إبداعات
د. أحمد علي السري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 4 .. ص 105
رابط العدد 4 : اضغط هنا
هبطت الطائرة في مطار سيئون، واستعد صديقي الألماني وأنا للمغادرة، فتح باب الطائرة و تنفست أول هواء في حضرموت، أحسسته يتخلل كياني المثقل بعذابات التاريخ وشجونه، فأنا مثل الألماني لم يسبق لي رؤية حضرموت قط.. كنت مثله سائحًا يتلفت باحثاً عن كل ألوان الدهشة والغموض. أقلتنا سيارة إلى فندق السلام، وفي المساء أخذنا نخطط للسياحة والتجوال، وكانت “شبام” أولى المحطات، هذا اللغز الطيني الشامخ في حضن الرمل والأفق اللانهائي. تركنا السيارة وصعدنا تلة قريبة تجاور شبام الجديدة لنرقب من هناك أطراف اللغز وعمق التاريخ، سرحنا البصر في الأنحاء يتجول مع نسيمات هواء لذيذ، ثم أخذتني رعشة وجد صوفي وأنا أستشعر سحر المدى الصامت يجمل عروساً خَفِرَةً مليئة بالحياة والفتنة يسمونها شبام. هبطنا من التلة بعدئذ، ووصلنا إلى الساحة الرملية الفاصلة بين شبام القديمة والجديدة. كنا نستمتع بغوص أرجلنا في الرمل، وبعد قليل غاصت في الرمل عجلات سيارة فخمة تحمل رقماً من “دبي”، وتقل نساء ملفعات بالسواد، هرعنا إلى السيارة مع من هرع للمساعدة في دفعها لتخرج من بين الرمل، ولم نفلح، ثم اقترح أحدهم تخفيف وزن السيارة ليسهل دفعها فتخرج من عثرتها، فنزلت كل النساء اللاتي تقلهن السيارة، إلا السائق، ولم يكن هناك غيره من الرجال. توقفت عن دفع السيارة، وبعد قليل كان الألماني هو الآخر يقف إلى جانبي.. كنت من غير دراية قد ألغيت قيود الزمان والمكان، أذكر فقط أني تقدمت باتجاه الفتيات اللاتي نزلن من السيارة، وحاولت جهدي التزام أدب جم وأنا أشير إلى قنينة ماء كانت بيد غيداء باسقة، بدت لي كأنها تراقب اقترابي منهن. تمايلت في مشيتها وهي تخطو نحوي كعود الخيزران، وفاحت منها رائحة عقود الياسمين الملقاة على صدرها، فيما ارتش جمال الغروب البرتقالي على وجهها المستور عقيقاً يمانياً خالصاً.
سألتها شربة ماء، إذ لم أشأ، ونحن في حضرة الماء والرمل أن أشتط بعيداً عن أسلافنا العشاق، فالماء كان وما يزال واصل ودٍ بين القلوب، كما كان دأبه في صحراء العرب، وهو المروي لكل ظمأ والخازن لكل الأسرار.
حدقت إليَّ الحسناء بعينين حالمتين، قصدت بهما صب الإغراء كله دفعة واحدة، فلا وقت هنا لتقسيط الغواية والإغراء أو ممارسة صد كاذب إلى حين، ولعلي كنت أفعل مثلها دون دراية، فالصدفة قصيرة مثل حلم عابر، ولابد من القبض ولو على أثر منه يسير.. لم أكتم آهتي التي أطلقها إغراء العيون المتسلل من وراء النقاب الأسود الشفاف، وهذي الأكف البيضاء والأنامل الملساء الممتلئة رشاقة ورقة.. كأنها بعد لم تمس شيئاً من أشياء الدنيا.. إنها خاصة بهذه الحورية التي هبطت من السيارة لترسل لهيب فتنتها المكتوم إلى مكمن الفؤاد فتوقد جمراً وتشعل حرائق. كل شيء ينداح الآن عبر هذه النظرات الآتية من منابت الشوق المبثوث في الضلوع، منابت شوق إلى وجدٍ عاصفٍ مُوَشَّى بالتوابل والبخور .. لعل القلب هنا أخيراً يلقي عصاه ويستقر به النوى، حتى الرمل والغبار الطالع من دوران عجلة السيارة تجاوزنا بأمان ولم تصبنا ذراته، وهذا الصديق الألماني الذي أرافقه، يحدق مستغرباً ويقول، ما هكذا ننظر نحن إلى النساء، أما كيف تنظرون أنتم لبعضكم ففيه من العناق والنشوى ما يستحق فعلاً كل دواوين الشعر.
