تجليات الجمال في قصيدة (الصيق) للشاعر حسين عمر شيخان

نقد

صالح سعيد بحرق

     قصيدة (الصيق) هي إحدى قصائد ديوان (الغيمة التائهة) للشاعر حسين شيخان، الذي جمع مادته وكتب مقدمته الأستاذ الدكتور عبد العزيز الصيغ، ويتكون الديوان من خمس وستين قصيدة، وجاءت قصيدة الصيق قبل القصيدة الأخيرة، واحتلت الصفحات 145 – 150، وهي قصيدة تتألف من مقاطع، وكل مقطع له روي خاص.

     وقبل أن نقوم باستعراض هذه القصيدة دَعُونا نتعرَّف على الشاعر حسين شيخان؛ فقد ولد هذا الشاعر في مدينة المكلا سنة 1929م، وتخرج في المدرسة الوسطى، وتلقى تعليمًا خاصًّا على يد الشيخ عبد الله باعنقود، وعمل في غرفة النشر بالمستشارية، كما عمل مُذِيعًا في المكلا إبَّان الحرب العالمية الثانية، كما عمل أيضًا موظفًا بالجوازات، وتوفي في 9 مارس عام 1997م.

     وعن تجربته الشعرية يقول عنه أ.د. عبد العزيز الصيغ:

     ((لقد كان حسين شيخان شاعرًا في قصائده، كما كان شاعرًا في حياته، وكان الشعر والأدب هاجسه الأول، وهو شخصية أدبية معروفة في المكلا، بل هو من الشخصيات الأدبية النادرة، ولم أجد شخصًا التقى به دون أن يترك لديه انطباعًا قويًّا، فهو أديب اجتماعي، له حضورٌ طاغٍ في الملتقيات، إلا أنه من غير المكترثين بالظهور والشهرة، على الرغم من امتلاكه أسبابهما)) [الغيمة التائهة: ص8].

     ويقول الصيغ أيضًا مؤكدًا شاعرية شيخان: ((وأنت تجدُ في الديوان نفس الشعراء الكبار، الذين يحمل شعرهم همًّا، وليس الشعر عنده ترفًا كما تجده لدى الكثيرين، ولذلك فإن الموضوعات الشعرية عنده هي موضوعات الحياة؛ إذ تتحوَّل الحياة عنده إلى قصيدة، فقد كان ينظر إلى الحياة بعيون شاعر)) [الغيمة التائهة: ص8]. 

     ويقول عنه الأديب والناقد الأستاذ الدكتور عبدالله حسين البار في مجلة حضرموت الثقافية العدد (7) يناير – مارس 2018م، تحت دراسة نقدية بعنوان (الغيمة التائهة أو الشاعر حسين عمر شيخان):

     ((كان الشاعر حسين عمر شيخان واحدًا من ثلة من الشعراء، اتجهوا بالشعر العربي فيها وجهةَ التجدُّدِ والإبداع، فتجاوز مع أترابه حالًا من (الإستاتيكية)، التي اتسم بها مجتمع حضرموت الثقافي والأدبي إلى حالٍ من (الديناميكية)، كانت تمثل في شعره أملًا مَرجُوًّا، ولكنه انكسر، فخابتْ ظُنونٌ ونكصَ افتراضٌ رأى فيه منشودًا فاكتفى بالموجود، ولعل حسينًا وهو الشاعر المتفنّن المبدع قد ظلم شاعريته حين لمْ يعتنِ بما أنتج إلا في أقل القليل، فصار هو الموجود الذي دل بيقين على شاعر متفنّن مبدع اسمه حسين عمر شيخان، غيمةٌ تائهةٌ في فضاء الإبداع في حضرموت)) [مجلة حضرموت الثقافية: ص94].

     ويضيف الدكتور البار في فقرة أخرى: ((والناظر في شعر حسين شيخان يلفته طغيان استخدام ضمير المتكلم، الذي ينبئ عن طغيان ضمير حضور الذات المتكلمة في كل قصائده)) [مجلة حضرموت الثقافية: ص86].

     من خلال ذلك يتضح لنا أننا أمام شاعر مبدع، ينطلق من رؤية واضحة لطبيعة الشعر ودوره في الحياة.

     أما قصيدته الموسومة بـ (الصيق)، التي نحن بصدد استعراضها واكتشاف مواطن الجمال فيها، فهي قصيدة مطوَّلة تضمُّ مقاطع متعدّدة، كلُّ مقطعٍ له رَوِيٌّ خاص به، وهذا في ذاته تجديدٌ في بناء القصيدة وتوزيع أفكارها على عدة محاور تبعًا لنفس الشاعر، وتتحدَّث هذه القصيدة من سواها من قصائد الديوان عن وصف نبع ماء الصيق في الديس الشرقية. وهو نبعٌ جارٍ طوالَ العام، لا يتوقف، أشبَهُ ما يكون بالجدول أو النهر الصغير، وتحتوي مياهه على مادة كبريتية تستخدم لعلاج رضوض الجسم والروماتيزم وآلام المفاصل، ويعد نبعُ الصيقِ شريانَ الحياة في الديس منذ قديمِ الزمان، فهو مصدرٌ من مصادر إمدادات المياه إلى الخزانات والمساجد، وقد نُسِجَتْ عنه عددٌ من القصص والحكايات، وقد قصدَهُ الشاعر ضمنَ زياراته للديس الشرقية، فأُعجِبَ به فقال هذه القصيدة.         

