أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 22 .. ص 59
رابط العدد 22 : اضغط هنا
ما قبل البداية:
ليس سهلًا الكتابة عن ذاتك، ومن الصعب ضمان انتشاء العاطفة فيما تنثره من أحرف مبللة على سطور الصفحات، ذلك أن المرء لا يجد غضاضة وهو يقلّب في صفحات العمر، فيتوقّف تارة عند محطاتٍ منها، ويتغافل تارة عن محطات أخرى، ويغدو الأمر في غاية الصعوبة وأنت تحاول أن تستجمع ما بقي لك من قوى لمواجهة ذاتك بذاتك من أجل ذاتك.
هذه هي المشاعر التي انتابتني حين هممْت في الكتابة عن أخي ورفيق الدرب لعقود من الزمن، الأستاذ الدكتور عبدالله سعيد الجعيدي، فهو كذاتي التي تبحث عن ذاتها في كومة الأوراق، ولم تزل، والمقاربة – اليوم – لما نثره في سنوات خلتْ من مقالات جمعت قبل عقد من السنين في كتاب نفحه عنوان: (أوراق مكلّاوية)، ضمّت دفَّتاه (68) مقالًا، توزّعت على (7) عناوين، بمثابة أبواب للمكلّا الأوراق، هي محاولة جديدة للبحث عن الذات.
لذا وجدت نفسي، وأنا أعود بذاكرتي ووجداني إلى تلك الأيام التي كنّا فيها -جميعًا- نرسم خطانا في تلك السنين العجاف، ونحاول أن نبقي جذوة الوعي مُتَّقدة في دواخلنا، ونعمل على انعاش ذاكرة الوطن من خلال ميكنة الثقافة والأدب والفنّ، وقد بذلنا في ذلك الكثير من الجهد والتعب والسهر والقلق، إلا أننا استطعنا أن نرسو على مرافئ الحياة ونحن نعي ما بين أيدينا من زاد وفير – ثقافيًا وأدبيًا وفنيًّا – لتبدأ عجلة النشر في السير رويدًا رويدًا، فكانت مثل هذه الأوراق المكلّاويّة عنوانًا من عناوين تلك السنين العجاف التي لم تستطع كسر روح المدينة فينا، ولم تنجح في وأد أحلامنا في غدٍ أجمل وأفضل.
من هنا تأتي هذه المقاربة التي أنثرها في هذه المساحة الورقية من مجلة (حضرموت الثقّافيّة)، احتفاءً بالمنجز الثقافي والتاريخي والمعرفي الرصين للزميل العزيز الأستاذ الدكتور عبدالله سعيد الجعيدي، في إطلالة هي استمرار لتلك الأوراق التي استودعناها شغاف الروح منذ مسائية الأربعاء: 11/ يناير/ 2011م، عندما احتفلنا بتوزيعها في قاعة اتحاد أدباء وكتاب حضرموت بالمكلا.
للأوراق حكاية وحكاية:
على الرغم من أن حكاية (الأوراق المكلّاويّة) للعزيز عبدالله قد أسهب في تفصيلها الأخ العزيز المهاجر الدكتور سعيد سالم الجريري في مقدمته القرائية التحليلية الشاملة، فإنَّ العنوان بعد أن صار عتبةً أولى لمتن محتويات الكتاب، فإنني أجده يذهب إلى معانٍ تظهر حميمية العلاقة بين الكاتب – الراوي العليم – والمدينة – المكلا – فالعنوان ينصرف إلى الكاتب، في شقَّيْهِ (أوراق) و(مكلّاويّة)؛ إذ يظهر هويّة – الكاتب – وجذوره وانتماءه، في حين ينفتح على المدينة بوصفها فضاءً مكانيًا وزمانيًا لهذه الأوراق التي جاءت العناوين (الأبواب السبعة) لتعمّق فلسفة العنوان، وتبدّد كلّ تشتيت لذهن القارئ – المتلقِّي – فما هذه الأوراق إلا نبشٌ في تفاصيل المدينة وحكايات الأزمنة التي عاشتها الذات الرّاوية أو حفظتها أو التقطتها ذاكرتها الطازجة، فوجدت في عمود (آفاق حضرموت الثقافيّة) فرصة لنثرها تباعًا دون عناء أو عنت، فهي أوراقها المكلّاوية التي لا يجاريها في استعادتها بولهٍ كزمن جميل مفقود أحدٌ، وقد آن له أن ينثر أوراقه في زمن التشرذم والشتات والتشظّي الذي أدرك – الكاتب – الرّاوي – بشاعة مُنْقلبه على وداعة مدينته العابقة بتاريخ من الحكايا التي تظهر بوضوح المفارقة التاريخية والثقافيّة والحضارية والإنسانية بين زمنها الذي حفظته الأوراق وكانت أمينة عليه، وراهن المآل الذي تردّت إليه وغاصت في لججه الكالحة.
