تباريح قلم
د. طه حسين الحضرمي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 96
رابط العدد 4 : اضغط هنا
(1)
مصطلح (السيرة) الموصوف بـ( الذاتية) (Biographie) ليس أمينا إلى حد كبير إلا على سبيل التجوّز. فالذات هاهنا تبحر في محيط (الآخر) ولا وجود لها على الواقع المعيش منفردةً.فالذاتية هنا لا تعدو مواضعة للتعريف بأن هذه السيرة (تاريخ ذات) لا تستطيع الوعي بوجودها إلا في إطار التعايش مع الآخر بكل تجلياته أو مواجهته. إذن فهي ذاتية منفتحة تتداخل مع الآخر. وهذا التداخل بين الأنا والآخر ينبثق من تصور جوهري في اتحاد الجنس البشري في مشارق الأرض ومغاربها، بيد أنه في تصوره الواقعي يثير قضية من أهم قضايا العصر يشير سهمه الدلالي إلى تفاعل الأنا مع الآخر مواجهةً أو حوارا.
تتمايز الأنا عن الآخر في صور متداخلة على النحو الآتي:
ويتشكّل الآخر تجريدًا بوصفه حالةً من حالات التكوين النفسي لأي فرد بوصفه الآخر/ الآخر قياسًا إلى الأنا الخاصة بحسب تعبير تودوروف.
وعلى الرغم من هذا التداخل تسعى السيرة الذاتية إلى محاولة إماتة (الآخر) بإقصاء صوته –قدر المستطاع- فتتضخم (الذاتية) في إطار الأحداث (الراهنة) فلا نسمع خلال تدفق السرد إلا صدى صوت (الذات) فيتلاشي –جرّاء ذلك- صوت (الآخر) مع حضور طيفه الشفاف في إطار الأحداث بوصفه مساندا للوظيفة الأساسية للسرد؛ إذْ لا يتحقق السرد السير ذاتي إلا من خلال هذا التداخل/القسري بين الأنا والآخر.
تثير السيرة الذاتية بوصفها جنسا أدبيا إشكالية تتعلق بمقوماتها الفنية التي ترسم الحدود الفاصلة بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى مما تعتمد السرد الخيالي مثل الرواية ومما تعتمد الذاتية المحضة المستندة على التسجيل المباشر مثل اليوميات والمذكرات وغيرهما، لهذا تساءل غير واحد من الدارسين عن إمكانية عدّ السيرة الذاتية جنسا أدبيا مستقلا قائما بذاته.
هذا التساؤل له مشروعيّته؛ يسانده مآلُ التأملِ في (خانة الأشكال ذات العائلة الإجناسيّة الواحدة فيصعب التميّيز العلمي المقنع والنّهائي بين السّيرة الذّاتيّة والمذكّرات وبينها وبين السّيرة والرّواية الشّخصيّة وقصيدة السّيرة الذّاتيّة واليوميّات الخاصّة والرّسم الذّاتي أو المقالة فضلا عن علاقة السّيرة الذّاتيّة بالرّواية، فقد نجد عنصرا مفارقا في علاقة هذا الشّكل بالشّكل الآخر ولكنّ الحدود الفاصلة قد لا تبدو مطلقة ونهائيّة بقطع النّظر عن النّظريّة الّتي تبيح التّداخل بين الأجناس الأدبيّة وتشكّك في الحدود الفاصلة بينها) على حد تعبير الدكتور محمد الباردي.
فمن هنا جاء سعي الدارسين الحثيث إلى رسم حدود فاصلة بين السيرة الذاتية والأجناس الأدبية المتاخمة لها من مثل المذكرات واليوميات بشكل أساسي، وكثيرا ما قُرن بين السيرة الذاتية وبين المذكرات، على الرغم من الفارق البيّن بينهما؛ لأن السيرة الذاتية تدور في إطار سرد أحداث المعرفة الذاتية بعيدا عن سرد الأحداث العامة.أما المذكرات فتحرص عادة على تدوين الأحداث دون الالتفات الدائم إلى ذاتية كاتب المذكرات.
