تاريخ
أنور حسن السكوتي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 22
رابط العدد 1 : اضغط هنا
على الرغم من الشهرة الواسعة التي حظيت بها تلك الرحلات الإستكشافية العظيمة التي قام بها الصينيون في الثلث الأول من القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي والتي عرفت باسم (رحلات الكنز), وتحديداً مابين 1405م – 1433م, وما رافق تلك الرحلات (السبع) من كتابات وأبحاث ودراسات عزَّزت من شهرتها وقيمتها, وما لاقته لاحقاً من حفاوة وتكريم لدى عدد من الشعوب التي زارتها, على الرغم من كل هذا, إلا إننا – وللأسف – لازلنا في هذا القطر الحضرمي (العريق) نجهل الشئ الكثير عنها, بل ونجهل حتى أرتباط تلك الرحلات الصينية بحقبة تاريخية مهمة من تاريخنا الوسيط, كم كنّا ولازلنا في أمسّ الحاجة لسبر أغوارها واستجلاء غوامضها وأسرارها .
ولعل في هذه المقدمة البسيطة دافعاً لي لأسلط – ولو قليلاً – من الضوء لتلك الرحلات الإستكشافية، وخاصة في الجانب المتعلق بمدينة الشحر (الأسعاء) وهي المدينة الحضرمية الوحيدة التي حظيت بعدد من زيارات ذلك الأسطول ضمن رحلاته السبع للبلدان المطلة على المحيط الهندي, ومكة المكرمة في البحر الأحمر. ولكي لا أطيل على القارئ، وخاصة أن هذه المادة (مقالية) وليست بحثية صرفة، سأحاول هنا تقديم ولو لمحة مبسطة لذلك الأسطول وقائده الصيني المسلم (تشينغ هو) وما كتب في (بعض) سجلات الرحلة عن هذه المدينة العريقة. وقبلها لمحة موجزة عن حاكم الشحر وحيريج آنذاك وهو السلطان: ( سعيد بن مبارك بن فارس بادجانة الكندي ) (1) الذي وصفه المؤرخ سعيد عوض باوزير بقوله :” كان حازماً يقظاً حليماً مهاباً من جميع الناس, وقد اهتم عقب توليه الشحر بتحسين حالتها الإقتصادية, فبعث رسله إلى القبائل البدوية يدعوها إلى القدوم بقوافلها إلى الشحر لينافس بذلك الأسواق الحضرمية الأخرى . واستطاع الأمير سعيد أن يوطد لحكمه في الشحر بما كان يقوم به من أعمال مجيدة أطلقت الألسنة بالثناء عليه, فقد سار في الناس بالعدل وساسهم بالحكمة والحزم حتى أدركته المنية, فخلفه في الحكم أبنه محمد بن سعيد ” (2) ونزيد بأن هذا السلطان خلال فترة حكمه استطاع بناء أسطول بحري كبير, وهو الذي استعمله – لاحقاً – ابنه محمد بعد أن زاد عليه لغزو عدن وانتزاعها من أيدي الطاهريين سنة 861هـ / 1456م (3) .
ولعل في وجود مثل هذا الأسطول الضخم أمام سواحل حضرموت, والشحر تحديداً, دافعاً لجعل ذلك الأسطول الصيني الضخم أثناء وصوله سواحلنا, لأن يظهر نوعاً من إستعراض القوة والحركات الإستفزازية وهو مالم يفعله مع عدد من الموانئ المطلة على سواحل العربية الجنوبية الأخرى التي زارها كهرمز وظفار, باستثناء عدن ومقديشو (4) التي فعل فيها الشيء نفسه لبعض الاعتبارات لسنا بصددها هنا.
أما عن قائد الأساطيل الصينية الذي نعني به فهو القائد المسلم الطواشي: (شينغ هو) واسمه حجي محمود شمس, أحد أحفاد حاكم منطقة يونان الصينية المسلمة . وينتمي الى أحد السلالات العلوية فيها والمنتشرة في آسيا الوسطى, وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه الحفيد الـ(36) للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (5) . ولد شينغ خه سنة 772هـ / 1371م, وكان يطلق عليه في صغره (ماسانباو) بمعنى (فتى الجواهر الثلاث), وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن تلك اللفظة (ماسانباو) حرّفت في الأدب الشعبي العربي إلى السندباد، صاحب الرحلات البحرية السبع المشهورة تماماً كرحلات تشينغ خه السبع (6) . أُسر في صغره من قبل أسرة (المينغ) التي حكمت الصين مابين (1368م – 1644م) (7) وتم خصيه وتقريبه من الإمبراطور الصيني (يونج لي) وهو الإمبراطور الثاني من أسرة (المينغ) لمزايا عدت فيه, والتي جعلت من الإمبراطور فيما بعد لان يكلفه بالإشراف على بناء تلك الأساطيل الإستكشافية وقيادتها في حملات سبع متتالية. توفي سنة 838هـ / 1435م وضريحه موجود في منطقة نانكنج الصينية.
