تراث
أحمد عمر مسجدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 36
رابط العدد 4 : اضغط هنا
لمحة سريعة :
شملت الحكايات الشعبية عناصر العمل القصصي المعروفة: الحادثة – السرد – البناء – الشخصية – الزمان – المكان – الفكرة, فهي حكايات في شكل قصص أو قصص في شكل حكايات بلهجة عامية, لذا فهي فن من فنون الأدب, وما دام هي كذلك, نستعرض بصورة موجزة تاريخ نشوء القصة في الأدب العربي. حيث كان للعرب قصص وأساطير وأسمار تعبر عن حياتهم تعبيراً صادقاً منذ العصر الجاهلي. ولما ظهر الإسلام اتسعت الفتوحات وجال العرب في كل مكان، واطلعوا على كثير من أقاصيص الفرس والروم والهنود وغيرهم من الأمم القديمة، واتسع خيالهم ونمت مواهبهم في فن القصة وتوسعوا في ذلك كثيراً وألفوا في فن السيرة وفي التاريخ.
ولما جاء العصر العباسي اتسعت العناية بالقصة وكثرت القصص والأساطير في الأدب العربي وألفت فيها الكثير والكثير من الكتب التي تعد من أهم المصادر في العصر الحديث. ويمثل كتاب ألف ليلة وليلة ومقامات البديع والحريري فن القصة في أروع صورة، ناهيك عن قصص عنترة وأبي زيد الهلالي وغيرها.
وقد تأثر الأوربيون في العصور الوسطى وعصر النهضة بالقصص الشعبية في الأدب العربي، وكانت أثراً من آثار اتصال الغرب بالشرق, وفي الحروب الصليبية, حتى أن قصص الشطار في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تمثل العادات والتقاليد للطبقات الصغيرة في المجتمع تأثرت بأمثالها من القصص في الأدب العربي.
وفي العصر الحديث جاء دور الترجمة للقصص وكتابتها. وعندنا في حضرموت ظهرت القصة القصيرة في نهاية القرن التاسع عشر على يد الأديب الشبامي عبد الله معروف باجمال (1795م ـ 1880م) ثم بدأت في البروز أكثر وأكثر بعد ظهور الصحافة الحضرمية..
ظهور الحكايات الشعبية:
الحكايات الشعبية هي نوع من أنواع الأدب الشفوي وتتكون من مفردات حياتنا اليومية الأساسية، ولا زالت هذه المفردات الخطابية اليومية تظهر في الحكايات لتعبر عن الوسط الاجتماعي ويتم تناقلها عن طريق الرواية الشفوية منذ القدم إلى اليوم ويلعب الخيال الشعبي دوراً كبيراً في صياغتها وفي تأطير بعض الأحداث التاريخية والشخصيات بالمبالغة والغرائبية.
وتقف الحكايات الشعبية عند حدود الحياة اليومية والأمور الدنيوية العادية كمكر النساء ومكائد زوجات الرجل الواحد وقسوة زوجة الأب على الطفلة المسكينة التي تتدخل العناية الإلهية لإنقاذها.
ولهذا نرى أن ظهورها يرتبط بظهور تلك القصص, وقد لوحظ من خلال سرد ما وقع في أيدينا من حكايات على حد تقديرنا في تلك الفترات التي عانى منها الإنسان القحط والفوضى السياسية وانعدام الأنظمة الدستورية, ولكننا لا نستطيع أن نحدد ـ مطلقاً ـ الفترة الزمنية التي حدثت فيها ونترك ذلك للمؤرخين, لأنها تعبر عن تاريخ فترة عاشها الإنسان بكل ما فيها, وتحتاج إلى وقفة جادة وقراءة تاريخية مستفيضة لهذه الحكايات حتى تكون أكثر مصداقية, ففيها بيان لمعاناة الإنسان ومكابدته لواقعه الاجتماعي, لأن هذه الحكايات لا تأتي من فراغ ففيها تجسيد لواقعه في فترة خلت بمذاقها المر. وحتى لا نظلم تلك الفترة نترك الحديث عنها للمؤرخين كما أشرنا, ونتحدث بدورنا عما هدفنا إليه من وراء هذه الكتابة بوصف الحكايات الشعبية فناً من فنون الأدب الشعبي لابد من استظهاره وتدوينه والإكثار من الحديث عنه وتنبيه الغافلين كي يبحثوا عنه في كنوز تراثنا المدفون بعضها في صدور العوام من الناس وهذا يحتاج إلى بذل المزيد من الجهد من الباحث حتى تكون النتائج مرجوة تخدمه وتخدم الصالح العام لأن هذه الحكايات ظلت تتوارث بالسماع ولم يجرؤ أحد على تدوينها حسب علمنا.
