ملف
أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 94
رابط العدد 1 : اضغط هنا
المكلا سيدة المدائن وفاتنة التاريخ .. من الجبل أخذت صلابته ومن البحر عنفوانه. المكلا حكاية عشق لا تنتهي .. منذ انطلاق سفينة النهضة في الحكم القعيطي في منصف ثلاثينيات القرن العشرين في عهد راعيها السلطان صالح بن غالب القعيطي تناثرت على رقعتها صفحات العشق تباعاً .. فهناك سورها العظيم وسدتها المهيبة وهنالك ميناؤها القديم (الفرضة) الذي ربطها بمواني العالم قاطبة، وظل شاهداً على الهجرات الحضرمية في مشارق الأرض ومغاربها.
ملامح مدينة الحلم
وهناك العبقرية الزراعية التي تؤكدها شواهد ما تبقى من عتمها المحاذي للجبل بدءا من آبار البقرين العذبة وصولاً لجابية حطبينة بحي السلام.
في سنوات حكم السلطان صالح بن غالب تعددت أوجه ومشارب النهضة فكانت الحركة الرياضية والمسرحية والفنية النشطة ورافقها البداية المبكرة للعروض السينمائية في باحة قصر السلطان وما صاحبها من رحلات ترفيهية إلى قصوره بمنطقتي فوة والباغ بغيل باوزير.
المكلا القديمة تدهشك وهي تغلق سدتها على نفسها عندما يحل المساء لتغدو منزلاً كبيراً يحتضن أهلها جميعهم .. وتزداد دهشتك وأنت تبصر فجراً الناس وهم يهرعون للبحث عن حوائجهم أمام تلك السدة العتيقة .. فتتملى عيناك بمشاهد الخضروات الطازجة والبرسيم أو القضب الندي .. تضج الحياة وتتفاعل الحركة مجيئاً وذهاباً.. في سويعات العصاري ينتشر الكبار والفتيان لممارسة لعبة كرة القدم في الملاعب الترابية الممتدة على جانبي العيقة من ديس المكلا حتى شاطئ مقهى (مضيّس) ومدرسة الجماهير.
عبقريات الزمن الجميل
يستمتع عشاق اللعبة بعبقريات الزمن الرياضي الجميل من لاعبي كوكب الصباح والشباب والاتحاد وشباب الجنوب والشعب، وتبلغ المتعة ذروتها عصر كل يوم جمعة على ملعب النخيل (الجسر الصيني حالياً) عندما يحتضن الملعب رجال المدينة وفتيانها وتمارس النسوة عشقهن الأبدي في ترويحات العصر ببحر المشراف.
وينزع الكبار والفتيان إلى ممارسة هواية السباحة في سيف حميد والقالدة وورسما بشرج باسالم.
المكلا سيدة المدائن وفاتنة التاريخ ومفتاح جنوب الجزيرة العربية تظل مدينة تعشق الحياة وتؤنسن الغرباء.
المكلا من أجمل أيامها ما تشهده عصريات رمضان والعيد من كل عام وطقوس الطفولة وعادات الكبار .. وتحتفي بألعابها الشعبية: الشبواني والعدة التي يتخللها المساجلات الشعرية لكبار مبدعيها كالشاعرين سعيد فرج باحريز وناجي بن علي الحاج. وعندما يحل المساء تدب الحياة في أوصال مقاهيها ونواديها الرياضية والثقافية والاجتماعية لتبدأ رحلة جدل في الشؤون العامة على صوت خرير براريد الشاي وتعليقات مرجعيات الحويف، رحلة تبدأ ولا تنتهي .. يقطعها وقد اوغل المساء المكلاوي دندنات المخادر ومسامر الفن والطرب الحضرمي الأصيل على أصوات العمالقة محمد جمعة خان وعبدالله حاج بن طرش ويسلم دحي ومحمد سالم بن شامخ وعوض علي بن هامل والفنان الشاب عبدالرب إدريس والعبقرية الشعبية الفنانة عائشة نصير.
شخصيات خالدة في حياة المكلا
لم تكتمل ملامح الصورة بعد فهناك الشخصيات الخالدة في حياة المدينة كالشيوخ الأجلاء عبدالله الناخبي وعبدالله بكير وعبدالله محفوظ الحداد والعباقرة سعيد وأحمد عوض باوزير ومحمد عبدالقادر بامطرف ومحمد عبدالقادر بافقيه والشعراء الكبار عبدالرحمن باعمر وصالح المفلحي وحسين شيخان وغيرهم.
المكلا، إن ظل الجبل يشعرها بثباتها وشموخها وعنفوانها وخلودها، فالبحر آثر أن يبحر بها إلى أصقاع المعمورة ناثرا عبق الحضارة ووسطية الإسلام وسماحته.
