تأملات
أ.د. أحمد سعيد عبيدون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 38
رابط العدد 1 : اضغط هنا
(1)
يثير التّأمّل في هذه الآية ترابطات مختلفة من الدلالات بين الأسود والأبيض، والداخل والخارج، والذات والآخر، في مؤثرات جمالية متبادلة، لعل المثير الأساس فيها هو هذا التجانس (أسفى – يوسف) الذي تبدو وظيفته الجمالية في هذا السياق من الحزن والفقد ليوسف، في شحن كلمة (يوسف) بالأسف بحيث يبدو لنا الحزن مضاعفا مرتين، والأسف أسفين معا، وكأن كلمة (يوسف) هنا مشتقة من الأسف والحزن لا من أي شيء آخر في هذا السياق. هذا الأسف يبدو هنا ذا لون أسود ولو معنويا، فالحزين عابس ومهموم يرى الأشياء سوداء، وهو ما يقابله سواد العين – مصدر الرؤية – الذي يتحول إلى بياض (وابيضت عيناه) وهو بياض في الظاهر والخارج، لكنه سواد مضاعف في الباطن والداخل، وهو الأمر الذي تجلّى شكليا في تشكيلين مختلفين من الأداء، بدا معه الأسف الداخلي أسود في حكاية قول النبي يعقوب (قال يا أسفى)، أما التمظهر الخارجي للون الأبيض فهو في لغة السرد، يبدو البياض واضحا للناظر من الخارج (وابيضت) في حين أنه في شخص النبي يعقوب أسود سوادا مضاعفا، ثم نصل للدرجة الثالثة من السواد (وهو كظيم) وهو تعبير يختزن الحزن والغيظ معا.
(2)
ماذا يعني السواد المتدرج ثلاث مرات هنا؟ الأسف، واختفاء سواد العين، وكظم الحزن والغيظ:1- قال يا أسفى على يوسف.
2- وابيضت عيناه من الحزن 3- فهو كظيم إنه يعنى الظلام المقابل للنور، أو العمى المقابل للإبصار ، وهي الحالة التي تملأ نبي الله يعقوب منذ افتقد يوسف؛ إذ لم تجفّ عيناه كما يقول الزمخشري من وقت فراقه إلى حين لقائه ثمانين عاما، هذا الحزن، هذا الدّمع، هذا الماء ظل ينسكب مدرارا حتى مسح سواد العين فصارت بيضاء للناظرين ، وهو ماء يدعونا إلى أن نرى هذه الظلمات الثلاث في بحر عينيه كأنها بحر لجي في ظلام دامس إذا أخرج يده لم يكد يراها! إنها ظلمات ثلاث تناسب الظلمات الثلاث التي مر بها يوسف : ظلمة الجب وهي سوداء، وظلمة البيت عند امرأة العزيز وهي بيضاء في الظاهر لكنها كانت سوداء عليه، وظلمة السجن وهي سوداء!
(3)
إذا كانت المدة التي قضاها وهو يبكي هي ثمانين سنة، فهو إذن في المرحلة الثالثة من عمر الإنسان التي يبدأ فيها طفلا ضعيفا، ثم يصبح رجلا قويا، ثم يعود من جديد إلى مرحلة الضعف التي يصبح فيها أشبه بالطفل؛ إذ يضاف إلى الضعف الشيبة فهو في حالة يحتاج فيها إلى الآخرين لمساعدته كما يحتاج الطفل، فكيف إذا عرفنا أنه لا يكف عن البكاء طوال هذه المدة، وإذا عرفنا أنه أعمى لا يرى، فهو إذن في أشد حالات الإنسان حاجة للآخرين، إنه طفل في ظلمات مختلفة أيضا: ظلمة العجز والشيبة، وظلمة البكاء المستمر الذي أعمى عينيه بسبب الحزن، وأخيرا ظلمة العمى وفقد البصر، لكن هذه الظلمات الثلاث أيضا لم تصل إلى مرحلة اليأس، بل على العكس هي تتراكم في انتظار نور الأمل في أية لحظة، النور الذي يجعل هذا الطفل الكبير يولد من رحم الحزن من جديد، وهو الأمر الذي تفسره الظلمات الثلاث في بطن الأم ، فكأنه يتخلق في بطن الحزن خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث.
(4)
علينا أن نستحضر العناصر كلها للتشابه الحميم بين يعقوب ويوسف في المحنة ، فقد رمى إخوة يوسف به في الجب عاريا، ونزعوا عنه قميصه ليلطخوه بدم الذئب، وعنصر الدمع، وعنصر الماء في الجب، والظلمات الثلاث، كل ذلك مهم لكي يكون الخروج من هذه الظلمات ومن هذه الطفولة العاجزة والكهولة العاجزة والعارية أيضا مرتبطا بولادة جديدة في النور يكون القميص هو سببها يكسو هذا الطفل الكبير بالنور. واللطيف أن الأمر في الشفاء من الظلمات يكون على جانبين: داخلي وخارجي ، أما الداخلي فيتعلق بشم ريح يوسف، هذه الرائحة التي تدخل إلى الداخل مع الهواء عن طريق الأنف إلى القلب، وأما الخارجي فهو القميص الذي يرتد معه بصيرا، هناك (القميص والعين) ، وهناك (الرائحة والقلب)، الأول متعلق (بالقميص والبشير)، والثاني متعلق ( بالرائحة ويوسف)، وهو أمر نجد تجلّيه الجمالي في كلمتين الأولى متعلقة بيوسف وهي (يأت بصيرا) ، والثانية متعلقة بالبشير وهي (يرتد بَصِيرا)، مما يجعل الشفاء للقلب من الحزن لا للعين حسب، كما أنه فارق بين الفعل في (كله)، والفعل في (جزئه) فالإتيان رجوع يماهي بين حركة رجوع البصر وحركة رجوع يعقوب نفسه ليوسف كما يوحده التكرر الملازم (يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين)، أما الارتداد فهو يشير إلى جزء العين والطرف، الأمر الذي يتضح في آيات أخرى في لفظ الارتداد مثل : (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)، و(قبل أن يرتد إليك طرفك ). هكذا يزداد نبي الله يعقوب ظلاما ليزداد نورا ويزداد ويزداد؛ ليولد من جديد شمسًا وزوجه قمرًا في نظام من أحد عشر كوكبا تدور في فلك إنساني جمالي حول نبي الله يوسف .