ما الجدوى من البحث؟
البحث عن الحكايات الشعبية وتدوينها يعتبر عملاً شاقاً بوسعه وطاقته مع أنه مكمل للأدب الشعبي ـ الشعر والنثر، وهي جزء من التراث الحضرمي الأصيل, وجزء من تاريخ ومعاناة الإنسان الحضرمي صاحب الحضارة العريقة. فأي عمل يقوم به الفرد مجتهداً بذاته سيكون النقصان حليفه ولن يبلغ المرام لتركيزه على بقعة جغرافية محدودة حسب طاقته ما لم ينطوِ هذا العمل تحت رعاية المؤسسة لجمع أكبر عدد من الحكايات الحضرمية على أكبر اتساع جغرافي لحضرموت طالما أن الأدب الشعبي جزء من التراث الكبير والواسع, فان توثيقه ليس غاية بذاتها لأنه مرتبط بدراسة التراث، وتحديد الحاجة لدراسة هذا التراث تحدد توثيقه. وتتمثل هذه الحاجة في الإسهام لدراسة تاريخ الثقافة والحياة الاجتماعية وإعادة ترتيب الفترات التاريخية الغابرة التي لا يوجد لها إلا شواهد ضئيلة متفرقة وهو ما يعرف بمنهج إعادة البناء التاريخي. وتقديم دراسة عن الأدب الشعبي تعد خدمة مباشرة في عملية التعبير الثقافي: عواملها, سرعتها, اتجاهاتها, و… و…، هي أمور مهمة لدارس تاريخ الثقافة وعلم الاجتماع.
وإذا ما تحدثنا عن دراسة الأدب الشعبي الشفوي وتدوينه إنما ندرس به التاريخ الثقافي القديم والحياة الاجتماعية للمجتمع الحضرمي الذي انتعش فيه هذا الأدب الروائي النثري.
وحتى نستطيع جمع أكثر عدد من الحكايات الشعبية فلا بد أن تقوم به المؤسسة كما ذكرنا وليس الأفراد وذلك لنذرة المصادر الموثقة للحكايات الشعبية، بل ولانعدامها فقد يجتهد الفرد في جمع ما يسمعه في بيئته من حكايات، ولكن سيظل محصوراً على بقعة واحدة فقط, وفيها مجازفة لمعرفة المجهول عن هذه الحكايات الشعبية والأساطير القصصية ونبش ما اندفن منها لتصبح جزءاً من تراث شعبي أصيل، وتاريخاً لمعاناة أمة بعد ما ننخل منها الزائف ومعرفة الغث من السمين، ليس بإعادة صياغتها وإنما لإبعاد المدسوس فيها إن وجد، مع يقيني أن لا مدسوس فيها، ولكن من باب الحيطة والاحتراس، وحتى لا يشك المشككون في صحة هذه الحكايات معتبرين أنها ترجمة لقصص عالمية وأفلام الكارتون، مع أنها في الأساس هي بوح بما يعانيه العوام من الناس، ونتاج لمكابدتهم واقعهم في تلك الفترات الغابرة.
فالحكايات الشعبية هي الوجه الآخر للأدب الشعبي الذي عرفنا منه الشعر العامي، وجمعنا فيه الكتب، وتحدثنا عن شعرائه بالتفصيل دون الإذعان لهذا الكنز المنسي وهو الحكايات الشعبية. وهذا ما يجرنا إلى القول إن الحكايات الشعبية جزء لا يتجزأ من الأدب، حيث تلتقي بالقصص في باطنها؛ لأنها حكاية، والحكاية قصة تحوي عناصر الفن القصصي المعروفة.