ناولتني قنينة الماء، فشربت ماء من يدها ووجداً من طرفها، أروتني من هذه وأظمأتني من تلك.. وختمت على ظمئي بالبوح باسمها، ” سماء”، اسمي سماء، وأنت؟ شكرت لها شربة الماء، ونسيت اسمي، ولم أجرؤ على الشكوى من آهات تتوالد في الأحشاء صامتة متفجرة، فصويحباتها يرقبن المنظر مترعات بالذهول، بالجذل بالنشوى، بتلك الضحكات الخافتة الغامزة، اللاهية العابثة.. لم أكترث.. اقتربت منها قليلاً لأهمس باسمي، فنسيت ثانية وأنا أرى شمس الأصيل تلامس غشاء وجهها الشفاف فيختلط الأسود بالبرتقالي وتتشكل على صفحة وجهها لوحة مكتملة الأناقة تنتظر الافتتاح.
ولقد أدْرَكتْ يقيناً ما صنعته بي، فلم تقنع به، فزادتني ظلماً فوق ظلم وهي تميط غشاء وجهها بكل دلال النساء وغنجهن، ثم قالت، وعيناها الحالمتان تمارسان القتل الحلال، وقد تركت عباءتها تنحسر قليلاً عن نهدين يمتلئان كرماً وخيلاء، : إني أعدك بالجنة… . كانت نظراتها الفاتنة المرافقة للحظة الوداع الوشيكة قد أعادت إلى الذهن كل قصائد الغزل الصحراوية، ثم أدركت نفسي وأنا أراني أغوص في ملكوت الضياء والمرجان وأقول لها: لست أدري من أين أتيت ولا إلى أين تمضين ..لكن قلبي كان هناك من حيث جئت وسيرحل معك، خذيه أمانة وارفقي به إلى أن ألقاك ثانية، لست أدري أين، لكني حتماً سألقاك، وأنا منذ الساعة ملتقى القبائل كلها ومستقر العشائر والأحياء. وعلى عجلة من الأمر ونحن ندرك ثانية شروط الزمان والمكان، ونسمع صويحباتها يستعجلن صعود السيارة، قالت إنها ستكون في “تريم” يوم ” سباق الهجن ” العائدة من قبر النبي هود عليه السلام، وأنها تعيش في “دبي”، وأنها كل عام بهذه المناسبة هناك في تريم، وليتها هذه المرة تبقى وتكف عن الترحال.. تحَسَّرتْ كثيراً وهي تقول إني لن أعرفها وسط المحشورين من رجال ونساء في ذلك الشارع الذي يقام فيه سباق الهجن، قلت: لا عليك سأكون هناك وسأعرفك؛ إذ لا أعتقد أن امرأة أخرى لها هذه العيون وهذه الأكف، وهذه علامات تحول كل حيرة إلى يقين، وسأجدك.. وسأجد معك بإذنه مستقراً ومتاعاً إلى حين.
آه يا صديقي الألماني! كيف ستمر الأيام بعد الآن؟ هل نغير خطة السياحة والتجوال ؟ كيف أطوي شوق الأيام القادمة حتى يأتي سباق الهجن في تريم، ذلك المهرجان الشعبي الكبير الذي يعقب زيارة قبر النبي هود، سمعت الناس يتحدثون عنه، وكلهم يؤكد أن ذلك اليوم موعد للحشر لأهل تريم وزوارها. تلك اللحظات كانت كفيلة ليدرك هذا الألماني أني سأتمرد على الجداول والساعات وعلى كل ما يخرجني من لهفة الشوق ومتعته. عليك يا فتى هامبورج أن تعيش لوقتك، كن الآن بلا ذاكرة، بلا جدول زمني وبلا إحصاء للساعات وتمتع باستعادة الذكرى ونحن نقف إلى تلك الحورية النازلة من السيارة. إن عليَّ أن أشكرك يا صديقي الألماني، فقد وجدنا جميعاً بوجودك عذراً للاقتراب والحديث، فأنت، بشقرة شعرك وزرقة عينيك، تثير فضولاً مفهوماً، خاصة أن القصة كلها الآن تحدث بمحض الصدفة. كانت تحدق بك من وقت لآخر وتكلمني أنا، ..وكنت أسمع همس ابن أبي ربيعة يسافر في الفلوات:
إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينيكَ غيرَنا لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظرُ.