هكذا تبدو المكلا في عمقها الحضاري والتاريخي، جبل وبحر وإنسان، ثلاثية حياة، وديمومة عطاء، لتغدو مدينة المدائن في وهجها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، مدينةً قادرةً على نثر أريجها الرائق، وعطرها الفواح، على محيطها الجغرافي والكون قاطبة.
لم تزل المكلا ملهمة لعاشقها .. فلكل عاشق ألف حكاية وحكاية ..
الرائد باشريف وعشق المكلا
الرائد محمد سالم باشريف من عشاق سيدة المدائن وفاتنة التاريخ لم يكل أو يمل من عشقها صبياً وشاباً ورجلاً وكهلاً .. كانت صرخة ميلاده مع السنوات الأولى من جعلها عاصمة السلطنة القعيطية، في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، تدرج في مقاعد الدرس بمدارسها.
في مقتبل عمره انشغل كثيراً بتعلم اللغة الانجليزية عبر مراسلته لهيئة الإذاعة البريطانية واستطاع أن يتقنها – تحدثاً وكتابة – ويلم بقواعدها وطرق تدريسها.
باشريف والتوفل الحضرمي
في العام 1955م نفّذ فكرته العبقرية بافتتاح مدرسته لتعلم اللغة الانجليزية في إحدى غرف منزلهم بحي الشهيد خالد مسجلا بذلك علامة الحصرية للتوفل الحضرمي لاجتياز اختبار اللغة الانجليزية لمنتسبي غرفته الصغيرة التاريخية.
باشريف والريادة
هذه المدرسة التي أعطته الريادة للتعليم الأهلي والخاص، ونجحت فكرته العبقرية في استقطاب عشرات الآلاف من التلاميذ والطلاب والكوادر الإدارية التي وجدت فرصتها سانحة لتعلم اللغة الانجليزية بوصفها فرصة سخيّة ستتيح لهم امكانات تدفع بهم إلى واجهة المجتمع والمنافسة الشريفة على مجالات الحياة كافة.
ظل يطور من مخرجات مدرسته ويتحمل من أجل تطويرها العناء والتعب والشقاء والبذل الكبير، بلغ به الاهتمام أن يحرص على طباعة أحدث المقررات المدرسية للغة الانجليزية على نفقته الخاصة ويتردد على أهم العواصم العربية والأوربية للاستفادة من آخر برامجها العلمية لتعلم هذه اللغة المهمة.
رائد وتلاميذ
من تلامذته الذين اجتازوا سنوات الدراسة الأستاذ محمد محفوظ باحشوان أول وزير مالية بعد الاستقلال والدكتور سالم عمر بكير رئيس جامعة عدن في ثمانينيات القرن الماضي والأساتذة الكبار عمر عبدالرحمن باسنبل وعلي الغريب والدكتور عبدالله عمير وغيرهم.
لم ينحصر نشاط الرائد الفذ محمد سالم باشريف في مجال تعليم اللغة الانجليزية وحسب بل كان من رواد المجتمع المكلاوي في مجالات عدة..
باشريف والرياضة
إذ عشق الرياضة ومارس لعبة كرة القدم مع نادي الشباب ليتقلد رئاسته بعد ذلك، وفي عهده تعددت زيارات كبار عبقريات الكرة في الجنوب ومنهم الكابتن علي محسن مريسي وعبده خوباني.
باشريف والفن الأصيل
وفي فنون الطرب الأصيل كان مجيداً في العزف على آلتي العود والكمان وله يعود الفضل في تعليم الدكتور عبدالرب ادريس أبجديات العزف على العود وإهدائه عوده الخاص لينطلق بعدها الفنان الكبير في عالم الغناء والطرب المحلي والعربي.
الفنان العازف محمد سالم باشريف رافق عبقري الأغنية الحضرمية محمد جمعة خان عازفاً على آلة الكمان في كثير من الحفلات والسهرات الفرائحية.
ومن عشقه للغناء والطرب كان من المؤسسين للندوة الموسيقية الحضرمية في مطلع العام 1961م.
باشريف ورسالته التاريخية
ظل وفيا رائدنا الكبير محمد سالم باشريف لرسالته التي أفنى عمره من أجلها، ولم يجد فرصة إلا واستغلها للاستمرار في أداء هذه الرسالة السامية، حتى فاضت روحه إلى بارئها في مساء يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان الموافق 13 يونيو 2016م، فشيعته الجموع الغفيرة إلى مثواه الأخير بمقبرة الشيخ يعقوب، عصر يوم الثلاثاء في لحظة وفاء لمدينة المكلا قاطبة لابنها الفاضل محمد سالم باشريف.
رحم الله شيخنا الفاضل محمد سالم باشريف الرجل الذي عشق مدينته، فكان عشقه محفزاً للعطاء والبذل والنبوغ والتفوق في مجالات حياتيه وإبداعية متعددة ومتنوعة.