أمكنة
صالح عمر باحيدرة
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 33
رابط العدد 1 : اضغط هنا
يعتبر وادي دوعن من أقدم الأودية التي سكنها الإنسان، وفيها بدأ نشاطه الحياتي، ملتصقاً بالأرض من خلال استصلاح الأرض الزراعية وحفر الآبار لتوفير مياه الشرب والري، لينطلق الإنسان الدوعني الحضرمي في ذلك الزمن الغابر لرسم ملامح حياته في الوادي السحيق مطوعاً الظروف الطبيعية القهرية والتغلب عليها سعياً للاستقرار والعيش المشترك، ليستمر في دورة الحياة والتطور الإنساني مستغلاً كل الامكانات لتحسين بيئته الحياتية وظروفه المعيشية ليزداد التصاقاً وانتماء للأرض.
الطرق شريان الحياة:
بعد استقرار الإنسان الحضرمي في واديه الخصيب والمامه بتفاصيله اتجه بتفكيره إلى البحث عن مواضع لتأمينه وتحصينه من الأعداء فكانت الحصون المنيعة، وانشغل بتوفير مياه الشرب وضمان استمرارها على مدار العام فكانت الآبار والكرفان لحفظ مياه السيول والأمطار، واهتم بشق طرق المواصلات الداخلية والخارجية التي تربط وادي دوعن بالأودية المجاورة كوادي العين و عمد وهي طرق قصيرة، مقارنة بالطرق التي تربط وادي دوعن بالساحل فهي بعيدة جداً بوصفها شريان الحياة والأساس للتطور المستمر.
الطرق القديمة:
يأخذ المسافرون وأصحاب القوافل (4) أيام مشياً بجمالهم في الطريق وقد تبلغ إلي (5) أيام، هذا قبل وصول المركبات والسيارات إلي مرتفعات الوادي (الجول)، وهناك طرق تربط أعلى الوادي الجول بأسفله، حيث يتم من خلالها الصعود إلى أعلى الجول أو النزول إلي أسفل الوادي عبر العقاب: (عقبة الحبل وعقبة الصدع وعقبة الجحي) وتوجد بأعلى هذه العقاب بعض الحصون، وكان البدو (الجمّالة) هم الذين يتولون مهمة التواصل بين قرى دوعن إلى المكلا أو العكس، كما كان أيضا يباشرون الناس بمكاتيبهم التي تأتي من خارج الوطن إلي المكلا حيث يطلق عليهم البدو الذي يقومون بإحضار هذه الرسائل كلمة (الٌكتّب).
أول طريق سيارات:
وفي عام 1940م تم فتح أول طريق للسيارات إلي دوعن، حيث تصل السيارات في ذلك الوقت إلي مرتفعات الوادي الجول ومن ثم يتم النزول أو الصعود عبر هذه العقاب السالف ذكرها، حتى تم افتتاح عقبة الجحي للسيارات في الخمسينات من القرن الماضي ووصول السيارات إلي بطن الوادي عبرها وبها توقف نشاط عقبتي الحبل والصدع، ليتوالى – بعد ذلك تباعاً – افتتاح عقبة شتنة عام 1964م، ومن ثم عقبة بضة عام 1990م وأخيراً عقبة خيلة في العام 1992م.
الطرق هندسة الطبيعة بالطبيعة:
لقد استطاع الإنسان الحضرمي – وهو يحاول تطويع الطبية القاسية – أن يكيف هذه الطبيعة ويسخرها لمنافعه وتذليلها لتصبح أداة طيعة من أدوات عصره ونمائه وتطوره، وكانت محاولاته المستمرة لبناء وتعبيد الطرق جزءاً مهماً من قوانينه الخاصة التي نجح في جعلها دافعاً لتسيير حياته وتطويرها، والطرق بالأمس البعيد ومع عدم توفر الامكانات لتنشئتها وتعبيدها كانت تحدياً من تحديات حياة الحضرمي وهو يصارع الزمن والتاريخ ليرسو على بر الأمان في مشوار حياته اليومية، وتسجل قصة صناعته للطرق أكثر من دلالة وأعمق من قصة، فما نشاهده – اليوم – من بقايا تاريخية لهذه الطرق المكونة بجملتها من خامات الطبيعة والبيئة المحلية تظهر عبقرية الإنسان الحضرمي وتجذره وانتمائه العميق للأرض وترابها النبيل، فهذا الإصرار على هندسة الحجارة ومزجها بالتربة الندية ووشمها على الرقعة الجغرافية للوادي الخصيب وامتداده الوطني تؤكد مدى ما عاناه هذا الإنسان في حياته وصبره وجلده وتفانيه لخدمة وطنه وناسه، في عمل طوعي تطوعي صرف أسس لقواعد حياة ومعايير عيش مشترك أين نحن منها اليوم؟!ز
الطريق إلى دوعن:
لم يعد – اليوم – الوصول إلى دوعن صعباً، ولم يتطلب الأمر أياماً وليالي حتى تضع رحالك في بطن الوادي العسلي، فالبساط الأسود الممتد على طول الشريط الجبلي من المكلا نزولاً في عقبة (خيلة) يحتاج إلى عدة ساعات ليس إلا، ولكن، لم تكن رحلة الطريق في وادي دوعن بسهلة، فهي تحكي قصصاً كثيرة عن هذا المارد الحضرمي الذي لم يقف طموحه عند حدود ولم تعجزه الظروف فيستكين أو يستسلم، فكانت هذه الطرق القديمة بمثابة معارك حياة تنوعت في الأساليب والأدوات والخطط والخطوط لتسجل هذه المآثر التاريخية التي نهيل عليها تراب الجحود والنكران ولم نعد نعطيها بعض العناية والاهتمام بوصفها ملمحاً أصيلاً من ملامح تلك الجباه السمر التي روت تراب الأرض الدوعنية خاصة والحضرمية عامة بعرقها النبيل وهي تصنع غدها الجميل وتؤسس لمستقبل أحفادها بالأمس واليوم وبعد غد.