قل له ما شئت بعدئذ هذا النصراني، لكني أخاطبك أنت، الملفوح بهجير الشمس ككل أهلي في هذه الربوع، لا شك أنه قدر مكتوب أن تغوص عجلات السيارة هنا لنهبط وتهبط علينا بركات السماء فنلتقي. يقاطعني هذا الألماني ويقول: هذا سخف كبير.. أية تهيُّؤات هذه وأية أوهام، إذ لا وجود للحب من النظرة الأولى، وما هكذا تفهم مثل هذه اللحظات العابرة، لقد كان ما رأيت مشهداً كاشفاً لأثر الحرمان والعزل لنساء وراء العباءات والأسوار، ولعلها لم تر شاباً في حياتها بكل هذا القرب، وربما كانت مثلك تتلهف بشوق إنساني حاد لإطلاق أمنيات حبيسة ولتحرير شوق متوثب في الضلوع، وفي كيانها كله، كالذي يحدث الآن في لحظات أمامي، لعل الأمر حقاً قدرٌ كما تقولون. ليكن ما تراه يا صديقي الألماني، لكنها لحظة حقيقية، تنفست فيها كل أشواق الدهور بحق وعمق، حتى وإن كانت “سماء” من بنات الأساطير التي خرجت للتو من قصرها المسحور.. لعلها أزعجت صويحباتها بشوقها الكامن ولو للحظة حب يتيمة، كما أزعجتك أنا منذ بدأنا السياحة والتجوال، وقد تؤرق مضاجع كل من تعرف بعد الآن، كما سأؤرق أنا مضجعك باسترداد الذكرى.
أخذتنا أزقة شبام الجميلة وأسلمتنا الطرقات لبعضها، هانحن يعترض طريقنا رجل أعرج ويسأل عن النصراني أهو ألماني؟ فأجيب بالإيجاب، ويحدثنا الرجل مغموراً بامتنان عميق عن طبيبة ألمانية عالجت كثيراً من الناس هنا، أحدهم هو ولولاها لبترت ساقه، وذلك الذي يمشي هناك، كان يعاني إسهالاً حاداً فعالجتْه، والآخر هناك عند بوابة المسجد، ذلك الذي يقرأ القرآن، جبرت له كسر يده، وآخرين وأخريات أعانتهم على مدى سبع سنوات. كانت امرأة طيبة ولم ننسها رغم مرور أربعين عاماً على مغادرتها. اسمها “إيفاهوك” وقد كتبت كتاباً عن خبراتها في تعز وحضرموت، أوردتْ فيه عن أجمل الكلام، إنها من هامبورج ، هل يعرفها هذا الألماني؟ علق الألماني باسماً وأنا انقل له السؤال الأخير: لا شك إن هذا الرجل يعرف كل أهل الوادي فاسأله عن فتاتك، اسأله عن سماء، نعم فتاتي ثانية .. جميل أن تتذكرها معي ، بدل أسئلتك البلهاء عن أنواع الأكل وسر طعمها اللذيذ، وعن عمر المدن وطرازها المعماري في شبام وتريم وإن كان به أثر من الهند أو بريطانيا. غادر ولو لبرهة من الوقت منصة الأسئلة المضنية واهبط إلى واحة القلب، وتذكر معي كيف صعدت السيارة وجلست بقرب النافذه وأخرجت رأسها تودع ونحن نقف كالتماثيل، وصرخة كادت تنطلق وتفضح المستور، ألم ترها وهي تحرك كفها بعدئذ مودعة ونحن لا نجرؤ من نظرات المارة على شيء، أتفهم يا فتى هامبورج، لقد كان الرمل كله شاهداً على ميلاد لحظة حب، وحين ابتعدت سماء، سمعت نشيد الرمل يردد معي ما أبدعه الشريف الرضي في سنوات عشقه الخالية:
فتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب.
