نقد
عبدالله علي باسودان
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 100
رابط العدد 4 : اضغط هنا
من علوم الشعر: التضمين والإجازة
يقول ابن رشيق القيرواني هذا باب يختلط على كثير من الشعراء ممن ليس له ثقوب في العلم ولا حذق بالصناعة، التضمين هو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم فتأتي به في أواخر شعرك أو في وسطه كالمتمثل، نحو قول محمود بن الحسين كشاجم الكاتب:
يا خاضب الشيب والأيام تظهره * هذا شباب لعمر الله مصنوع
أذكرتني قول ذي لب وتجربة* في مثله لك تأديب وتقريع
إن الجديد إذا ما زيد في خلق* تبين الناس أن الثوب مرقوع
فهذا جيد في بابه، وأجود منه أن لو يكون بين البيت الأول والآخر واسطة؛ لأن الشاعر قد دل بذلك على أنه متهم بالسرقة، أو على أن هذا البيت غير مشهور، وليس كذلك، بل هو كالشمس اشتهاراً، ولو أسقط البيت الأوسط لكان تضميناً عجيباً، لأن ذكر الثوب قد أخرج الثاني من باب الأول إلا في المعنى، وهذا عند الحذاق أفضل التضمين، فإنما احتذى كشاجم قول ابن المعتز :
وها أنا ذا مستعتب متنصل* كما قال عباس وأنفي راغم
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه* وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
وأبيات العباس بن الأحنف التي منها البيت المضمن هي قوله:
وصب أصاب الحب سوداء قلبه * فأنحله، والحب داء ملازم
فقلت له إذ مات وجداً بحبه* مقالة نصح جانبتها المآثم:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه* وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
فإنك إن لم تحمل الذنب في الهوى* يفارقك من تهوى وأنفك راغم
فهذا النوع من التضمين جيد، وهو الذي أردنا من قبل؛ وأجود منه أن يصرف الشاعر المضمن وجه البيت المضمن عن معنى قائله إلى معناه، نحو قول بعض المحدثين، ونسبه قوم إلى ابن الرومي:
يا سائلي عن خالد، عهدي به* رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غب سمائه* جفت أعاليه وأسفله ندي
هكذا أعرفه، وروى ” عن جعفر ” فصرف الشاعر قول النابغة في صفة الثغر:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ* برداً أسف لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غب سمائه * جفت أعاليه وأسفله ندي
إلى معناه الذي أراد.
ومن هذا المعنى أيضاً قول ابن الرومي بلا محالة:
وسائلة عن الحسن بن وهبٍ * وعما فيه من كرم وخير
فقلت: هو المهذب غير أني * أراه كثير إرخاء الستور
وأكثر ما يغنيه فتاه* حسين حين يخلو بالسرير
فلولا الريح أسمع من بحجر * صليل البيض تقرع بالذكور
فالبيت الأخير لمهلهل، فجاء قرع البيض بالذكور ههنا عجيباً، وإن كانت اللفظتان في المعنى غير اللفظتين،
ومن الشعراء من يضمن قسيماً نحو قول بعضهم، أظنه الصولي:
خلقت على باب الأمير كأنني * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذا جئت أشكو طول ضيق وفاقة * يقولون: لا تهلك أسى وتحمل
ففاضت دموع العين من سوء درهم * على النحر حتى بل دمعي محملي
لقد طال تردادي وقصدي إليكم * فهل عند رسم دارس من معول
ومنهم من يقلب البيت فيضمنه معكوساً، نحو قول العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان لمسلمة بن عبد الملك
لقد أنكرتني إنكار خوف * يضم حشاك عن شتمي وذحلي
كقول المرء عمرو في القوافي* لقيسٍ حين خالف كل عذل
عذيرك من خليلك من مراد* أريد حياته ويريد قتلي
والبيت المضمن لعمرو بن معدي كرب الزبيدي، قال له لابن أخته قيس بن زهير بن هبيرة بن مكشوح المرادي، وكان بينهما بعد شديد وعداوة عظيمة، وحقيقته في شعر عمرو:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا رأى ابن ملجم تمثل بهذا البيت.