فلنضع هذا أمام المهتمين بالتراث ليضعوا النقاط على الحروف ويسموا المسميات بأسمائها, وتحليل هذه الحكايات التي أدبر منها المتخصصون بالأدب بعدما أشبعوا رغباتهم منها صغاراً وتعلموا الفن القصصي الذي يكتبونه كباراً ونذكرهم بقول الشاعر:
إن الأمور إذا بدت لزوالها فعلامة الإدبار فيها تظهر
واعلموا أن جزءاً من تاريخ الأمة ومعاناتها في حكاياتها الشعبية لأنها ترجمان للإيحاء النثري لحياة الشعوب, وحكاياتنا جزء من هذا الإيحاء الذي طالما ردده الإنسان الحضرمي على مر العصور ليسجل بالسماع جزءاً من تاريخه المفعم بالجد والنشاط والحيوية, مجسداً صراعه ومغامراته مع كوارث الزمن التي لا تنقطع عنه, ومحاكاته لهذه المغامرات ليجد المتنفس عند البوح بها لتظل واقعاً معاشاً يمتد صداه عبر الأجيال.
وللأسف عندما وصلت هذه الحكايات إلى جيلنا أهملناها تحت مبرر التطور الحضري المزعوم الذي جعلنا لا نهتم بموروثنا النثري في الأدب الشعبي ونتلذذ بما يعرض علينا من قصص عالمية تفوق الخيال ونخصص لأطفالنا فترات لمشاهدتها, ونحن هنا لا نمانع في ذلك ولكن لحكاياتنا الشعبية علينا حق في الأقل نعرّف أطفالنا أن لنا تراثاً شعبياً مليئاً بالحكايات والمغامرات مثلما عرَّفنا عليها آباؤنا، بل لقنونا تلك الحكايات في الصغر حتى نستذكرها عند الكبر وهذا أقل تقدير وتدوينها ودراستها وفاءً وعرفاناً لهم.
وحتى لا يتهمنا كاتبو القصص الخيالية باسترجاع عجلة التاريخ إلى الوراء نقول لهم إن هذا واقع التاريخ بل التاريخ الواقعي لمعاناة الإنسان في زمن مضى بحلوه ومره, وأن هذه الحكايات لم تأتِ من فراغ ولو غلبت مرارتها على حلاوتها, وإن اتسم بعضها بالخيال الممزوج بواقع حياة الأميين إلا أننا نستشف واقعها من خيالهم, وبهذا يظهر لنا الواقع الحقيقي في الحكايات الشعبية إذا أمعنا النظر فيها بعد تدوينها وقرأناها قراءة مستفيضة وهذا ما نهدف إليه من التدوين.
العجوز الراوية:
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا يقول: عندما ارتبطت الحكايات الشعبية براويتها (العجوز) الطاعنة في السن التي يقل نومها وتكثر يقظتها ويكثر كلامها إلى حد التخريف, فهل حكاياتنا الشعبية تحمل التخريف لأنها ارتبطت بهذه العجوز المخرفة؟
كلا, وألف كلا, لأننا نستبعد ذلك الارتباط السخيف، وإنما هذه كناية على كثرة رواية هذه الحكايات الشعبية بلسان تلك العجوز, وأن ثرثرتها تدل على سعة انتشارها وروايتها أكثر من مرة في اليوم الواحد، بل وفي الساعة الواحدة, ولم يعد تخريفاً بالمعنى المراد من الخرافة وإنما تأكيد لتداولها الواسع بين الناس في تلك الفترات.
فلكل قوم حكاياتهم الخاصة بهم, والحكايات الشعبية بلا مراء هي فن من الفنون الشعبية التي أهملت كثيراً ولم يعط الأدباء حقها في الكتابة عنها وتركوها تتداول جيلاً بعد جيل بالسماع من غير تدوين أو تحليل أدبي، ولهذا أطلق عنانها للرواة الشعبيين حتى إنك تجد الحكاية الواحدة لها عدة أحداث بمغزى واحد، وبإمكانك سماعها بسرد مختلف في المنطقة نفسها، لكنها منسوبة للحبابة عويوز أو عييوز (على اختلاف نطقها من مكان إلى آخر)، ويبقى احتفاظها بالراوي والبطل والمغزى.
ومجتمعنا الحضرمي واحد من المجتمعات التي كثرت فيها تلك الحكايات الشعبية وقد سموها (سفاراً) مجردة من الهمزة في أولها من لفظة (أسفار)، وأفردوها بـ (سفرة) بفتح السين وتسكين الفاء، حيث تميزت هذه السفار بالمواعظ والعبر وأحياناً بالتخويف والتهويل مع أنها لم تأت من فراغ، فقد ارتبطت كل سفرة بحادثة خاصة بها.