وكان قوام هذا الأسطول الصيني في رحلته الأولى التي انطلقت سنة 808هـ وعادت سنة 810هـ / الموافق 1405م – 1407م, عدد (317) سفينة من نوع الزنك (الجنك) منها (62) سفينة تحمل الهدايا التي عرفت بسفن الكنز, و(28870) رجلاً يتوزعون بين جنود وضباط وملاحين وبناءين وكتبه ومترجمين (8) . أما الرحلة السابعة الأخيرة فكانت بدايتها في ربيع ثاني 834هـ الموافق 19 يناير 1431م, وعادت في شهر صفر سنة 837هـ الموافق 14 سبتمبر 1433م . وعدد الزنوك فيها أكثر من (100) وعدد الرجال عليها (27550) مابين جنود وضباط واطباء ومجدفون وحدادون وتجار ومترجمون وبحارة ..الخ (9) .
وكانت زيارة الأسطول للأسعاء (الشحر) في الرحلات الثلاث الأخيرة (5 – 6 – 7), وفي احدى تلك الرحلات (الرحلة الخامسة) والتي استغرقت فترة مابين عامي (820 – 822 هـ الموافق 1417 – 1419م) وهي على الأرجح الزيارة الأولى لهذا الأسطول الصيني لمدينة الشحر, وفيها حدث ذلك الاستعراض للعضلات كإثبات للقوة والتفوق, بل وكما ورد في بعض السجلات عن محاصرة هذا الأسطول للمدينة ومناوشات طفيفة حدثت بين الطرفين اعقبها صلح وتفاهمات وتبادل للزيارات والسفارات, أكدته الرحلتان اللاحقتان, وذلك الحدث بل والرحلات برمتها نسبت خطأ في بعض الدراسات للإحساء وليس الأسعاء, فترة حاكمها (إبراهيم بن ناصر بن جروان) (10) لوجود لبس في الترجمة . كما أن الوثائق التي لاتزال محفوظة لدى الصينيين يمكن أن تقدم لنا حقائق أخرى ومعلومات مستفيضة عنها(11).
ولنا قبل الختام التعرف على ماكتبه أحد مرافقي الرحلة ومترجميها عن مشاهداته داخل المدينة ويدعى( ماهوان )ويلقب بتسونغ داو وهو ايضاً مسلم, حيث كتب عن الشحر:” يمكن الوصول إليها من قاليقوط تحت ريح طيبة في عشرين يوماً. وهي على ساحل البحر. وسورها من الحجر. وهي مجاورة لتلال (أو أن التلال قريبة منها) في صحراء ليس فيها زرع. وتعلف البقر والخراف, والجمال, والخيل بسمك البحر المجفف. ومناخها حار دائماً. وتربتها قاحلة, وغلتها الزراعية قليلة. إلا أنه يزرع فيها البر. ولا ينزل فيها المطر لسنوات متتابعة. وتحفر فيها الآبار ويسحب الماء منها بواسطة زوجين من العجلان المسننة وقربة من جلد الخروف. ويعقد كلا الجنسين شعرهم بشكل ظفائر, ويلبسون عباءات طويلة, وتغطي النساء رؤوسهن كما تعملن في هرمز. وجدارها (المدينة) من الحجارة وبيوتها من الطين, ويبلغ ارتفاعها ثلاثة أو أربعة طوابق. وفي أعلاها تقع المطابخ وغرف النوم حيث يقيم الضيف. وأما الطوابق السفلى فيعيش فيها العبيد. ومنتجاتها :العنبر, البخور, الجمال السريعة. واهلها مخلصون ويقيمون الشعائر لجنائزهم, ويتجهون في دعائهم إلى الآلهة والشياطين (12) ؟! وتأثراً بما قابله ملك هذه البلاد – من عطف الإمبراطور – أرسل رسالة منه على ورقة من ذهب وهدايا للتعبير عن الخضوع والولاء . أما البضائع (التي باعها الصينيون) فهي الذهب والفضة والمخمل والحرير والصيني والأرز والفلفل وخشب الصندل والصمغيات ” (13) . ولا ننسى أن تلك الرحلات التي قام بها الصينيون شملت كذلك ظفار أثناء حاكمها السلطان ( علي بن عمر الكثيري ) مؤسس الدولة الكثيرية في حضرموت (ت : 836هـ / 1432م) وفيها تفاصيل أكثر ومادة أخرى غنية وجديرة بالدراسة, لعل لنا معها وقفات أخرى مستقبلاً .
…………………………
الهوامش والمراجع
(1) باوزير, سعيد عوض, صفحات من التاريخ الحضرمي, دار الوفاق للدراسات والنشر, عدن, الطبعة الثالثة, 2012م, ص150 . وحول نسب ابي دجانة ان كان من قبيلة كندة او من قبيلة مهرة يمكن الرجوع لكتاب المهري, سعد بن سالم بن زومة الجدحي, تاريخ المهرة المسمى التطواف حول تواريخ ومشاهير بلاد الاحقاف, دار المستقبل للطباعة والنشر, الطبعة الأولى, 2013م, ص152 .