ومن التضمين ما يجمع فيه الشاعر قسمين من وزنين كقول علي بن الجهم يعرض بفضل الشاعرة جارية المتوكل وبنان المغني وكانا يتعاشقان فإذا غنى بنان:
اسمعي أو خبرينا * يا ديار الظاعنينا
غنت هي كالمجاوبة له عما يقول:
ألا حييت عنا ما مدينا * وهل بأس بقول مسلمينا
فقال علي منبهاً عليهما في ذلك:
كلما غنى بنان * اسمعي أو خبرينا
أنشدت فضل ألا حي * يت عنا يا مدينا
عارضت معنى بمعنى * والندامى غافلونا
أحسنت إذ لم تجاوب * هم ديار الظاعنينا
لو أجابتهم لصرنا * آية للسائلينا
واستعاد الصوت مولا * ها وحث الشاربينا
قلت للمولى وقد دا * رت حميا الكأس فينا
رب صوت حسن ين * بت في الرأس قرونا
وأنشد ابن المعتز في باب التضمين للأخطل:
ولقد سما للخرمي فلم يقل * يوم الوغى لكن تضايق مقدمي
إشارة إلى قول عنترة العبسي:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم * عنها ولكني تضايق مقدمي
وهذا تضمين أنت ترى كيف هو، وأنشد لآخر:
عوذ لما بت ضيفاً له * أقراصه مني بياسين
فبت والأرض فراشي وقد * غنت قفا نبك مصاريني
ومن التضمين ما يحيل الشاعر فيه إحالة، ويشير به إشارة، فيأتي به كأنه نظم الأخبار أو شبيه به، وذلك نحو قول بعضهم في معنى قول ابن المعتز كما قال عباس: وأنفي راغم إنه لم يرد الأبيات المقدم ذكرها، وإنما أراد قوله للرشيد حين هجرته ماردة:
لا بد للعاشق من وقفةٍ * تكون بين الوصل والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به * راجع من يهوى على رغم
فهذا النوع أبعد التضمينات كلها، وأقلها وجوداً، وذلك نحو قول أبي تمام:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي * أرق وأحمى منك في ساعة الكرب
أراد البيت المضروب به المثل:
المستجير بعمرو عند كربته * كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقد صنعت أنا معنى الهجاء:
عرسه من غير ضيرٍ * عرس زيد بن عمير
أبداً تزني فإن حاض * ت تقد حباً لأير
ولها رجلان من نا * قة كعب بن زهير
هكذا تبنى المعالي * ليس إلا كل خير
” زيد بن عمير ” هو الذي يقول في زوجته:
تقود إذا حاضت، وإن طهرت زنت * فهي أبداً يزنى بها وتقود
و ” كعب بن زهير ” يقول في وصف ناقته:
تهوى على يسرات وهي لاهية * ذوابل وقعهن الأرض تحليل
فكانت هذه المرأة في حاليها لا تقع رجلاها بالأرض: إما لكثرة مباضعة أو شدة مشي في فساد.
ومن أنواع التضمين تعليق القافية بأول البيت الذي بعدها، وقد تقدم ذكره،
وأما الإجازة فإنها بناء الشاعر بيتاً أو قسيماً يزيده على ما قبله، وربما أجاز بيتاً أو قسيماً بأبيات كثيرة، فأما ما أجيز فيه قسيم بقسيم فقول بعضهم لأبي العتاهية: أجز برد الماء وطابا، فقال: حبذا الماء شرابا، وأما ما أجيز فيه بيت ببيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة :
متاريك أذناب الأمور إذا اعترت * أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها
وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، لا أجيز عنك، فقال: أوعندك ذاك؟ قالت: بلى، قال: فافعلي، فقالت:
مقاويل للمعروف خرس عن الخنا *كرام يعاطون العشيرة سولها
قال: فحمي الشيخ عند ذاك، فقال وقافية مثل السنان ردفتها * تناولت من جو السماء نزولها
فقالت ابنته:
راها الذي لا ينطق الشعر عنده * ويعجز عن أمثالها أن يقولها
وذكر أن العباس بن الأحنف دخل على الذلفاء فقال: أجيزي عني هذا البيت:
أهدى له أحبابه أترجة * فبكى وأشفق من عيافة زاجر
فقالت غير مفكرة:
خاف التلون إذ أتته لأنها * لونان باطنها خلاف الظاهر
فحلف لها بكل الأيمان، وكانت تعزه، لئن ظهر البيت إن دخلت منزلكم أبداً، وأضافه إلى بيته.
وأما ما أجيز فيه قسيم بيت ببيت ونصف فقول الرشيد للشعراء: أجيزوا: الملك لله وحده فقال الجماز: وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما * حبيبه بات عنده
واستجاز سيف الدولة أبا الطيب قول عباس بن الأحنف:
أمني تخاف انتشار الحديث * وحظي في ستره أوفر؟
فصنع القصيدة المشهورة:
هواك هواي الذي أضمر * وسرك سري فما أظهر
إلا أنه خرج فيها عن المقصد.
والإجازة في هذا الموضع مشتقة المعنى من الإجازة في السقي، يقال: أجاز فلان فلاناً، إذا سقى له أو سقاه، الشك مني، وأما اللفظة فصحيحة فصيحة.