ولو نظرنا في سرد بعض هذه (السفار) الهازلة لرأينا أن بطل الحكاية وراويها يكاد يكون واحداً في غالبها مثلما كان البطل الخيالي في مقامات البديع والحريري, مع الفارق الكبير في أن مقامات البديع والحريري هي نوع من أنواع الأدب الرفيع الممتزج بالنثر الرصين والشعر الفصيح، لكنها تلتقي مع حكاياتنا الشعبية في البطل و الراوي الخياليين وفي القصة أيضاً.
فإذا كانت المقامات لها بطل وراوٍ خياليان هي قصص متسعة الخيال، وإذا كانت الحكايات لها بطل وراوٍ خياليان أيضاً فهي قصص تشبه المقامات من حيث التركيب غير أنها تختلف عنها في اللغة، فالأولى مؤلفة من خيال الكاتب باللغة الفصحى والأخرى من واقع العوام الممتزج بالخيال عند السرد مما تصوَّره الحاكي من وقائع حدثت له أو لم تحدث بلهجته الدارجة، لذا كان واقعها ممزوجاً أحياناً بالخيال، وخيالها يتفق مع المقامات، فلا محالة أن تكون هذه الحبابة هي راوية لهذه الحكايات ببطلها المعروف (بالسلطان).
والحكاية سفرة:
إذا كانت الحكايات تسمى كما ذكرنا سلفاً (سفاراً)، فلا يعني ذلك أنها نتائج أسفار بمفهومها الضيق الذي يطلق على الهجرة فقط، مع أن الأسفار هي قطع المسافات سواءً كانت للعمل أو الانتقال, والعوام لفظوها مجردة من الهمزة الابتدائية (سفار) بوصفها مرادفة للحكايات وأفردوها (بسفرة)، ولكنْ لنا رأي آخر في تلك التسمية والسبب الذي سميت به، ليس للمخالفة وليس استنتاجاُ من سياق الحديث, بقدر ما هو أقرب إلى واقع الحكايات ذاتها, لأنها من الأدب الهازل, ولهذا يغرق المتلقي لها في الضحك بعد انتهاء الحكاية مع أنها ليست بالضرورة تؤدي إلى إضحاكه حتى يقال له: لقد أصيب فلان بالسفر من جراء الضحك. و(السفر) بتسكين الفاء هنا اسم يطلقه العوام على مرض يصاب به الشخص من كثرة الضحك, وليس معنى ذلك أن الاستماع إلى هذه الحكايات الهازلة تسبب الإصابة بمثل هذا المرض؛ ولكن هذه كناية عن كثرة الضحك من سماعها، ولذا تجد الأطفال وهم أكثر المستمعين لهذه الحكايات يتماوتون من الضحك, ولهذا فهي أحب إليهم وأقربها إلى نفوسهم ويطالبون بتكرارها من غير ملل أو نفور.
ولا أقصد من هذا القول أن أي طفل استمع إلى مثل هذه الحكايات يصاب بالسفر، ولكن تدليلنا بهذا إنما لاقتران تسمية الحكاية بالسفرة الذي يستفر سامعها من الضحك على حد قول العوام. مع أن كل حكاية لا تخلو من المعاناة، فكل شخوص الحكاية يعاني من ويلات بما فيهم السلطان نفسه.
ولأن الحكايات الشعبية كانت خليطاً من النثر الشعبي والشعر العامي فإنَّ راويتها الخيالية تلبي حاجات الأطفال لمعرفة المجهول وتنمية خيالاتهم الفنية والأدبية، بل تفتح أمامهم أبواب الأصالة وسعة الخيال والمزاج حتى يكونوا ذوي ملكة أدبية رفيعة وإن كانت بلهجة عامية وأفكار غريبة, لأن أول ما يفزع الأطفال هو رؤية الأماكن الخالية، وما تصدره من أصوات لا يسمعها إلا هم, ولأنهم لا يؤمنون إلاّ بالمرئي والمحسوس لذا تكثر تساؤلاتهم عن الإسماع ويجدون الجواب الشافي عند هذه الحبابة في حزاويها عن الجن والحيوانات المتوحشة والأودية المسكونة والأبنية المهجورة وغيرها حتى يشبعوا رغباتهم بالاستماع والاستمتاع بهذه الحكايات.