راوٍ وبطل:
إن القارئ للأوراق يجد نفسه منساقًا مع راوٍ يصبح بطلًا في إحداها، (سكين القعيطيين)، (سنبوق العم – صالح باسيف)؛ ليعود فيغدو راويًا عليمًا بتفاصيل الحكاية، وهو ما جعل للأوراق نكهة السيرة الذاتية، التي تحاول أن تلملم شتات حياتها، وتحاول أن تنتقل بين الأوراق – الحكايات – بوعي عميق، بدءًا من عناوين كلّ ورقة من تلك الأوراق، التي احتفت – كثيرًا – بشخصيات هامشيّة في حياة المدينة، ولكنها حملت ملامحها وبراءتها وصدق طويتها (العم باسيف، عنبه، قابوس المزيّف، الشيخ محمد التميمي مؤذِّن مسجد المشهور، الطباخون: صالح بامهري، مردوف، صالح بافرج، باصدّيق، عمر باعلي، سالم بوزيدان، أحمد الغيلي، عمر حسنون)، وغيرها من الشخصيات التي حرص الكاتب على تسويقها بوصفها من أسهل النماذج وأكثرها وداعة ومسكوتًا عنها في حياة المجتمع، إلا أنه أراد أن يظهرها كنماذج إيجابية حملت سمات المدينة وطيبة أهلها وسلامة طويتها وديمومة أخلاقها، في التفاتة ذكيّة منه جعلت من هذه الأوراق قصصًا مضيئة، تظهر وتشيع ما بلغته المدينة من ثقافة ووعي وإتقان كانت تلك النماذج المشار إليها قد أخلصت لمهنتها، أو لدورها المتواضع في صفاء الحاضر، وضمان سلامة ونقاء المستقبل.
عناوين ورؤى:
إن المتأمّل في العناوين السبعة التي توزعت على:
يدرك أنها انبثقت من عصارة المحتويات التي حملتها الأوراق، ليس هذا وحسب، بل أنها كانت عتباتٍ أكثرَ التصاقًا بموضوعات ومضامين الأوراق التي احتوتها، ونجحت في مدّ القارئ بزاوية رؤية يستطيع من خلالها أن يدلف إلى ما يحمله المتن من حكايات تحملها تلك الأوراق.
تداخل الزمن:
ففي ذاكرة الزمان والمكان، صفحات: (22- 58)، يتداخل زمنان، هما زمن السلطنة القعيطية والزمن الثوري، كما يشير الكاتب، ونجده في كلّ تلك الحكايات يشير إلى الزمن القعيطي بحميمية ورغبة في استعادته، في حين ينتابه القلق والتوجّس من الزمن الثوري، وإن حرص على عدم إدانته على الإطلاق.
صمت السؤال:
أما في الخواطر والتأمّلات (64- 100)، فإن الكاتب يرسل إشاراته العميقة لإظهار ما يعيشه الإنسان الحضرمي من سلبيّة وصمت حيال القضايا الكبرى وسؤال المصير، من خلال قصص ذات دلالات سياسية مغلَّفة بخيوط الذكريات، كما تبيّن ذلك ورقتا: (عندما سيطر الحضارمة على البترول)، (الديك أولًا)، والعنوانان يختزلان مأساة التاريخ وصمت الأجيال وسلبية النخب والقوى الفاعلة في المجتمع إن كان يصدق عليها هذا الوصف.