وقال ابن السكيت: يقال للذي يرد على أهل الماء فيستقى: مستجيز: قال القطامي:
وقالوا فقيم الماء فاستجز * عبادة؛ إن المستجيز على قتر
ويجوز أن يكون من ” أجزت عن فلان الكأس ” إذا تركته وسقيت غيره، فجازت عنه دون أن يشربها، فقال أبو نواس:
وقلت لساقينا أجزنا فلم أكن * ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني عقاراً ترى لها * إلى الشرف الأعلى شعاعاً مطنبا
وقد تقدم ذكره الإجازة التي فيها عيوب القوافي، وذكرت اشتقاقها.
ومن هذا الباب نوع يسمى التمليط، وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهناً فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعاراً فقال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح، فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا ولا يزالان هكذا، يصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً إلى آخر الأبيات،
وقد تقدم إنشادها في باب أدب الشاعر من هذا الكتاب.
وربما ملط الأبيات شعراء جماعة، كما يحكى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين بن الضحاك الخليع ومسلم بن الوليد الصريع خرجوا في متنزه لهم ومعهم يحيى بن المعلى، فقام يصلي بهم، فنسي الحمد وقرأ ” قل هو الله أحد ” فارتج عليه في نصفها، فقال أبو نواس: أجيزوا:
أكثر يحيى غلطاً * في قل هو الله أحد
فقال عباس:
قام طويلاً ساهياً * حتى إذا أعيا سجد
فقال مسلم بن الوليد:
يزحر في محرابه * زحير حبلى بولد
فقال الخليع:
كأنما لسانه * شد بحبل من مسد.
المتقدم في الشعر من القبائل العربية
عن محمد بن سلام الجمحي في كتاب الطبقات، وغيره من المؤلفين، أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل بن ربيعة واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس، وإنما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي: رقته وخفته، وقيل: لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله
لما توقل في الكراع شريدهم * هلهلت أثأر جابراً أو صنبلا
ويروى لما توعر في الكلاب هجينهم قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري: يعني بقوله هجينهم امرأ القيس بن حمام الذي ذكره امرؤ القيس في شعره حيث يقول:
عوجا على الطل المحيل لعلنا * نبكي الديار كما بكى ابن حمام
وكان مهلهل تبعه يوم كلاب ففاته ابن حمام بعد أن تناوله مهلهل بالرمح، وقد كان ابن حمام أغار على بني تغلب مع زهير بن جناب فقتل جابراً وصنبلاً، ويروي ” لأننا ” بمعنى لعلنا، وهي لغة فيما زعم بعض المؤلفين، والذي كنت أعرف ” لعننا ” بالعين ونونين، وكذلك أعرف ” ابن جذام ” بذال معجمة، كذا روى الجاحظ وغيره، ويروى ” خذام ” بالخاء والذال المعجمتين. وكان مهلهل أول من قصد القصائد، قال الفرزدق بن غالب: ومهلهل الشعراء ذاك الأول وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم الشاعر أبو أمه.
ومنهم المرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، وعمرو بن قميئة ابن أخيه، ويقال: إنه أخوه، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل: ربيعة بن سفيان، وهذا أعرف.
ومنهم سعد بن مالك الذي يقول:
يا بؤس للحرب التي * وضعت أراهط فاستراحوا
ولا أدري هل هو أبو عمرو بن قميئة الشاعر والمرقش الأكبر أم لا؟؟ وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس وهو خال طرفة، واسمه جرير بن عبد المسيح والأعشى واسمه ميمون بن قيس بن جندل، وخاله المسيب بن علس واسم المسيب زهير، ثم تحول الشعر في قيس فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب لأنهم ينسبون في عبد الله بن غطفان، واسم أبي سلمى ربيعة، ولبيد، والحطيئة، والشماخ واسمه معقل بن ضرار وأخوه مزرد، واسمه جزء بن ضرار، وقيل: بل اسمه يزيد وجزء أخوهما، وكان المزرد شريراً يهجو ضيوفه، وهجا قومه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
تعلم رسول الله أنا كأنما * أفأنا بأنمار ثعالب ذي صحل
تعلم رسول الله لم أر مثلهم * أجر على الأدنى وأحرم للفضل
ومنهم خداش بن زهير.
ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه، وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان الأصمعي يقول: أوس أشعر من زهير، ولكن النابغة طأطأ منه، وكان زهير راوية أوس، وكان أوس زوج أم زهير.
وسئل حسان بن ثابت رضي الله عنه: من أشعر الناس؟ فقال: أرجلاً أم حياً؟ قيل: بل حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل. قال ابن سلام الجمحي: وأشعر هذيل أبو ذؤيب غير مدافع، وحكى الجمحي قال: أخبرني عمر بن معاذ المعمري قال: في التوراة مكتوب أبو ذؤيب مؤلف زوراً، وكان اسم الشاعر بالسريانية، فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه وقال: قد بلغني ذلك، وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهن ثلاث: وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن: فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة في السراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد أزد شنوءة وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، وقال أبو عمرو أيضاً: أفصح الناس علياً تميم وسفلياً قيس، وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة، يعني عجز هوازن، قال:
ولست أقول قالت العرب إلا ما سمعت منهم، وإلا لم أقل قالت العرب * وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عنده.
