إبداعات
عبدالله ناصر السييلي
صوت الموج الخائف ينثر وجهه على تلك البيوت المصنوعة من طين الشهيد المقدس، وأعواد خيزران الموت ولمسة يد الحضر . ولأنني مازلت أحمل الفم الذي أبى المرضعات كلهن واستسلم للموجة كمرضعة , أصبحتُ أدمن المكوث فيه كسمكة برمائية ولكنها تعشق ذلك الساحل الملبَّد بالذكريات وأقدام الأمهات . هنا صنعت مكونات الجسد من البساطة و العفوية و الصلوات في المدينة، التي تشكلت من ملامح وجوه قلوب ساكنيها الطيبين، وسُقيت بماءِ الوضوء، وما تزالُ تتشكل وتحملُ معها خرائط الماضي وعبق التاريخ الممزوج برائحة (عمامة) أبي التي ورثها عن أبيهِ إلى البذرة الأولى عنعنة ورطتني في تناص فريد مع ( خِرقة الجُنيد) . أسمعُ صوتَ أبي يتسلّل بين الحين والآخر من ثقوب رأسي مردداً عبارته المعتادة ( أربعة شلوا الجمل والجمل ما شلهم )، كلما عاد من رحلة الصيد رفقة أصدقائه من الصيادين مفرغين جميع الحمولة من الأسماك العائمة على قاربهم الصغير , الذي يحمل اسم ” المهاجر “، مثلما أتذكر كل تلّك الومضات تشرق من ذاكرتي لأحلق بين سماوات الطفولة و جمال تلك الحارة المفعمة بحبات كبسول الابتسامة والبساطة ، تلك التي تجعل وجوههم خاشعة بالكمال الإنساني . مازالت تلك ” المطاريق ” تحملُ من اسمها الأخير النصيب الأكبر من الخلود مدى الحياة وما بعدها , و لا شيء سيطفئ جمالها القديمَ في نظري مهما جدَّ الجمال وعانق قلبي محاولاً إضافة الكثير من اللَّذّة بهذه الحياة التي بداخلي . هي لم تمت ولن تقتلها الأيام ستظل تحميها أمواج البحار من الأمام وتحرسها الجبال من الخلف , وستظل هي الخلد والشهيد معاً تفوح من غيومها رائحة البحر المحلقة في الهواء، ورمالِ شواطئهِ الممتدة إلى مساحات غرفتي المقدسة .