كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 31
رابط العدد 4 : اضغط هنا
لا أدري، لكني منذ وعيت كان الليل والكتابة، ليلا وقمر ، بهاجس الصحراوي القديم. تسألني: متى أكتب؟ أقل، غالبا، في الليل، وفي الهزيع الأخير منه، فالليل زمن الكتابة عندما يهدأ الكون بعد المنتصف، حتى لكأن الكتابة ندى يهمي من عالم لا مرئي. ولعل مما لا أجد له تأويلا أنني لم أكتب شيئا بالنهار ثم رضيت عنه ليلا.
هل الليل لحظة كتابة على نسق رتيب؟
كلا. لكن الليل لا يعني لي الكتابة فقط، ولكن الكتاب ايضا، إذ أقرأ عادة، وأكتب، حتى لكأن سحابة نهاري ليست أكثر من لحظة تكثيف للهجوس والحدوس. ويستوي في ذلك ما كان إبداعيا أم نقديا.
تلك هي علاقتي بالليل منذ ثلاثة عقود خلت، فأنا من الكائنات الليلية، إذ لا أنام إلا على حافة الصباح الحادة.
الليل خلود إلى كائناته المدهشة التي تجد في خلود العالم إلى سريره، منسربا نحو من ينتظرون إشاراتها الخاصة. وكلما فككت شيفراتها كان الانثيال.
***
ولليل في المدونة الثقافية العامة فصول في مديحه وذمه، لا يحيط بالإشارة إليها المقال والمقام، لكني ذاكر منها ما تداعى إلى الذاكرة عفوا، عن غير قصد مسبق. فثمة ليلة نابغية منذ جاهليتنا الاولى، يجاورها ليل الاعشى، وليل امرئ القيس، وليل ابي فراس، مرورا بالمعري والمتنبي والحصري القيرواني، وصولا إلى جبران والسياب والبردوني، مثلا لا حصرا. وفي الأغاني تعلو حنجرة ام كلثوم وفيروز وشريفة فاضل، حتى ليلة عبدالرب إدريس.
***
وكما في الشعر والاغاني، هناك في الأمثال ما يستوقفني، في السياق الليلي الموصول بالكتابة. ففي الأمثال الشعبية الحضرمية مثلا، مثلان هما: “من خدمها ليل شكرها نهار “و” كلام الليل يمحيه النهار ” . وبعيدا عن خلفية كل منهما فهما يضيئان معنى الليل في ذاتي. فالأول لا يطاوله القول الفصيح ” ومن طلب العلا سهر الليالي” في سياقه التربوي المدرسي، وأذكر أنني كنت، أيام الطلب، لا أميل إلى التحضير للامتحانات ليلا، مستعيضا عنه بساعات نهارية، وكان الزملاء يعجبون كيف أقضي المساء في نزهة حرة بلا قلق امتحاني، ثم لا اعكف على المدارسة ليلا، لأن بعضهم لا يفهم معنى الليل الخاص بي. فالليل ليس لحظة كد ذهني أو إجهاد. إنه زمن الإبداع والتأمل والتجلي والابتهال بكل معانيه وظلاله الروحانية.
اما المثل الآخر ” كلام الليل يمحيه النهار ” فهو عكسي الدلالة في وعيي تماما، فكلام النهار يمحوه الليل. الليل محو مثلما هو كتابة. ولعله لذلك كان من المندوب إليه دينيا مثلا للترقي في تجليات الروح أن يقوم المرء/ المرأة الليل. على أن القيام هنا ليس محصورا في الصلوات وحدها، وإنما في حالة الانسراب التي يتماهى فيها الروح مع لحظة الصفاء الكوني في أعلى درجات نقائها.
وانسجاما مع الدلالة العكسية للمثل، فإن كتابة الليل لا يمحوها النهار ، وكثيرا ما محا الليل مكتوب النهار .
***
سألت طبيبا في بغداد عن سهري الليل منذ ما يزيد عن ربع قرن باعتباره نظام الفوضى الذي اتبعه، فقال لي بعد عدة تساؤلات: تلك ساعتك البيولوجية، فلا تكسر نظامها، ولا بأس على شانك الصحي، كانه قائل مع عمر الخيام:
فما أطال النوم عمرا
ولا قصر في الأعمار طول السهر