مشكاة نور:
وفي رجال ومحطّات (104- 121)، يفرد الكاتب – التلميذ – ستَّ أوراق وفائية لستة أعلام كانوا مشكاة النور والضياء والمعرفة في مسيرة حياته العلمية والمعرفية والعملية، وفي ذلك ما يشي برغبته في إظهار حقيقة الترابط الحميمي بين الأجيال، وضرورة أن يحتفي المجتمع بأعلامه ونوابغه ونماذجه المشرّفة في كل مراحل الحياة ومجالاتها، وقد نجح التلميذ والطالب والباحث والمعلم والأستاذ عبدالله في ذلك.
ذاكرة طفولة:
وإذا ذهبنا إلى حكايات مهجريّة (128- 164)، فإننا نلمس اشتغاله بذاكرة الطفولة والبراءة الأولى التي كانت هي البذرة الأولى التي أنبتت روح السارد لديه، وكثيرًا ما انعته – تحببًا – بـ(الطفل المتلصّص) الشغوف في طلب المعرفة، أي أن أوراقه المكلّاوية قد كشفت عن طفل ذي ذاكرة قويّة وطازجة، كان (فضوليًّا) لا يهدأ ولا يهنأ له حال إلا عندما يكتشف الأشياء ويستمتع بكشف ما أبهم أو أغلق عليه من أحداث أو وقائع في محيط أسرته وعائلته ومجتمعه الصغير: حافته وواقعه الأكبر حيّه ومكلّاه، فجاءت حكايات مهجرية تمتح من هذا المخزون الطفولي: لذا نجد خاله، وخال خاله وجدته ودموعها، وبكاء حبيبه، وصفيّه بين الضحك والبكاء، وما تلاها من حكايات هي نسيج متواصل لتلك المزية التي علقت به منذ طفولته ولم تزل.
عمق تصوير:
وفي رمضانيات، لا يذهب الكاتب – الطفل – بعيدًا عن تلك الأجواء التي كانت سمات قارَّة في حياة المدينة، وارتبطت بشعائر الشهر الفضيل رمضان المبارك، ونلمح عمق التصوير وصفاء الاستدعاء لتلك الذكريات، التي استعادت ذاكرة المدينة، ورصدت تجليات الشهر الكريم في زوايا الأمكنة وحيوات الناس، يستعيدها – في أوراقه – لكي يظهر ما فقدته المدينة من زادٍ روحّي وإنساني وتكافل اجتماعي، كانت المدينة – الحيُّ – عنوانًا أصيلًا من عناوينه، ولكن!
تثاقف حضاري:
بينما نجده في المكلا بملامح هندية (191- 205)، يذهب إلى محطات من أهم محطّات التثاقف التي عاشتها المدينة وانفتاحها على فضاءات التمازج الإنساني والحضاري، وما مثَّلتْه السينما الهندية من متنفَّس حياتي لأهل المدينة، أفاد في الكثير من تموجات الحياة وتنويعاتها، ليستمر في التحليق في هذه العناصر الرافدة لثقافة أهل الحي وما تسرّب من عائلات تمتّ بصلة جذور إلى الأرض الحضرمية وامتدادها الهنّدي، ليدلف إلى ألوان الأطعمة وأنواعها، وما أفرزته الهجرة الحضرمية القديمة إلى تلك الديار وما تسببت به من تماهٍ في الملبس والعمران.
سمر ورؤى:
وفي السمر المكلّاوي (210- 260)، يظهر في هذه الصفحات، الكاتب – المحرّك للأحداث أو المشارك فيها أو المتفاعل معها، وقد تمدّدت في زمن الراهن الذي لم يزل يتشكّل وفق رؤى الرفاق أو زملاء الحرف والرحلة، ليجعل من (15) مقالًا، بدءًا من (قبيلة رؤساء التحرير) مرورًا بـ(هموم ثقافيّة وهمّ مثقفين)، وانتهاء (سمر بمعروف أو فراق بإحسان)، وقد جعل من هذه المقالات فضاء حيويًّا لإثارة الوعي وتعميق لغة الحوار وتكريس ثقافة الجدل بالتي هي أحسن.