المعاناة في الحكايات:
كانت هذه الحكايات تصورات، والبوح بها كعرف حقيقي أو لنقل مزاجات متراكمة عبر التاريخ وأحاسيس ترجمت في شكل حكاية لما يعانيه العوام من انعدام الثقافة وركود الاقتصاد, فكانت الأسفار هي الحل الوحيد لطلب الرزق, وفيها تركب الأهوال وتكثر التصورات فيحكي الشخص معاناته وسيره في أعماق الأودية بشيء من الشجاعة الخارقة واجتياز العوائق, وهكذا تنقله الأم لأطفالها أو عجوز البيت لأحفادها بشيء من الحنين برواية الحبابة عويوز أو عييوز, إلى أن طغى هذا الاسم على الحكايات والأساطير المحكية بنكهة شعبية مميزة, بل بلغة الواقع الحقيقي بحد ذاته, وكلها تشب نار المغامرات حتى يتجاوز الإنسان ظروف معاشه الصعبة, وفي الوقت نفسه يجد الطفل المتلقي بغيته في التلذذ بالسمع في الصغر والتقليد الأعمى في الكبر.
وليس غريب في الأمر بأن يحكي الشخص معاناته وأسفاره بلسان أو رواية شخص آخر فكثيراً ما يستعمل ذلك في القصص الأدبية الفصحى فضلاً عن أدب المقامات, فقد استهل الأديب محمود تيمور قصته (حزن أب) بقوله: (حدثني الراوي قائلاً:) قد يكون ثمة رجل روى للكاتب هذه القصة، فليس ما يمنع ذلك، ولكن هذه الصيغة كثيراً ما تصطنع لكي يبعد القاص شخصه عن الحوادث التي يرويها، فهو يضعها على لسان شخص آخر يسميه الراوي.
وحكاياتنا الشعبية هي معاناة أشخاص حقيقيين رووها بلسان تلك العجوز حتى تلقى قبولاً ممن يستمع إليها من الأطفال كي يركبوا الأهوال في شبابهم.
وتظل هذه الحكايات اختصاراً لتاريخ أسفار الإنسان تحت وطأة السنين وتكشف سر كده ومعاناته. ولأن هذه الحكايات سلاح ذو حدين: ترهيب وترغيب لأن راوية الحكايات تعمل على تخويف الأطفال من الخروج من البيت ليلاً خوفاً عليهم من الجن والحيوانات, وترغيب لأنها تسرد بعض المغامرات بشكل مشوق وبالذات قبل النوم حتى تهدأ أعصاب الطفل ويروح في سبات عميق وفي الصباح ينتظر بشوق قدوم الليل المزعج لاستماعه إلى حزاوي الجدة الممتعة..
الحكايات الشعبية أول معهد للأطفال:
ولما كانت القصة واقعاً قوياً لجذب الطفل إلى معرفة المجهول، فأول معهد يتعلم فيه القصة هو البيت لما يكتسبه من أدب قصصي, فهو أسرع تأثيراً وأسهل تكويناً وأيسر توجيهاً بصرف النظر عن كون هذا التأثير والتكوين والتوجيه جاهلياً أو غير صالح عقلياً أو ذوقياً ففي هذه الحكايات فكرة ومغزى وخيال وأسلوب وسرد ولغة وكل هذا يؤثر في تكوين الطفل لمعرفة الصالح من الطالح عند الكبر.
وهذه العجوز الجاهلة والمعلمة المجهولة تحاول بهذه الحكايات تأديب الأطفال دون ما تدري، فهي تغرس في نفوسهم حب الأدب القصصي الشعبي, وتشبع شهوة سمعهم وتنمي خيالاتهم وتعوِّدهم على الحفظ وكيفية سرد ما تم حفظه لأترابهم مثلما يتعلم الطفل اليوم في المدرسة حكايات جحا وعلي بابا والسندباد والبخلاء وأحاديث كليلة ودمنة وليالي شهريار في ألف ليلة وليلة, وكل هذه حكايات خيالية تعليمية سواءً كانت بلسان إنسان أو بلسان حيوان, فدونت لتكون جزءاً من تراث أممي عربي أصيل. مع اعتقادنا أن الفنون الأدبية الشعبية يهتم بها في كثير من البلدان ولكنها محصورة على مناطق معينة. وبقيت العجوز الراوية مندثرة تحت رمال الزمان الشاسعة، مغطاة بالتطور الحضري المزعوم، ولم تكن الشجاعة متوفرة عند أديب لنبش ما هو مدفون تحت التراب وفي ذاكرة الأجيال السابقة وتوضيحه وتحليله للأجيال الحالية واللاحقة بصورة سليمة خالية من الشطح في الطرح, والاحتفاظ بما يتم جمعه من حكايات شعبية، والإكثار من الدراسة عليها بعد تدوينها.
