ذاكرة
عادل حاج باعكيم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 35
رابط العدد 1 : اضغط هنا
تأتي الذكرى كل عام ونذرف الدموع الحارة حين قدومها، التي لابدَّ لها من قدوم، رمضان له عند الجميع وقع خاص،لكن هل تعلمون كيف كانت خصوصيَّة هذا الوقع عند أستاذنا الراحل الشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الملاحي رحمه الله؟
في بداية عصر كل يوم في رمضان – غالباً – كنت أذهب إلى بيت أستاذنا الملاحي فأجده جالساً يدير حبيبات المسبحة بأصابع يده اليمنى يذكر الله تعالى بها، كنت عندما أقبل عليه يقول لي : هل تريدنا أن نخرج أو نتأخر قليلاً ؟ وكانت إجابتي الدائمة والنموذجيَّة هي كلمة ” براحتك ” فكان يحدِّد بنفسه بعدها وجهتنا, هل نجلس, أو نخرج؟ .
طلب مني عصر ذات يوم من أيام رمضان سنة 1432هـ أن آخذه وأتجوَّل به بدراجتي الناريَّة في أرجاء مدينتنا الحبيبة الشحر، بدأنا التحرُّك من بيته القديم بحري مسجد ابن عتيق متوجهين إلى بعض المواقع الأثريَّة في البلاد، مثل السدَّتين (العيدروس – الخور)، وحصن دار ناصر (ابن بريك)، وحصن ابن عياش، والجمرك، ودار البياني، ثم أمرني أن أعود أدراجي إلى منطقة الخور، وصلنا الخور فأشار إليَّ أن أتجه إلى الجانب البحري لقبَّة الشيخ العلامة فضل بن عبد الله بافضل رحمه الله، ثم أمرني بالعودة إلى البيت، همس في أذني قائلاً : أعبر مسيال وادي سمعون مروراً بالخيشة ثم شرقي مسجد ابن إسماعيل ثم بحري مقبرة ومسجد باهارون، لكن عندما وصلنا قبلة مسجد ابن عتيق أمرني بالوقوف فلم نذهب إلى البيت كما كان يريد ليجدِّد وضوءه .
هذه المعالم والأعلام التي مررنا بها، كان الشيخ – رحمه الله – منتشياً في الحديث عنها، كان يتلذذ حينها عندما كان يحدثني بتفاصيل أخبارها ودقائق المعلومات عنها وعن أصحابها، طوال الرحلة كنت مستمعاً وبشغف ولم ألفظ غير بعض الأسئلة ليزيد شيخي في التفرُّع وذكر تفاصيل التفاصيل، لكني كنت حينها لا أدري ما سبب هذه الحالة الرائعة عند أستاذنا في هذا اليوم، كان يقصُّ عليَّ تفاصيل تشييد تلك المعالم العامرة وسير حياة أولئك الأعلام وبالتفصيل الأقرب إلى المُمِلَّ لغيري ممن لا يهوى علم التاريخ .
أخيراً أخبرني شيخي عبد الرحمن بسبب هذه النشوة الغامرة فقال : اليوم اتصل بي أحد أصدقائي القدماء الأعزَّاء جداً فتذكَّرت الزيارة التي قمنا بها معاً في رمضان قبل عدَّة سنوات لمعالم وأضرحة أعلام مدينة الشحر، وأحببت اليوم أن نعيدها معاً .
دخلنا قبيل آذان المغرب – بساعة إلا ربع – كالعادة إلى مسجد ابن عتيق المنسوب للعلامة الشهيد أحمد بن العلامة عبدالله بن عبد الرحمن بلحاج بافضل رحمهم الله، وكانت العادة أن ندخل المسجد ثم نتَّجه إلى مكان الوضوء لنغسل أرجلنا وليجدِّد الوضوء من أراد، ثم نتوجَّه إلى الدُكَّة الخلفية للمسجد (شرقي المسجد) وكالعادة نجد هناك بعض كبار السن من أصدقاء أستاذنا عبد الرحمن – رحمه الله – على رأسهم العم الفاضل عبد الحبيب لرضي – أطال الله عمره-، نجلس وغالباً يكون مجلسي في الرقدة الثالثة من أعلا الدرج والمشايخ المسنين في أنحاء الدُكَّة وجنبي الباب، يتبادلون أطراف الحديث ويتناقشون فيما حدث من مستجدَّات في البلاد، قبيل المغرب بعشر دقائق يقوم الجميع ليتفرَّقوا على عادتهم إلى مواقع افطارهم المعتادة في ضاحية المسجد .
حينها ينظر أستاذنا إليَّ ويشير بعينيه قائلاً : هيَّا لنذهب إلى موقع افطارنا، ذلك الموقع هو دُكَّة المسجد البحريَّة الكبيرة، التي رُصِّصَ في أطرافها الدرابزين (أعمدة من الاسمنت تجعل حائلاً لمنع سقوط الأشخاص)، وهي ذات هواء بحري شرقي عليل ومنعش غالب أيام السنة، نأتي تلك الدُّكة فنجدها قد فرشت بالحصير ونجد بعض من يعتاد الافطار هناك (من بشكة الشيخ عبد الرحمن) قد قرَّب التمر والقهوة وبعض المقليات إن وجد .
يعتاد أستاذنا الملاحي في بعض الأيام أن يجلب بعض مكونات الافطار من بيته مثل : السامبوسة والباقية والمندازي وغيره ممَّا يعتاد الحضارم صنعه في رمضان في أغلب بيوتهم، وأحياناً يأمرني بالذهاب إلى السوق لأشتري بعض كريَّات الغمصة (لقمة القاضي) – الأكلة الشعبية المعروفة – ورطب (التمر من أُمُّه) كما نسمِّه، وذلك ليقدِّمه لجلَّاسه في تلك الدُكَّة ” الشريحة البريحة ” كما يقول شيخنا – رحمه الله -، وهذه الدُكَّة الوافر حظُّها كان يطلق عليها الأستاذ عبد الرحمن الملاحي أسم ” كورنيش ابن عتيق ” تيمناً بكورنيش المكلا الذي تحتوي أطرافه على نفس نوع الدرابزين المشار إليه سابقاً في مكونات تلك الدُكَّة العامرة حينها .
سيمر هذا العزيز رمضان وتمر تلك الذكرى الغالية والتي إذا جالت بالخاطر لا أعلم كيف تتحسَّس العينان، ومباشرة من غير أيِّ إنذار سابق تذرفان الدمع شوقاً للأحبَّة الذين كانوا معنا في أيام وليالي هذا الشهر الفضيل في السنوات الماضية، الآن – وأنا أكتب هذا المقال – أتذكر أبي ذلك الرجل الرائع العجيب المتوفى بتاريخ 15/ 10 /2012م، وأتذكر أيضاً بعض مشايخي الأعزَّاء على رأسهم – من سطرنا هذه المقالة للحديث عن بعض ذكرياته في رمضان – الشيخ المؤرخ الراحل عبدالرحمن الملاحي المتوفى بتاريخ 2 نوفمبر 2013م، كما أتذكر شيخي العلامة القاضي سعيد بن محمد برعيَّة المتوفى بغيل باوزير في السابع من يناير 2013م، وشيخي العالم الشهيد عبدالله بن محمد بن إسماعيل المستشهد بضحى يوم الجمعة 29 رجب سنة 1432هـ وشيخي الفاضل الأديب الفنان سعيد بن محمد بامطرف المتوفى في الأول من أغسطس 2015م وغيرهم ممن كانت لهم بصمات في حياتنا رحمهم الله تعالى رحمة واسعة.