كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 37
رابط العدد 1 : اضغط هنا
(1)
لست أدري ما الذي سيقوله قراء التاريخ بعد 50 عاماً مثلاً، عن مدينة كالمكلا، وهي تفيق وتصحو منذ زمن على فراغ صحفي مميت، وأعني هنا خلوها من صحافة ورقية حقيقية، وهي التي أرهصت بريادة صحفية حديثة مبكرة في منتصف القرن الماضي!.
لعل قارئاً (سفرياً) سيقول إن حضرموت قد غادرت الصحافة الورقية مبكراً إلى الصحافة الإلكترونية، وهذا من علامات التماهي في الثورة التكنولوجية، والتسابق على ريادة فضائية ليست بغريبة على أقوام كانت لهم صولات وجولات في مشارق الأرض ومغاربها.
ولعل قارئاً آخر شبيها بالأول يتساءل: وهل للصحافة الورقية أهمية حتى نُعنى بتحقيق هذا الأمر؟ لكن سؤال الصحافة الورقية، بعيداً عن قول ذلك القارئ (السفري) وتساؤل شبيهه الآخر، يمثل أهمية لنا نحن الآن، والآن تحديداً، قبل أن يتولى أمر لحظتنا التاريخُ والمؤرخون.
(2)
لن أخوض في تفاصيل كثيرة، لكني سأقف أولاً إزاء رعب عنوان هذا المقال “مدينة بلا صحف”، فمثلما كتب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي “مدينة بلا قلب”، ليدخلنا مدار الرعب الشعري، فإن مدينة بلا صحف، هي مدينة خاوية، بلا رأي، بلا موقف، وبالتالي بلا كهرباء، وبلا ماء، وبلا عمل، وبلا خارطة طريق واضحة تجاه يومها التالي.
لست من هواة استذراف الدموع على الأطلال، بقدر احتفائي باللحظة الراهنة المفتوحة على وسعها على الغد، بلا إسراف في الأوهام وأحلام اليقظة؛ ولذلك فإن من أولويات اللحظة أن يكون في حضرموت مؤسسات صحفية وإعلامية ينهض بها مختصون ذوو رؤى فكرية حديثة تعمل على تسريع خُطاها باتجاه المستقبل، ذلك أن متغيرات اللحظة الراهنة في سياق ما عرف بالربيع العربي، طوى السجّاد ليبدو ما تحته مما يقذي العين والقلب والفكر معاً، الأمر الذي يضع كل ذي رأي وفكر حر أمام مسؤولية تاريخية ليس بالمعنى السياسي المتداول، وإنما بالمعنى الإنساني أولاً والأخلاقي ثانياً، لأن المآلات والمصائر سيكون وخيمة إن لم يكن هناك فكر موازٍ لموجة التزييف المتعوب عليه، والمخطط له، والمموّل بطريقة ممنهجة.
(3)
خلو حضرموت من الصحف، وأعني الصحف المحترمة ذات المهنية الحقيقية، يعني في ما يعنيه، تعطيل الطاقات الفكرية والثقافية، وإقصاءها عن أداء دورها في تطوير الوعي والتنوير، تراكمياً وبنيوياً، وهو ما يتيح المجال للتشظيات المتعددة التي تقيم جزر متناثرة متنافرة، تبدد الإمكانيات والطاقات، وتُلحق ذوي الأفكار والرؤى بذوي الأيديولوجيات التي ليس في وارد تصوراتها تشكيل رأي عام، أو وعي عام، بقدرما تهدف إلى تدجين المتلقي، وتمكين ثقافة القطيع، صغيراً كان ذلك القطيع أم كبيراً.
وفي لحظة كهذه، اهتزت فيها قناعات، وأعيد فيها النظر في مسلّمات، لم تكن قبل ذلك موضوعاً لجدل جاد، فإن إدارة حوار فكري وثقافي ناضج كان من المنطقي والطبيعي أن تكون صفحات الصحف ساحة حرة له، لكن في ظل الفراغ القاتل، فإن الحوار سيبحث له عن متنفسات في الفضاء الافتراضي – وهو محدود بطبيعة الحال على عكس انفساح الفضاء – وبالمقابل فإن تمترساً فكرياً وتخندقاً يتشكلان على النقيض من الحالة الحوارية، لتتجلى الحالة الصدامية التي تذكيها فاعلية التلقي السماعي المهيمنة التي تنمّط الأفراد والجماعات، وتؤطّر الأفكار، وتشيطن الرؤى، وتبدد أي إمكانية للالتقاء في نقطة وسط تتوازى فيها الأفكار أو تتقاطع، وفق آليات احترام الرأي والرأي الآخر، والقبول بالتعدد والتنوع والاختلاف.
(4)
“مدينة بلا صحف” توصيف لأي شيء آخر إلا أن يكون مدينة، فمتى تُعلي المدينة صحافتها، ومتى تنير الصحافة مدينتها ومدنيتها الغائبة أو المغيّبة، لنغادر لحظة التعلّق بالماضي باعتبارها اليوتوبيا المقدّسة، لأن ذلك التعلّق عدمي يوهم بأن الماضي هو المثال الذي ينبغي ترسّمه وتشكيل المستقبل على صورة ظله أو صداه!.
ثمة تفاصيل في هذا السياق تومئ إليّ بالكتابة عنها هنا، لكني سأرجئها إلى وقت لاحق، مكتفياً بإشارة أرى لها أهمية الآن، تتمثل في أن ما حدث من خلخلة شاملة في ما كان يبدو كالبنى الثابتة، أفرز حالة استعادية تعبر عن هيمنة الماضوية، أو “السلفية” الاجتماعية والفكرية والسياسية، التي تدور حول ذاتها بانغلاقية لا تفضي إلى أفق منتمٍ إلى العصر وتحولاته الكبرى التي هي التعبير الرمزي زمن الإنسان من حيث هو، بعيداً عن أقماط الجنس والدين والعرق واللغة والجغرافيا.
“مدينة بلا صحف” توصيف للمكلا، ينبغي أن ينزوي إلى الأبد، ولن ينزوي إلا بوعي حقيقي بدور الصحافة – وأعني الورقية تحديداً – في تشكيل الوعي المدني والإنساني والجمالي الذي له الأولوية في صناعة المجتمع الحديث النابذ لأي شكل من أشكال التطرف والإرهاب الفكري والأيديولوجي أيا كان مصدره، وأياً كان انتماؤه واتجاهه وتياره.