(2) باوزير, سعيد عوض, صفحات من التاريخ الحضرمي, ص150 .
(3) انظر المهري, سعد الجدحي, تاريخ المهرة, مرجع سابق ص156 . الحداد, علوي بن طاهر, الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها , تريم للدراسات والنشر , الطبعة الاولى في سنغافورة سنة 1940م واعيد تصويرها سنة 2005م . ص115 . باوزير, سعيد عوض, صفحات من التاريخ الحضرمي, 151 . ومن الواضح أن آل ابي دجانة لديهم ولع بالملاحة البحرية وبناء الأساطيل نجد أول إشارة لهم فيما ذكره المؤرخ شنبل, احمد بن عبدالله, في كتابه ( تاريخ حضرموت ) ضمن احداث سنة 756هـ (( وفيها خرج الهنود المجوسيون في ايام الامير داؤد بن خليل الهكاري بقيودهم وسبحوا إلى مركب في بندر الشحر, فجهز ورائهم مركباً مقدمهم الشيخ أحمد ابن عبدالله أبادجانة فأستنقذوا المركب منهم في سقطرا, ونهبوا من الجزيرة مالاً كثيرة, ورجعوا بالمركب إلى الشحر )) . المرجع السابق, تحقيق عبدالله محمد الحبشي, الناشر مكتبة صنعاء الأثرية, الطبعة الثانية 2003م, ص126 .
(4) محيرز, عبدالله احمد, رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي, دار جامعة عدن للطباعة والنشر, 2000م . ص59 .
(5) العلوي, هادي, المستطرف الصيني, دار المدى للثقافة والنشر, سوريا, تاريخ الطبع 1994 – 2000م, ص305 . بينما اعتبر محيرز جده من اصل مغولي . انظر المرجع السابق ص47 .
(6) من بحث د . خليل , محمد محمود =, الخليج والجزيرة العربية في الوثائق والحوليات الصينية فترة العصور الوسطى, أسرة مينج نموذجاً, منشور في مؤتمر العلاقات العربية الصينية, جامعة قناة السويس , 2012م . (نسخة إلكترونية بحوزتي ) .
(7) محيرز, رحلات الصينين الكبرى, ص33 .
(8) المرجع السابق ص57 .
(9) المرجع السابق ص64 .
(10) حدث لبس وخطأ لدى بعض الباحثين الذين كتبوا عن هذه الرحلة وخاصة في تحديدهم للبلد التي زارها الأسطول الصيني بين من أعتبرها الأحساء وآخرين الأسعاء, والسبب على الأرجح يعود إلى الترجمة وإلى جهل البعض بأسم (الأسعاء) كاسم قديم أطلق على مدينة الشحر الحالية, حيث اثبت الباحثون التسمية بالحروف اللاتينية (la.sa) واختلف البعض في تحديدها إلا أن الخرائط الصينية تؤكد وقوعها مابين ظفار وعدن . وحتى سارجنت اثناء حديثه عن تلك الحملة نسب الرحلات للأحساء , إلا انه تدارك الأمر بإستغراب عن عدم ايراد ميناء الشحر (الأسعاء) في تلك الزيارة دون أن يتحقق من الأمر , وانما اعتمد ترجمة المستشرق الإنجليزي مايلز) لكتاب الصيني (ماهوان) المعنون ( مشاهداتي في شواطئ المحيط الظافر) وقد نشرته جامعة كمبيردج سنة 1970م . أنظر ر . ب . سارجنت, التجار والتجارة في اليمن من القرن 13 – 16 م . نشر في كتاب دراسات في تاريخ اليمن الإسلامي , صادر عن المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية , ترجمة وتقديم د . نهى صادق . ص73 . للمزيد عن الموضوع حول اللبس, أنظر محيرز, مرجع سابق, ص131 . وأما من ذهب إلى انها الاحساء دون أن يناقش فرضية الأسعاء فنشير للباحث الدكتور محمد محمود خليل وبحثه الموسوم الخليج والجزيرة العربية في الوثائق والحوليات الصينية فترة العصور الوسطى, أسرة مينج نموذجاً .
(11) هناك عدد من الوثائق أوردها الدكتور محمد خليل في بحثه السابق واعتبرها خاصة بالاحساء, ونظن انها تعني الاسعاء (الشحر) وعددها (8 وثائق), ولا نريد الجزم بأحدى القولين إلا بعد التأكد والإطلاع .
(12) يجب أن لا تأخذ هذه اللفظة حسب معناها الظاهر, فمردها للترجمات المتعددة للنص, كما أن هناك ترجمات أخرى لم ترد فيها بهذه الصيغة وقد تم نقلها هنا للامانة العلمية كما في مرجعها .
(13) محيرز, مرجع سابق , ص89 – 90 . انظر ترجمة أخرى للنص في بحث الدكتور محمد خليل . مرجع سابق .