أنَّى لك أن تفهم هذا يا أخي..ليتك تصغي قليلاً إلى نشيد الرمل وتساعدني على احتمال الأيام الباقيات .. أيام.. أراها دهراً يستطيل وبعداً لا دنو له.. أيام ويأتي الموعد يا صاحبي وستكون هناك، إنه مشهد بهيج كما يخبرنا كل أهالي تريم ويخرج إليه الصغير والكبير، وهو تقليد عمره آلاف السنين ومناسبة للفرح والمتعة، وألسنتهم ستلهج كعادتها بالشكر والحمد لله.
طوينا الأيام الباقيات في سياحة جذلة مرحة ننتقل من مكان لآخر، وأحاول أنا جهدي نسيان الوقت والزمان، وأحلق فوق الهضاب والوديان، آه يا صديقي الألماني حدق معي فوق الهضاب والوديان، فقد نصادفها سحابة شاردة أو نسمعها نشيداً في الغمام، لعلها مثلي تماماً سائحة في بلادها بعد غربة و ابتعاد..الآن نستطيع التجول حيث شئت.. إن في داخلي طاقة لزيارة كل شيء ورؤية كل شيء، وفي لساني طلاقة لأشرح لك ما تحب حتى أتفه التفاصيل.
أيقن الألماني أني مسني العشق، وأني صرت من الغاوين. ها نحن نتمخطر بين منازل ودروب، بين بشر وحقول، بين أفراح وأتراح، وسط رمل محرق تارة، وقرب جبال شاهقة تارة أخرى، هاهم أهل حضرموت يمرون مرتسمة على وجوههم شمائل صفاء إنساني وبساطة الأيام الأولى للاجتماع البشري.. هناك بركة ماء لا ورَّاد بجانبها، وكأنها هناك فقط لسقي النخلة الباسقة على ضفتها، يبدو أن لا أحد يعتدي على حملها الجميل، وهناك قطيع أغنام وراع في هيئة فاتح نبيل، ممتشقاً بندقية، ويفرغ في جوفه ماء بارداً من زق لم نعد نراه إلا في هذه النجوع الطيبة، وهناك عند حافة المنحدر سقاية لإرواء ظمأ العابرين، دون سؤال عن أشكالهم وألوانهم، هيئات نسائية تتحرك من بعيد، ليس بينهن سماء..إذ لا عين ترسل أشواقها إلي ولا أرى كفاً يتحرك للسلام.. كانت النشوى داخلي تزداد اتساعاً وتألقاً ويزداد مس العشق عمقاً وأنا أرى الطبيعة البهية حولي محنية الهامة تواضعاً ترحب بالزوار وتسألهم اللطف في معاملة أهلها الطيبين.. أرفع رأسي لأنظر إلى السماء.. باحثاً عن سمائي فلعها هناك غمامة رحيمة أو غيث حميم.. لكن بصري يرتد خاسئاً وهو حسير، فأعود أحدق في الأنحاء، في المدى الممتد والأفق البعيد، ثم أحدق ثانية حولي فأرى بيوتاً في هيئة قصائد شعر تفيض بالسكينة والوقار، وتوشح عابر السبيل والغرباء بأكاليل الدهشة ودغدغات الفرح اللذيذ.