ساردٌ حالم بحقيبة مؤرّخ:
إن الغوص في صفحات (أوراق مكلّاويّة) يضعك أمام ساردٍ يتقن استخدام أدوات (الحكي)، ويدرك قيمة الأسلوب وجماليات فنّ الرواية والنصّ القصصي؛ لذا تجده يتنقل بضمير المخاطب، والغائب، والراوي، فتظهر (أناه) وتختفي، ويبدو متلقيًا لحكايات الجدّات، ونساء المدينة، ونماذج الرجال الطيبين، ولا ينفك يثير الأسئلة في مواضع عدّة، كما أنه يتقن – كثيرًا – فلسفة النهايات المفتوحة، ينظر على سبيل المثال، نهاية (سكين القعيطيين): (وهكذا عادت السكين (الغائبة) إلى مكانها وعدنا! ولكن هل عادت السكين (العائدة إلى القعيطيين؟)، وهي نهاية تنزاح إلى مظان جديدة، كانت حكاية المقال هي (الحيلة) التي أراد من خلالها إثارة سؤال الخاتمة.
وخذ كذلك، (مطلوب للشرطة) التي جعل نهايتها: (هل سيصمد هذا الانتصار؟؟؟ إن شعار الشرطة في خدمة الشعب سيظل شعارًا خاويًا وبلا جذور حتى يصدّق الناس أن الشرطة منهم وفيهم ولهم)، في (حيلة) أخرى تثير العديد من التساؤلات والرؤى والمواقف بين مكونات المجتمع وقراءة تلك المرحلة وما لها وما عليها؟
وفي (قشارة سانجي) يختمها بهذه النهاية (الأمنية) جلست بالقرب من سانجي بعد الصلاة، كان في حالة مرحة، وكان سهلًا أن أسأله عن اسمه ومهنته وحاله، ولكنني تردّدت وآثرت أن يكون السلام من بعيد كأول العهد، وتمنَّيت في أعماقي أن تعود قشارة سانجي، ويعود سانجي إلى قشارته، لنروي القصّة من بدايتها، ومن حيث بدأت…)، وهي خاتمة تضعك أمام رؤية للراوي (البطل) الذي يعلن رفضه لكلّ ما مسّ المدينة من تغيّرات وتبدّلات أثرت في ملامحها القارة في أعماق الجيل الستيني، فـ(قشارة سانجي) تحيلك إلى زمن الرومانسية والبراءة والعواطف الصافية في ذلك الزمن، وتغمز بطرف خفي إلى مقته واقع الحال وما أصاب المدينة من تشوُّهات في ملامحها وتمزُّقات في ضميرها النبيل.
ما بعد البداية:
لم تكن (أوراق مكلّاويّة) إلا بداية البداية لمخزون الذاكرة للكاتب والأستاذ المبدع الدكتور عبدالله الجعيدي، وكانت إعلانًا حقيقيًا عن مثقفٍ امتلك ناصية الحرف وباتت الكلمة تنقاد له والجمل تتهادى في مخيلته؛ لتعلن عن نفسها في مشروع رؤية حياتيّة لفيلسوف اتخذ من قراءة التاريخ مشكاة تنير الأزمنة التي رأى فيها نتوءات أو مساحات تحتاج إلى تفكيك وإعادة تركيب بما يتوافق ورؤيته الإنسانية المنبثقة عن تطلعات وطن يتضاءل ليصبح مدينته المكلّا، ويتسع ليشمل الإنسانية جمعًا.
من هنا نرى أن الدكتور عبدالله يعمل على إتمام مشروع رؤيته لكلّ تلك المراحل التاريخية التي وقف عليها طفلًا وشابًا وشيبًا – قارئًا ومحللًا ومفسرًا ومقررًا – ولكن من خلال النصّ الأدبي والسرد الحياتي الذي وجد أنه سيسعفه كثيرًا في كسر رتابة كتب التاريخ المحكّمة وغير المحكّمة، ويوسّع من دائرة قُـرَّائه الذين تستهويهم هذه المقاربات لذكريات الماضي، وقضايا الحاضر ومشكلاته، وأماني المستقبل ونبوءاته، لذا رأى في الوسائل القادمة من عالم السرد ما يثير السواكن ويبدّد الملل ويبعث على المتابعة والتأمّل والغوص والفهم، وهو ما نجح فيه بعمق وقوة، فكانت مجموعته الثانية (عابر سبيل) تشير إلى هذه الرغبات المكبوتة في صدر الكاتب الجميل عبدالله الجعيدي.