنيت من الطوب اللبن، والمجفف في أشعة الشمس على شكل مستطيلات، يتم رصها فوق بعض، لنرى عمارة تصل إلى 15 طابقًا، تغطى من الخارج بجص مخلوط من التراب والقش، ويتراوح سمك طوابقها الأرضية ما بين متر ونصف إلى مترين، ويتم طلاء الطوابق العليا بطبقات سميكة من المرمر الأبيض، في حين تصنع النوافذ من مواد خشبية منحوتة بشكل فني مع وجود فتحات لتسمح بمرور التيارات الهوائية عند إغلاقها[4]، ويتناسب صنعها مع طبيعة الطقس بالشتاء والصيف، أما أسطح هذه المنازل فهي مقاومة للماء بعد وضع الجص الرملي المصنوع من الجير، ورماد الخشب، والرمل الخشن، وهذا النمط المعماري يعطي قوة ثبات وبقاء لهذه المنازل على نحو قرنين أو ثلاثة قرون، وأقدم هذه المنازل التي تم رصدها من خلال تاريخ البناء المؤرخ على بابها هو بيت عبد الله بن فقيق المبني سنة 1609م، لكن معظم المنازل يعود تاريخها إلى ما بين 1880 و1915 وفق ما أشار إليه قائد البعثة الفرنسية[5] د. جان فرانسوا بريتون عند توثيقه لعمران شبام.

     أما عن طوابقها الشامخة، فقد كان كل طابق منها يؤدي وظيفة محدَّدة، فتخزين الحبوب والأغذية الأساسية يتم في الطوابق الأرضية، التي يتم توفير مجال للتهوية لئلَّا تفسد المواد المخزنة فيها، في حين يتم إسكان الأغنام والماعز في الغرف المجاورة في الطابق الأول ليلًا.

     أما الطابقان الثاني والثالث فبهما غرف متعددة لساكنيها من الرجال، يطلق عليها “الخدور”، في حين يخصص الطابقان الرابع والخامس خدورًا للنساء، إلى جانب المطابخ ودورات المياه، ويخصص الطابقان السادس والعلوي للأطفال والمتزوجين حديثًا في الأسرة الممتدة (الأسرة الممتدة هي الأسرة التي تمتد خارج نواة الأسرة الأساس، وتتكون من أهلية الزوج والزوجة كالأعمام والأخوال والأجداد).

يعود البنيان في مدينة شبام إلى القرن السادس عشر الميلادي، وبالتحديد بعد الفيضان المهول الذي دمر هذه المدينة في مارس 1532 كما تشير لذلك مصادر اليونسكو، التي ضمت المدينة ضمن قائمة التراث العالمي سنة 1982، وبحسب الإحصاءات التي استند عليها د. جان فرانسوا بريتون فإن عدد المساكن التي كانت موجودة في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (قبل الوحدة) كانت تقدر بـــ 500 مسكن، وله مؤلف أتى من خلال نتائج زيارة البعثة الفرنسية اليمنية المشتركة، أسماه “شبوة عاصمة حضرموت القديمة”، وذلك سنة 1966[6]، وقبله مؤلف “شبام ووادي حضرموت” الذي أورد فيه خلاصة زيارته وتصويره الفوتوغرافي لهذه المدينة سنة 1985[7].

     ويقول الدكتور بريتون: سافر ربع سكان شبام إلى الخارج بعد منتصف القرن السابع عشر، واستقروا في سنغافورة وماليزيا وجاوا وباتافيا وجنوب الهند، ليشكلوا أكبر عائد من الثروة بين عامي 1820 و1870، إذ تم استثمارها في تشييد مبانٍ باهظة الثمن في شبام، في صورة تعكس هيبة هذه العائلات التجارية في بناء هياكل شاهقة.

     تعد شبام مدينة محصنة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، عندما كانت تتبع مملكة حضرموت، فهي ليست محوطة بجبلين، وبجوارها وادٍ يجري فيه الفيضان، بل هي مُسَوَّرَةٌ بالأسوار البالغ ارتفاعها سبعة أمتار، وبها بوابة واحدة، والتي تم الاهتمام بها إبان حكم السلطنات في فترة المحميات البريطانية في شبه الجزيرة العربية، كالسلطنة الكثيرية، وسلطنة بني دغّار، وتمتد مساحة أسوارها 250 مترًا من الشمال إلى الجنوب و380 مترًا من الشرق إلى الغرب.