وإذا قلنا إن هذه الحكايات واقعية امتزجت بالخيال والتصورات، ولها أبطالها ولها أمكنتها وأزمنتها التي حدثت فيها لأنهم يعتقدون أن هذه الأمكنة ممتلئة بالجن والوحوش سواء كانت في الأودية أو في غيرها أيام العناء والقحط, لهذا كان اعتقاد الإنسان أن الخوض أو المكوث في هذه الأمكنة الخالية والعمل فيها إنما هو إثبات لشجاعته وخوارقه وصبره على ركوب المكاره، فيقوم الراوي بسرد ما رآه وما سمعه وما واجهه من صعاب وما قابله من وحوش وما فعله أو ما لم يفعله، يرويه بشيء من الفلسفة والإضافة ومزج الواقع بالخيال لكي يظهر بصورة البطل الشجاع الذي لا يقهر وهو يخوض في الأغوار وبيده فأسه أداة رزقه كتصوير للمعاناة وكعزاء يخفف وطأة العناء..
وحتى تظهر لنا جلياً معاناة الإنسان القديم ومكابده لواقعه واضطراره لذبح أبنائه ككبش فداء للعيد لكثرة المطلوب وقلة المجلوب نقتطف بعضاً مما جاء في هذه الحكاية التي عنونتها بحسب مقتضى الحدث بحكاية (الثور): حيث إن رجلاً ماتت زوجته فعني بتربية ابنه وابنته والتفرغ لخدمتهما, ولما تعب الرجل تزوج من أخرى لتقوم برعايتهما ويتفرغ هو للعمل الذي يسد ريعه مصاريف البيت, وعندما قربت العيد وزادت طلباتهم أشارت إليه زوجته بذبح ابنيه الذي لم يحصل ذلك بسبب هروبهما في الليل حينما سمعت البنت الحديث الذي دار بين الأب وزوجته, فهربا إلى الوادي الذي توجد فيه بئر ماء, من يغتسل فيها ينقلب إلى ثور ومن يشرب منها فقط ينجو. فاغـتسل الابن وانقلب ثوراً فسارت به أخته فاطمة إلى بلاد السلطان الذي أرادها زوجة له بعدما اشترطت عليه عدم المساس بأخيها (الثور)، ولكن زوجها السلطان بعد ما ملّ جلسة الثور أمر خادمه بأن يسني عليه في بئر البستان, وبعد ثلاثة أيام تدهورت حالته ورك جسمه فأبلغ الخادم السلطان بذلك عسى أن يتركه لكن السلطان أعطاه مهلة ليوم واحد إن لم تتحسن حالته سيذبحه. لكن الثور الذي يفهم ما يدور بين السلطان وخادمه خرج للعمل مع الخادم وهو يئن تحت وطأة المرض خوفاً من الذبح وأخته (فاطمة) التي ستنقذه من هذا المأزق غارقة في البئر بعد سقوطها فيها، وهكذا ماتت فاطمة وما في بطنها وذبح أخوها الثور..
هذا ملخص للحكاية التي تختلف نوعاً ما عن الحكايات الأخرى, وقد أوردنا هذا التلخيص بلساننا وليس بحسب ما سمعناه من لسان العوام؛ لأنه في الأول والأخير تلخيصٌ لأهم الأحداث في الحكاية, ومن المؤكد أن سردها سيختلف من مكان إلى آخر, حيث إن فاطمة تظهر فيها زوجة للسلطان بيد أن في غيرها من الحكايات الشعبية الأخرى تكون ابنة السلطان..
فمن هو السلطان؟ ومن هي فاطمة بنت السلطان؟ هذا ما سنعرفه لاحقاً.
……… يتبع