هـنـا الـصـيق فجر هذي الحياة  ***  وأبــدعـها مـن قـديــم العصور

تـعـالي مـع الـريح نـغـدو إلـيـه  ***  ونستبق الموج نحو الصخــور

ونغدو مع الفجر فوق الضفاف  ***  ونـنساب في الماء ظلاً ونــور

تـعـالي نـشـم الـشـذى والـنــدى  ***  ونـمـنـح أنـفـاسـنـا للــزهــــور

ونـفـتـح آلامــنــا لـلـــخــريــــر ***  ليسكب في النفس سحر الدهور

     من هنا تبدأ رحلة الشاعر إلى نبع الصيق مع الريح والفجر والسحر، في إقبالٍ جميل على الطبيعة، واستسلامٍ لجمالها وحسنها واندماجٍ فيها، في متعدّدٍ من الصور والعبارات الجميلة والاستعارات: (نستبق الموج)، (ننساب في الماء ظلا ونور)، (نمنح أنفاسنا للزهور)، (ونـفـتـح آلامنا للخرير)، (ليسكب في النفس سحر الدهور)، لقد تضافرت هذه العبارات على إبراز هذا اللقاء الخالد مع نهر الصيق، وهو لقاءٌ يحفر في القلب ذكرى لا تزول، نَشُمُّ فيها الشَّذَى والنَّدَى، وننسابُ في الماء ظِلًّا ونورًا.

     إن الشاعر يحتفي بالمكان هنا على نحوٍ خاص، ويخلع عليه من روحه وتعطشه للجمال، إن جزئيات الطبيعة هنا: الموج – الخرير – الفجر – الشذى – الندى – الزهور قد اندغمت مع النص وتماهت، وتحول نبع الصيق إلى نهر مدهش على ضفافه يقام معبد الحسن والجمال:

هنا الماء سر بقاء الحياة *** وخالقها من خواء العدم

هنا نقطة البدء والانطلاق *** هنا الكون قطرة ماء ودم

     ويحيلنا هذا المشهد إلى الآية القرآنية (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [ الأنبياء: 30]، حيث الماء سر بقاء الحياة، وهي إشارة إلى معارف الشاعر، ولذلك فضل الشاعر التأمل عند نبع المياه ، فيقول لحبيبته :

تعالي نعش عند نبع المياه *** على السفح أو في أعالي القمم

فنمتص منها رحيق الخلود *** فنقوى على عاديات الهرم

     فهو يفضل العيش مع حبيبته في أحضان الطبيعة، على عادة الشعراء الوجدانيين، الذين هربوا من الواقع المهزوم وارتموا في أحضان الطبيعة، فأصبح يحلو لهم العيش عند نبع المياه، وعلى السفوح وأعالي القمم حيث تعانق أرواحهم الجمال والصفاء، وتأمَّلْ معي هذه الصورة (فنمتصُّ منها رحيق الخلود) التي أضفتْ على المشهد جمالًا أخَّاذًا.   

     ولا يكتفي الشاعر بهذه الصورة التي قدمها، بل يطمح إلى ما وراءها فيقول:

ونمضي إلى ما وراء الحياة *** وننفذ إلى خلف البلى والظلم

     إنه ينشد الفناء، وتلك من خصائص المدرسة الرومانسية:

ونغفو على العشب بين المروج *** ونصحو على هتفات النغم

     لقد هام الشاعر حبًا بالطبيعة في الصيق، حيث العشب على ضفتي الماء، وحيث تغاريد الطيور وصحو الطبيعة:

هنا صور الحسن تلقي الظلال *** هنا الشعر والحب منذ القدم

     لقد فجر الشاعر حسين شيخان في الصيق طاقات جديدة، وحوَّلَهُ إلى منتجعٍ للحلم ومسرحًا للطبيعة.

     ويستمر الشاعر حسين شيخان في الاحتفاء بالصيق، فيخلع عليه عددًا من النعوت والصور الجمالية، فيقول هاتفًا:

تعالي إلى معبدي في الضفاف *** ليحيا بأنفاسنا المعبد

فقد تهت بين الهدى والضلال *** ولا أدري كيف يجئ الغد

     وتلاحظ هنا ألفاظ الرومانسية مبثوثة في البيتين، مثل: معبدي، الضفاف، أنفاسنا، تهت، التي ترسم حيرة شعراء الطبيعة بعد أن ضاقوا ذرعًا بمشاكلهم.