رويداً رويداً.. أخذت سماء تتشكل داخلي تمثالاً نورانياً يهبني طاقة للتأمل والحب وتزداد وضوحاً واكتمالاً كلما تسلل عالم الجمال الحضرمي واستقر معها برفق في صدارة الوجدان. أفي هذه البلاد الفردوس تكون كل تلك القسوة الصادرة عن شمس غرور، وتنشأ رغم ذلك تحت سماء حضرموت الأثيرة قصص حب ملهمة، كتلك التي يرسمها المحضار في غنائياته ويشدو بها صوت مرسال والبدوي وبلفقيه. هنا تحت هذه الشمس يصل الانتظار المر لحبيب استثنائي الروعة منتهاه، يستقر به النوى أخيراً، ولن أنتظر بعد طويلا كما انتظر عشاق قبلي مجيء المستحيل.. فقد عانقته هناك في الساحة الرملية بشبام وأنا أستنشق الياسمين الفواح من صدر سماء.
لم أعد أهتم إن كان هذا السائح الألماني يفهم توزعي في خلايا الهضاب المترعة بعطر الدهور، لم أعر أجهزة رصده الجغرافية التفاتاً وأنا أتحول حنيناً وشوقاً في أعناق الإبل السائبة، وفي برار مقفرة أو في سفوح جبال جرداء. أنا في شغل عن هذا السائح، أبحث عن سماء في كل التفاصيل، أو أنتشر وسط الهجير برداً وسلاماً، ومن بين عشرات الأسئلة أجيب فقط بنصف عقل على سؤال واحد يصادف إنه يشغلني.
ها نحن تسبقنا قشعريرة اللقاء نطأ بوابات ” وادي دوعن المهيب “، ومن بعيد يتناهى إلينا أزيز النحل فيسيل اللعاب شوقاً إلى عسل مصفى، لعلها هنا تقنع النحل بأنها أشهى من شهده وأحلى من عسله، لعلها في تلك الدور الهاجعة مسبحة للصلوات وأدعيات الحب الحميم، لعلها هناك في القرى الساكنة بلسم مودة وصفاء، لعلها عند أكوام الشوق المبثوثة في كل صخر وحجر، أو المعلقة في سعف النخيل، لعلها مخبأة في ثمار الجوز المتدلية، لعلها هناك عند سقايات الماء التي تحتفي بالغريب والقريب..
عند واحدة من تلك السقايات نصبنا خياماً للنوم وأخذنا في هدأة الليل، نعابث شطح الخيال ونتمنى وسط كل هذه العفة العزيزة لأهل حضرموت، أن تكرمنا الجبال بطلة أخرى لوجه سماء، لأكفها لأناملها لروحها لطعم حديثها ونغم صوتها الرافل في الإثارة والشجو. هيا أيتها الجبال أعيدي إذاعة كلماتها صدى يتردد في الآفاق : إني أعدك بالجنة” وخيل لي أني أرى هذه العبارة ترتسم في كل مكان تصافحه العين.. أترى أيها الصديق.. أترى ما أرى.. ليتك تجيد العربية يا أخا هامبورج، إذن لقرأت ما أقرأ في صدور الجبال ” إني أعدك بالجنة “. يوقظني الألماني ببسمة ساخرة ويقول .. أيها المسكين.. الليل حالك ولا أثر لامرأة في هذه الدروب المنقطعة، والجبال صامتة خرساء كسالف العهد، فتخيل ما شئت، إنك تمتعني على أية حال. واصلنا السير في الأيام التوالي ثم بدأنا الصعود باتجاه سقف العالم، باتجاه هضبة (رحاب) المطلة على الخريبة، طوى الألماني الخريطة وحدق ملياً في السماء.. بعد ساعات وصلنا إلى هضبة (رحاب).. ها نحن في الأعالي.. والليل مسترخ بدعة ونشوى، والريح ساكنة وقد أوت إلى مهاجعها.. والسماء قريبة ينيرها قمر قريب، قريب جداً، يمكن تناوله واقتطاع قبس منه لنرميه طلسم سحر يعبر كل بلاد اليمن. إنها لوحة ليل آسرة ..لا ينقصها إلا مداد قلبين يكتب به على وجه حسان الوادي أو جميلات الساحل وفوق كل رمش وشعرة، معلقات الزمن الآتي لتمتلئ حضرموت وجداً جديداً ونسمع ثانية شعراً وغناء دان .