إنقاذ شبام

     وبحسب تقرير الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GTZ المعنون بـ “إعادة تأهيل مدينة شبام” سنة 2000، ذكرت فيه الوكالة بأنه تم الشروع في تنفيذ مشروع التنمية الحضرية في شبام على ثلاث مراحل لعشر سنين، وهي مبادرة يمنية ألمانية مشتركة، تهدف إلى وقف هجرة السكان إلى الداخل اليمني أو الخارج، وذلك من خلال توفير الدعم الفني والمالي لتجديد ما يقرب من نصف المخزون السكني، وقد عملت الوكالة مع السلطات المحلية لتحسين الخدمات الأساسية والبنية التحتية، وتم من خلال هذا المشروع ترميم 200 منزل، ومساجد شبام، واستعين بذلك بالخبير الاقتصادي الأمريكي بوركهارد فون رابيناو الذي وضع الحلول لأجل إبقاء السكان بشبام بهدف إحياء عمرانها، وقد كلّف هذا المشروع قرابة 5.1 ملايين دولار وفق الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي.

     وقامت الوكالة أيضًا بتدريب الحرفيين المحليين، وتقديم دروس محو الأمية للنساء، وفرص لتعلم مهارات جديدة، وإحياء الزراعة في المنطقة النائية من خلال ترميم القناة القديمة، ونظام الري بالغمر[8].

     ولكن في تقرير لها سنة 2007، يتبين أن عدد المباني في شبام انخفض من 500 مسكن – رصد د. بريتون مسبقًا – 437 منزلًا خاصًا، 398 منها غير صالحة للسُّكنَى، و 39 في حالة خراب، كما أن هناك ستة مساجد داخل أسوار المدينة بالإضافة إلى ستة مساجد تقع في حقول الري بمجرى السيول خارج أسوار المدينة، كذلك توجد مدرستان ابتدائيتان وزاوية علمية واحدة فقط، كما يوجد بالمدينة أربع ساحات عامة، بالإضافة إلى ساحات صغرى بين التجمعات السكنية، وأربعة مبانٍ تضم جمعيات خيرية؛ وقصران عموميان، وبوابة المدينة، وعيادة صحية، ومجمع حكومي بالبوابة الجنوبية يتكون من أربعة أبنية. كما يوجد في شبام 134 محلًا تجاريًا[9].

     وبالأخير، ضمت اليونسكو كل المدن التراثية اليمنية، وبالأخص شبام وصنعاء إلى قائمة التراث المهدَّد بالخطر في نتائج اجتماع الدورة 39 للجنة التراث العالمي في 28 يونيو 2015[10].

     ولا يزال هذا الخطر يتجدَّد، خصوصًا بعد سيول ديسمبر 2021، التي دمرت أجزاء من المباني، وقد سلطت قناة دويتشه فيليه DW تقريرًا لما يجري فيها من إهمال المسؤولين اليمنيين، ومحاولات جمعية حماية العمارة الطينية للحفاظ على ما بقي من هذا التراث العمراني، وقد جاء على لسان أمينها العام برك باصويطين الذي طالب بمكتبٍ إسعافي لإنقاذ البنية التحتية التي تضرَّرت بسبب السيول.

     كذلك لم تعد السياحة مثلما كانت عليه في السابق، فالرحالة الهولندي المعاصر بوريس كيستر يقارن بين رحلتين قام بها لشبام إحداهما في مايو 2004، والأخرى في يوليو 2021، إذ باتت مرافقة السياح تتم من قِبل مرشد سياحي لديه السلاح، وجُعِل لدخول شبام والخروج منها ساعات محددة، كما أن نقاط التفتيش أصبحتْ شيئًا لافتًا لم يجده كيستر في زيارته السابقة، وذلك بسبب حرب اليمن الدائرة منذ 2015.

     هذه حال شبام التي لم يعد لها حكومة تُولِيها رعاية، وجهودُ السكان باتتْ متواضعة للحفاظ على ما بقي في ظل ارتفاع لأسعار مواد البناء الطيني؛ نظرًا لانخفاض سعر الصرف وتدهور الاقتصاد.