كما أن استخدام الزّمن يكاد يكون حدا فاصلا إلى حد ما بين السّيرة الذّاتيّة واليوميّات؛ لأن السيرة الذاتية مرتبطة بإطار زمني منتقى لحياة كاتب السيرة ويكون للاختيار مسوّغه التأليفي ولكن اليوميات تدور في إطار راهنية الزمن الماضي القريب على الرغم من أنهما يسلكان (اتّجاها زمنيّا واحدا [فهما] ينطلقان من الحاضر إلى الماضي ومن لحظة الكتابة إلى لحظة التّجربة فإنّ المساحة الزّمنيّة الّتي تفصل بين زمن الكتابة وزمن التّجربة تكون في السّيرة الذّاتيّة أوسع منها في اليوميّات) بحسب رؤية الدكتور محمد الباردي.
ثم إن الإحالة المرجعية بين هذين الجنسين تختلف، فإذا كانت مرجعية اليوميات تتسم بالدقة بحكم قرب لحظة التدوين من لحظة التجربة، فإن مرجعية السيرة الذاتية والمذكرات قد يشوبها الكثير من التشويش والاضطراب بحكم اعتمادها على الذاكرة، وقد قيل إن الذاكرة خوّانة.
على الرغم من كل ذلك تظل السيرة الذاتية بوصفها شكلا أدبيا مثار تساؤلات لا تعدّ ولا تحصى بسبب تداخل الأجناس السردية المختلفة في أحضانها وتوهّج الجانب الفني في متونها من جانب آخر.
(3)
هل السيرة في عمق هويتها الانطولوجية – بوصف الانطولوجيا عمقا معرفيا للتصنيف- ومآلها الإنتاجي علم أو فن؟ يرى السير (هارولد نيكلسون) أن السيرة الذاتية بوصفها تاريخا لحياة الأفراد فرع من الأدب؛ بيد أنه يتنبأ متشائما –على حد تعبير ليون إدل- بأنها ستتحول لا محالة إلى فرع من العلم.وهو بهذا القول يبدو واقعا تحت تأثير الرواد الميسرين للتحليل النفسي ومنغمسا في موجات (التقليعات) الزائلة التي كانت تقول في أوائل القرن العشرين بإمكانية نقل غدد القرد إلى الإنسان! لهذا كان على يقين بأن السيرة ستتحول باستمرار إلى تاريخ علمي، بدلا من أن تروي حياة أصحابها بأسلوب أدبي.
أما (فرجينيا وولف) فتقف مترددة للفصل في هذا الأمر مستخدمة توصيفا يشي بأدبية السيرة؛ إذ إنها ترى أن السيرة ليست فنا ولا علما وإنما هي نوع من الصنعة الراقية.فبهذه الوسطية جعلت (وولف) كاتب السيرة (صانعا) يعين على التخفيف من غلواء الأخيلة الأدبية البحتة ويساعد على تسرب (الحقيقة الرزينة) إلى هذا العالم في توازن مموسق بين التسجيل والتخييل.
(4)
تتخذ السيرة الذاتية طرائق تشكيل وسبلا تعبيرية أشتاتا وفقا للغايات التي يتوخاها كاتب السيرة؛ انطلاقا من التسجيل المحض للأحداث بلغة علمية محدودة الدلالات إلى التخييل المحلق بلغة أدبية تكثر فيها الانزياحات.
احتضنت كتب التاريخ شذرات مما عُرف بالتراجم التي تدور في إطار الغيرية؛ بيد أن بعض المؤرخين والأدباء انفردوا بإيراد تراجمهم الذاتية في مصنفاتهم اقتداء بالمحدّثين على نحو ما صنع ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) ولسان الدين بن الخطيب في (تاريخ غرناطة) وجلال الدين السيوطي في (حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة).
ثم اتخذت الترجمة الذاتية سبيلا آخر أكثر إيغالا في الأدبية ولكن في دائرة التسجيل مثلما فعل أسامة بن منقذ في (الاعتبار) ثم حلّقت في فضاء البعد المعرفي والروحي كما هو عند الإمام أبي حامد الغزّالي في (المنقذ من الضلال).ظلت السيرة الذاتية تراوح بين هذين الاتجاهين في إطار التسجيل الحر لحياة صاحب السيرة.وهذا ما نلحظه في كتابات السيرة الذاتية في العصر الحديث التي اتخذت عنوانا مباشراً مثل (حياتي)/أحمد لطفي السيد، أحمد أمين، عبدالرحمن بدوي.أو بعنوانات مراوغة ذات بعد تشويقي مثل (ذكريات عارية) للسيد أبو النجا. كما إن الأديب قد يلجأ إلى الاتكاء على الأحلام والمنامات والرؤى كما صنع نجيب محفوظ في أصداء سيرته الذاتية على طريقته المعهودة في البعد عن المباشرة والتقريرية.