إبداعات
د. هيثم كامل الزبيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 112
رابط العدد 5: اضغط هنا
ثم تركت الشمس ورائي والظل الممدود أمامي ومضيتُ
بلا جيبٍ يحمي كفي من البرد الخائن
وأطارد ظلي .. إذ اركض .. يركض
ترتفع الشمس.. فينحسرُ
يحزنني ظل ينحسرُ
فأعوذ بنفسي اللاهثة
من هذا الظل المتضائل
أن يفنى … أو أن ينكسر
واعوذ بها كل صباحٍ
من جني التل ومن خفاشٍ – أو ما ندعوه “سحير الليل”-
والبرد الساخر من ظلي يلفحني بسياط الصبحِ
ما بال الأشجار تبث هدوءا في طيات الملح؟
أركضُ … تركضُ
والغيماتُ البيضُ يسابقن لهاثي
أركضُ … يركضنَ .. لهن وجوهٌ متعددةٌ
كجبال بيض ..كنساء يهجعن على الرمل الأبيض.. سفن بيض .. دبٌ ..سرب وحوشٍ بيض …خيلٌ ….
وأسابق ظلا يتضاءل مذ في هذا البور نزلتُ وأنا أذرعُ هذا الظل مرارا
والوقت ضحى فمتى العودة؟
ها قد انهكني “المسراحُ” متى “المرواح”؟
-الزم أرضك ما بال لهاثك يا ولدي والوقت صباح!
وأبي علمني أن أدعو اليسروع الأصفر شبّارا للشوك
علمني اليسروع الزحف على أشواك العمر
لاقيس العمر على ظلي
شبراً …. شبرين… ثلاثة أشبار
وأحدق في أغصان الشوك المتشابك في جرف الدنيا
للشوك هوياتٌ شتى في لغتي مُذ كنت صغيرا أعرفها:
“شوكٌ … عاقولٌ… وصريمٌ..
وشفلّح…عوسج… صبّارٌ
كسّوب …” مسموم أعمى
* * *
مازال اليسروع يروح يجيء ويذرع شوكا في هذا القفر
وأبي علمني ان أسعى سعيك يا شبار الشوك
في البر قليلا ما نفقه معنى الوقت
فتمر شموس وشموس
والوقت نقسمه شبرا شبرا لبقايا ظل لصبي يتضآءل جوعا في الرمل
* * *
في البرية نعرف كيف نقيس الوقت بلا رقاص
ونحدد من طول الظّل زوال نهارات الأيام
والليل لدينا محسومٌ بظهور النجم
وفصول الأعوام لدينا تتبين في نبت البر والزهر البري يعلمنا الأوقات ،
لا شأن لأيام حياتي بالساعات
فنقيس العمر على ما مرّ علينا من نكبات
ونؤرخ أعوام العمر على الويلات:
عام الفيضة، عام الحصبة
عام “الحالوب”
وعام النجمة “أم ذويل” الأكلت كل الولّادات
أما أعوام الحرب فظلت تنتظر الأسماء:
سنة سنتين ثلاث سنين….
تتوالى الأعوام السوداء علي فأسرع أشبر ظلي
فلعل الموعد قد حان
ولعل أوان “المرواح” يجيء
– اصبر يا ولدي فالوقت ضحى ونهار الكانون قصير
– يا أبت جعتُ وما في جيبي حتى تمرة!
* * *
ويعود الشبّار ليشبر شباك الصف من الخارج
أصرخ : “شبّار الشوك! ” بلا وعي
ويصيح معلمنا ويحك قل : يسروعا!
فأقول على خجل : “يثروعا”
يضحك.. يتمادى… ويقول:
قل : “يسروعا أصفر يسري”
فأقول، ويخنقني الدمع: “يا …يثروعا اثفر يثري!”
فيقهقه ..يخرج من فمه خفاشٌ!
أتخاذلُ… يقتلني الصمتُ
-يا أبت قد حان الوقتُ…
فأشبر ظلي … أضع الشمس ورائي وأسير برجل متعبة !
* * *
أمشي… يمشي..
شبراً… شبرين… يسير أمامي ويضيع حساب الأشبار
* * *
علمني البرّ الأسماء جميعا أمشي وأردد في سرّي
مطرٌ.. قنطرة.. خرنوبٌ.. شوك الشام… عنيب الذيب..
— ولكن في كانون الأول
لا عنب الذيب لنأكله
لا شيء سوى الخرنوب اليابس في أعواد الشوك الأجرد
وكنت قطفت ثمار الشوك – كما أسماها الأستاذُ-
وندعوها الخرنوب الأخضر
ورسمت على جدران الصف نخيلا وكتبت اسمي…. ولا أذكر بعد سوى غصن من رمان ينهال على ظهري سوطا
كيف لأشجار الرمان الأحمر أن تجلد من يخشع من فرط الرمان؟
* * *
– يا أبت جعتُ
– خذ كسرة خبز من هذا الكيس وجد شيئا تأكلها معه
أمضي بين العشب لعلي أستمرئ خبزي
بالعشب… لبلاب بري ّ …خُبّازٌ… أو …مرحى :- قوقلّاء! وبملح القوقلاء خبرنا طعم سباخ الأرض
فأعطتنا الأرض ملوحتها
وبذا أسمونا الملحان…
___________________
* مقطع من قصيدة في ديوان للشاعر يحمل العنوان نفسه سيصدر قريباً ، وشبّار الشوك هو اليسروع في لهجة الريف الجنوبي في العراق.