” هذه البلاد واحة للحب والصفاء، وملعون أبداً من يدنس فيها حبة رمل أو يصادر فيها براءة أهلها الآمنين”، قال هذا السائح الألماني وأنا التفت إليه دهشاً مما أسمع، فقد صيرتْه هذه البلاد فجأة عاشقاً شاعراً، بل إنه أوشك أن يرتجف وهو يقول: ” أخشى إن عدت بعد عام أن لا أجد هذه السكينة المرتخية في تفاصيل الطبيعة، أن لا ترافقني في زيارتي القادمة أية دهشة، ولا يتطلع الفؤاد لمجهول عزيز”. قر عيناً أيها الصديق فقد صمدت طويلاً براءة هذه البلاد.. وقل لي: أترى ضيفة قلبي المجهولة قد غادرت هذه الديار وذابت في الغمام ؟ فلم نرها ولم نصادف شيئاً من عطرها حتى الآن.
هانحن نعود من تطوافنا ونصل تريم، فأيام قلائل فقط تفصلنا عن موعد سباق الهجن.. هانحن نهجر الأضواء الصادرة عن فندق قصر القبة و ندخل في رحم غابة النخيل المجاورة، ترافقنا موسيقى الماء بخريره وجريانه بين جذوع النخل كما قبل ألف عام.
وسط كل هذا الليل الآسر بنجومه الملهمة للسمو، تجود علينا الجبال بسقوفها المنبسطة، غابات النخيل، ولانهائيات المدى، برجع تواشيح لعالم الملكوت، تبسط السكينة في كل نفس، وتجعل كل الوادي يتضوع مسكاً وشجوناً، إنه الصمت … الصمت الخاشع كالصلاة، وعند نهايات الوجد والتلاشي في لوحة الليل البديعة هذه يتناهى إلينا من بعيد شجياً رخيماً صوت أبي بكر سالم بلفقيه بمطلع أغنيته الحالمة ليترجم لسان الحال:
سر حبي فيك غامض سر حبي ما انكشف.
ويغيب الصوت ليتردد رجعه في الأعماق، ويخرج نداءً متكرراً في الطرقات والدروب والخلوات.. تعالي أيتها السماء، ادنُ مني وانكشف أيها السر، انكشف لقريب غريب، وأعد إليَّ ضيفة قلبي . أصررت على الألماني ونحن ندنو ثانية من شبام أن نحج إلى حيث التقينا أول مرة، إلى تلك المساحة الرملية، لنستعيد اللحظات بكل زخمها والفتون.
وصلنا إلى المساحة الرملية ورأينا سيارات متنوعة ليس بينها من تقل سماء، وكلها تعذ السير باتجاه منازل لها في القلوب منازل وأركان، ولها مثل ما تهب من شغف ولوعة. صعدنا ثانية إلى التلة القريبة المطلة على شبام لأمنح عيني أفقاً ومدىً. سرَّحت البصر في الأنحاء ثم وجدتني أنشر أشعة تدخل الخدور وتكشف المستور، فأرى مخابئ الجميلات ومكتبات العلماء، فالعلم والحب من خصوصيات هذه البلاد الفردوس.
بهر الألماني وأنا أشرح له هذا الأمر، واستطال غروره قليلاً وهو يقول، الآن فقط أدرك أن كل قصص الحب العربية التي قرأنا عنها وهم وسراب، وأن اللغة والشعر عوالم خاصة تعوض الفقد الأليم للحب في الواقع ليتجلى شعراً ونثراً وأحلاماً كالتي أسمعها منك يا صديقي العزيز، هذا هو الشرق إذن، الآن أدرك فعلاً سر القول بأن العرب أمة من الشعراء.
جاء اليوم الموعود، وها نحن في تريم ننتظر مع المنتظرين، ولئن كان كل هذا الحشد يريد رؤية سباق الهجن، فأنا وحدي من يريد رؤية سماء، ذهبنا إلى الشارع الموعود مبكرا، للحصول على مكان، ولمراقبة القادمين، فعلى الرغم من أنَّ كل مبالغات التصوير للحشد المنتظر إلا أنه فعلاً كان الحشر بعينه، نساء ورجال وأطفال، على جانبي الشارع وفوق متاريس الأفنية، وفي النوافذ الجميلة لبيوت آل الكاف، أفٍ لهذه العباءات السوداء ولهذا النقاب، إذ يبدو أني لن أتعرف إلى فتاتي لأدع الخلق مشغولين بسباق الجمال لنقيم نحن سباقاً خاصاً للعناق والنشوى.