     وعند الرجوع إلى سيرة حياة الشاعر نلاحظ إلى أنه عانى عددًا من المشكلات الاجتماعية، وقد لخَّصها الشاعر حسين شيخان في إحدى قصائده في الديوان، بعنوان (قل للمحافظ)، نختار منها هذه الأبيات:

لم يبقى بعدك يا صلوح أصحاب *** متى نراك فنحن اليوم أغراب

نشكو التغرب بين الأهل في وطن *** لا يستطاب وأنتم عنه أغياب

تركتنا في المكلا ما لنا سند *** عز النصير ، وعز اليوم أحباب

فلا المحافظ يدري ما غشى بصري *** وانتابني وهو بي ما زال ينتاب

أنا القعيد بداري وهو يجهلني *** تعطلي خلفه داء وأسباب

معوق أنا لا أقوى على عمل *** براثن الداء في عيني والناب

وددت لو طرت كي افضي بمشكلتي *** يا ليت لي قدرة في الكون كنكورد والجامبو

ومثلك الآن من تجدى وساطته *** والقول منك له وزن وترحاب

قل للمحافظ بيتي مسه ضرر *** وانهد سقف وجدران وأخشاب

يكاد ينقض فوق القاطنين به *** في كل صدع يرى للموت سرداب

فصل الربيع على الأبواب ينذرنا *** والسحب من فوقنا في الجو أسراب

***      ***

     وهذا يفسر لنا سِـرَّ التحوُّلِ إلى الطبيعة في بعض قصائد الشاعر، واسمعه يقول في قصيدة الصيق:

تعالي هنا منك فوق الهضاب *** بقــايا طوتها نقوش الرياح

هنا من شبابك شيء أحس به *** فــي التلــــول وفوق البطاح

وأجثو أضم لصدري الفراغ *** وذكرى ليــال حسان مـــلاح

     وهذا المعنى يتلاقى مع قصيدة أخرى من قصائد الديوان بعنوان (ليل): ص19- الغيمة التائهة، حيث يقول:

يا ليل إنك صاحبي في محنتي *** بيني وبينك عشــــرة واخاء

وحكايتي في الحب أنت كتبتها *** والقارئون نجومك الغــــراء

أمشي على جمر الحرائق صامتا *** للقا الحبيب لو الحبيب يشاء

يا ليل ذوبني السهاد كشمعة *** تبكي وترقص فوقها الأضواء

     ونلاحظ خطاب الشاعر لليل حيث خلع عليه همومه وأتعابه كأنه شخص يفهم ويعي، ولذلك يمكن أن نطلق على شاعرنا بشاعر الطبيعة والوجدان. لسلاسة لفظه، وغزارة معانيه، وإيحاءات صوره.

     ويستمر الشاعر في غضون هذه القصيدة ليكشف عن تأثير (الصيق) على نفسه عندما أتاه زائرًا:

نغم من مسارب الصيق بنا *** ينساب شجياً على معابد نفسي

يغمر الروح بالصفاء وبالوجد *** وسحر الرؤى يهدد حسي

والقوافي تطل من بين جنـ *** ـبي ومن خلفها ملامح يأسي

أوقدي لي الشموع واستمعي شعـ *** ـري وهاتي إلي خمري وكأسي

واسنديني إلى ذراعك فالأو *** زان سكرى تموج داخل رأسي

     لقد وجد الشاعر متنفَّسه في الصيق حتى غدا الصيق هو المعادل الموضوعي له يتآخى معه، ويتماهى، ويتخذه قاربًا يهرب به إلى الأعماق؛ لأنه يغمر الروح بالصفاء، وسحر الرؤى، حتى يصل إلى هذه الإشارة الوجدانية الجميلة:

فنفوس الأصيل يدفعها الليل *** ففيها آثار يومي وأمسي

     وتصل إيقاعات الشاعر إلى ختام القصيدة عندما تتجسد له حبيبته في الصيق بجسدها، أما روحها فهي كامنة في أشعاره، يقول:

أنت تجيئين في ربى الديس بالجسم والروح أنت في أشعاري

اتملى سناك في كل بيت مـــن قـــصيـــدي فـتنتشي أفـــــكاري

وتطلين من خـــــلال رؤى ذهـني مــعــان تـفيــــض بالأنـــوارِ

أنتِ هذه الآثـــــار في عالمي المحدود بلى أنتِ روعة الآثــــارِ

     وكالعادة تفيض هذه المقطوعة بالجمال والروعة، وتداعيات الصور، وما تخلفه من انطباعات وجدانية وحسية.

     ويستمر الشاعر يخاطب حبيبته قائلًا:

تملأين الوجود حولي بالسحر وبالفن والدلال

وتمدينني بوحيك من عينين كم تلهبان كل خيالي

وأرى في ظلال صدرك آفاق قصيدي وقصتي ومآلي

وامنحيني من خمر ثغرك ما ينعش روحي وما يضيء خيالي

     أنت هنا أمام بوح شفيف يخامر الروح، فيذيب تصدعاتها، يحمله هاجس الفن والجمال إلى مرافئ الدهشة، والحبور، والنور، ويبقى الصيق في ذاكرتنا ملتقى لانهمارات النفس، وصدى جميل للإبداع.