[1] – المصدر: البوابات الجنوبية لجزيرة العرب، رحلة إلى حضرموت 1934م: ص211

[2] – المصدر: اليمن من الباب الخلفي: ص59

[3] – المصدر: منصة اليونسكو، تم الاسترداد من الرابط: http://whc.unesco.org/en/list/192/

[4] – المصدر: المركز الوطني للمعلومات باليمن، تم الاسترداد من الرابط: https://web.archive.org/web/20060717202529/http://www.yemeninfo.gov.ye:80/ENGLISH/CULTURE/shibam.htm

[5] – المصدر: من سبأ إلى صنعاء: البحث الأثري الفرنسي في اليمن حتى عام 2012م، تم الاسترداد من الرابط: https://books.openedition.org/cefas/2698

[6] – المصدر: شبوة عاصمة حضرموت القديمة، تم الاسترداد من الرابط: https://ia903109.us.archive.org/19/items/yemenhistorybooks/YHL/178-book.pdf

[7] – المصدر: شبام ووادي حضرموت، تم الاسترداد من الرابط: https://www.archnet.org/publications/2894

[8] – المصدر: إعادة تأهيل مدينة شبام، تم الاسترداد من الرابط: https://www.archnet.org/publications/5263

[9] – المصدر: مشروع التنمية العمرانية، تم الاسترداد من الرابط: https://www.archnet.org/publications/1569

[10] – المصدر: الحضر وصنعاء وشبام على قائمة التراث المهدد بالخطر، تم الاسترداد من الرابط: https://ar.unesco.org/news/lhdr-wsn-wshbm-qy-m-ltrth-lmhdd-blkhtr


المصادر

ستارك، فريا. (2013). البوابات الجنوبية لجزيرة العرب، رحلة إلى حضرموت: 1934، (ترجمة وفاء الذهبي). أبو ظبي، الإمارات: دار الكتب الوطنية. (العمل الأصلي نشر في عام 1936).

جونستون ، باميلا. (2007). إعادة تأهيل مدينة شبام. الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. تم الاسترداد من الرابط: https://www.archnet.org/publications/5263

الدملوجي، سلمى. (2007). مشروع التنمية العمرانية. الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. تم الاسترداد من الرابط:    https://www.archnet.org/publications/1569

هلفرتز، هانز. (1985). اليمن من الباب الخلفي. (ترجمة خيري حمّاد). الطبعة الثالثة. صنعاء، اليمن: المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع. (العمل الأصلي نشر في عام 1959).

بريتون، جان. (1985). شبام ووادي حضرموت. سنغافورة، سنغافورة: شركة كونسبت ميديا المحدودة للنشر.

مدينة شبام القديمة المسورة. (بدون تاريخ). اليونسكو. تم الاسترداد من الرابط:    http://whc.unesco.org/en/list/192

الملف الصحفي

الحضر وصنعاء وشبام على قائمة التراث المهدد بالخطر. (2015 يوليو 2). اليونسكو. تم الاسترداد من الرابط:

https://ar.unesco.org/news/lhdr-wsn-wshbm-qy-m-ltrth-lmhdd-blkhtr

شبام اليمن … فخر التاريخ وتاج الحضارة. (2000 أكتوبر 1). المركز الوطني للمعلومات باليمن. تم الاسترداد من الرابط:

https://web.archive.org/web/20060717202529/http://www.yemeninfo.gov.ye:80/ENGLISH/CULTURE/shibam.htm

روبان، كريستيان؛ شارلو، جيوم. (بدون تاريخ). من سبأ إلى صنعاء: البحث الأثري الفرنسي في اليمن حتى عام 2012. المركز الفرنسي للبحوث في شبه الجزيرة العربية. تم الاسترداد من الرابط: https://books.openedition.org/cefas/2698

مانهاتن الصحراء في اليمن: أقدم ناطحات سحاب في العالم مهددة بالإندثار. (2021 ديسمبر22). قناة دويتشه فيليه الألمانية. تم الاسترداد من الرابط: https://p.dw.com/p/44jID

كيستر، بوريس. (2021). شبام. منصة مغامرات السفر. تم الاسترداد من الرابط: http://www.traveladventures.org/continents/asia/shibam.html