وقوم يرون تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانيء وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبو الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب والبحتري، ويختمون الشعر بأبى الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة وكان ينسب في كندة، وهي رواية ضعيفة، وإنما ولد في كندة بالكوفة فيما حكى ابن جني، وإلا فكان غامض النسب، فيقولون: بدئ الشعر بكندة يعنون امرأ القيس وختم بكندة يعنون أبا الطيب، وزعم بعض المتأخرين أنه جعفي، وقوم منهم الصاحب بن عباد يقولون: بدئ الشعر بملك وختم بملك، يعنون امرأ القيس وأبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها، يريدون مهلهلاً وأبا فراس، وأشعر أهل المدر بإجماع من الناس واتفاق حسان بن ثابت… وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرمة، والرجز برؤبة بن العجاج، وزعم يونس أن العجاج أشعر أهل الرجز والقصيد، وقال: إنما هو كلام فأجودهم كلاماً أشعرهم، والعجاج ليس في شعره شيء يستطيع أحد أن يقول: لو كان في مكانه غيره لكان أجود، وذكر أنه صنع أرجوزته: قد جبر الدين الإله فجبر فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، قال: ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الوزن لكانت منصوبة كلها.. وقال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء… وقال غيره: أول من طول الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأنه إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك… وكان أبو عبيدة يقول: افتتح الشعر بامرئ القيس، وختم بابن هرمة، ولم أر أنقد من الذي قال: أ شعر الناس من أنت في شعره…وأنشد مروان بن أبي حفصة يوماً جماعة من الشعراء، وهو يقول في واحد بعد واحد: هذا أشعر الناس، فلما كثر ذلك عليه قال: الناس أشعر الناس.
وكل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق، فجعله مولداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين.
قال الأصمعي: جلست إلى ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم، ليس النمط واحداً: ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع، هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: كالأصمعي، وابن الأعرابي، أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم من قبلهم وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة.
فأما ابن قتيبة فقال: لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوماً دون قوم، بل جعل الله ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره.
ومما يؤيد كلام ابن قتيبة كلام علي رضي الله عنه: ” لولا أن الكلام يعاد لنفد “، فليس أحدنا أحق بالكلام من أحد، وإنما السبق والشرف معا في المعنى على شرائط نأتي بها فيما بعد من الكتاب إن شاء الله. وقول عنترة هل غادر الشعراء من متردم يدل على أنه يعد نفسه محدثاً، قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه ولم يغادروا له شيئاً، وقد أتى في هذه القصيدة بما لم يسبقه إليه متقدم، ولا نازعه إياه متأخر. وعلى هذا القياس يحمل قول أبى تمام وكان إماماً في هذه الصناعة غير مدافع :
يقول من تقرع أسماعه * كم ترك الأول للآخر
فنقض قولهم: ” ما ترك الأول للآخر شيئاً “، وقال في مكان آخر فزاده بياناً وكشفاً للمراد:
فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت * حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول: إذا انجلت * سحائب منه أعقبت بسحائب
وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة علية وإن خشن.
و يقول القاضي أبو الفضل جعفر بن أحمد النحوي وقد سئل عن ذي الرمة وأبي تمام فأجاب بجواب يقرب معناه من هذا لم أحفظه،
وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين: إنما تروى لعذوبة ألفاظها، ورقتها، وحلاوة معانيها، وقرب مأخذها، ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت؛ لأن المتقدمين أولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب: يستميل أمة من الناس إلى استماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان.. وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغني الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت: يعرض عنه إلا من عرف فضل صنعته، على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات، وإنما يجعل معلماً للمطربات من القينات: يقومهن بحذقه، ويستمتع بحلوقهن دون حلقه، ليسلمن من الخطأ في صناعتهن، ويطربن بحسن أصواتهن.
وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من أحسن ماوقع، إلا إن أوله من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم * فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت * سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها * أفذو العيان كأنت في الحكم؟؟
وإذا وصفت الشيء متبعاً * لم تخل من غلط ومن وهم
ولم أر في هذا النوع أحسن من فضل أتى به عبد الكريم بن إبراهيم فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد مالا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره: كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم، ونوادر حكاياتهم، قال: والذي أختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشي المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر، والتشبيه المصيب، والاستعارة الحسنة.
فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه كالذي لفظه سائر في كل أرض، معروف بكل مكان، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفسافاً، ولا بارداً غثاً، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشياً خشناً ولا أعرابياً جافياً، ولكن حال بين حالين..
ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولاً عنهم؛ إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكاً، وأحسن ديباجة.