أرى الآن حركة كثيفة وأسمع أصواتاً مختلطة في كل الشارع، ومن حين لآخر يظهر جمل براكبه يمشي رويداً مختالاً بين الجمع، لكن السباق لم يبدأ بعد، قيل لنا، فالجمال تقبل من أول الشارع مهرولة جملين جملين ليعرف الفائز منهما، والأمر لا يخلو من خطورة، فقد تقذف العيس براكبها وتحدث الجراح والآلام وربما الموت.
يبدو أني لن أنجح في اكتشاف مكانها، عيناي تطوفان بين أكوام النساء، وبين النوافذ وتستقر عند كل كف مدلى، فلا يتحرك بالترحاب، ولا أرى لهفة في العيون، ولعلها هي الأخرى لم تتبين موقعي، فأنا أعتلي سطح بيت قصير الارتفاع، وأجلس إلى جانب مصور يريد توثيق المشهد عن قرب.
وسط اليأس من اكتشافها بين الجموع لمعت في خيالي فكرة سكنتني بقوة كما سكنتني أشواق الدهور قبل ذلك. قلت للألماني: اسمع أيها الصديق، أريدها في الأقل أن تراني وتعلم أني جئت من أجلها، سأعبر الشارع كله وقد تراني فأسمع همساً أو لهفة أو أرى كفاً يتحرك للسلام، فإن لم يحدث هذا فسأمضي حتى نهاية الشارع وسأغيب في المنعطف، وسأحاول هناك أن أركب جملاً وأدخل به السباق، وهكذا لا بد أن تراني، ومن يدري فقد تهرول إلى الساحة وألتقطها خلف بعيري ونطير نطير بعيداً في السماء.
لم أقل للألماني أنى لم أركب في حياتي جملاً، ولن يصدقني على أية حال، فهو مثل غيره من الأوروبيين يحتفظون لنا بصور كثيرة، في مقدمتها، أن العرب جميعاً حداةٌ وراكبو جمال؟ لكني لست آبهاً به الآن، أنا حقًا لا أجيد ركوب الجمال، وقد يحدث لي مكروه بدلاً من البطولة المنتظرة.
نزلت إلى الشارع ومشيت وأنا ألتفت بجرأة غير مناسبة، أتفحص أكوام النساء والأكف، فلا أرى شيئاً ولا أسمع مناداة.
وصلت إلى حيث تقف الجمال ولم يكلفني إقناع المتسابقين شيئا، فقد أثارت فكرتي فضولهم، وعلى الرغم من الشروح عن كيفية ركوب الجمال فقد كانت التحذيرات من السقوط هي الأخرى واضحة، لكني لم أكن مستعداً لسماع وعظ يقنعني بالعدول عن الفكرة. أريدها أن تراني، وستعرف هي بعد كيف تجدني لنبدأ سوياً رحلة حب أبدية تورق وجداً وسلاماً.
وداعاً يا صديقي الألماني، الطائرة تنتظر، وأراك مشوقاً للقاء أهلك وأحبائك، أنا لن أبرح هذه الديار، حتى أجدها أو أكون من الهالكين. فارو عنا جميلاً قدر ما تستطيع، وصف لأهلك بالتفصيل لحظة سقوطي من ظهر الجمل، وكيف تلقفتني النسوة بالأكف الرحيمة وهن يتدافعن لالتقاطي، ولعلها كانت بين اللاتي التقطنني من الطريق لكي لا تدوسني بقية الجمال، لست أدري .. لكني في غمرة الإغماء واللاوعي أحسست بالأكف الرحيمة تحتضن وجهي، وتهدهد فؤادي، وبهمة الرجال يسارعون لجبر كسوري، وخلتني أسمع كلمات الغوث والدعاء من كل حدب وصوب.
وما يزال صوت هو صوتها يرافقني، ويملأ سمعي …إني أعدك بالجنة…