أضواء
د. خالد حسن الجوهي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 12
رابط العدد 23 : اضغط هنا
توطئة
لقد تميَّز الحضارم في مكة المكرمة في جميع المراحل التاريخية بعلاقات حسنة وطيبة مع حكام مكة المكرمة من أمراء وأشراف؛ إذْ تميَّزوا بنفوذ ومكانة كبيرة لدى هؤلاء الحكام، ألجـأهم إليهم لاستشارتهم في المهمات، طالبين منهم الدعم المعنوي من توجيه ودعاء، ولعل هذا الأمر نابع من اعتقادهم بأن هؤلاء الحضارم لديهم من الإمكانيات علميًا واقتصاديًا ما يؤهلهم للقيام بهذا الدور.
هذه المكانة والنفوذ اللذان وصل إليهما الحضارم في مكة المكرمة كانا كبيرَيْنِ؛ فقد تقلدوا مناصب عليا في الدولة؛ إذ شغل البعض منهم وظيفة الوزير لدى أشراف مكة المكرمة، والبعض الآخر أصبح مقرَّبًا من الحكام لدرجة أن يكون ممثِّلًا لشريف مكة المكرمة لدى السلاطين العثمانيين في أثناء تقسيم الصُّرَّة العثمانية.
على الرغم من ذلك فإنه قد شابت هذه العلاقات الحسنة بين الطرفين في بعض الحقب التاريخية فتورٌ وجفوة، كان سببها الصراعات السياسية، والتنافس على السلطة، ونفوذ بين الأمراء بعضهم على ببعض، ولكن سَرْعَانَ ما تزول أسباب هذا الخصام بوصول أمير جديد لمكة المكرمة، أو بموت هذا الأمير أو ذاك.
كما أن السلاطين العثمانيين وأمراء مكة المكرمة من الأشراف، قد ميَّزوهم بأوامر وفرمانات خاصة بهم، حثوا فيها وزراءهم وقضاتهم على إعطائهم حرمتهم والقيام بمحبتهم، مع التحرِّي لأنسابهم وحفظ شرفهم وأحسابهم، بغاية العز والاحترام. ولهذا كان العلماء والفضلاء من أهل الحرمين الشريفين يهرعون إليهم في القضايا الشائكة والمعقدة وفي أثناء ظهور الفتن والاضطرابات(1).
منزلة الشيخ العلامة أحمد بن الفضل باكثير لدى أشراف مكة
ألف العلامة أحمد بن الفضل باكثير مؤلفًا في مناقب الشريف إدريس أمير مكة المكرمة ومحاسنه آنذاك أسماه (وسيلة المآل بذكر فضائل الآل)، كما أن له منزلة وشهرة عند أشراف مكة، وفي موسم الحج كان الشيخ أحمد باكثير يجلس في المكان المخصص لتقسيم الصرة العثمانية بالحرم الشريف بدلًا عن شريف مكة [1].
الشيخ باقشير مادحًا الشيخ حمود
قام الشيخ محمد باقشير مادحًا السيد حمود بن عبدالله بن حسن حين تزوج ابنة الشريف زيد بن محسن أمير مكة سنة 1067هـ قائلًا[2]:
قد قام سعد السعود منتدبًا * * يخطب لي في محفل الأدب
يهز عطفيه بالهنا مرحًا * * يملي علينا شقاشق الخطب
إلى أن قال:
أورثه الله كل مكرمة * * قد انطوت في سوالف الحُقب
السيد سالم شيخان خليل الشريف أحمد بن عبد المطلب
وأذية الشريف أحمد للشيخ باقشير
كان السيد سالم بن أحمد شيخان من أخلاء الشريف أحمد بن عبدالمطلب قبل تولِّيه الإمارة، ولكن بعد توليه الإمارة قلب له ظهر المجن، فكان ضمن الذين طالته أذية الشريف أحمد مع عدد كبير من أهالي مكة المكرمة وتجارها[3]، فكان من بين العلماء الحضارم الذين فرُّوا من مكة خوفًا من أذية الشريف أحمد بن عبدالمطلب الشيخ جمال الدين محمد باقشير؛ فقد فر الشيخ باقشير من مكة متوجهًا مع الحج المصري إلى مصر، وفي ليلة خروجه من مكة صادف الشريف أحمد في طريقه؛ إذ كان عائدًا من العمرة، فكتب بطاقة فيها أبيات، وأمر بعض العامة أن يسلمها للشريف أحمد، فلما قرأها الشريف أحمد فإذا فيها:
تستحل الدماء وتُحرم بالعمرة * * دعها وعن دماء الناس أمسك
ما رأينا والله أعجب حالًا * * منك واها لفاتك متنسك[4]
حيث بقي الشيخ باقشير في مصر حتى مقتل الشريف أحمد سنة 1039هـ، حينها عاد إلى مكة.
السيد عبدالله الحداد يدعو للشريف بركات
ومن النماذج أيضًا للعلاقة الحسنة مع أشراف مكة هي طلب الشريف بركات بن محمد بن أبي نمي من السيد العلامة عبدالله بن علوي الحداد في أثناء مجاورته في مكة المكرمة قبل تولية الشريف بركات الإمارة بأيام جاءه وسأله الدعاء بتيسير المطلوب، فدعاء له السيد عبدالله بذلك[5].
مكانة السيد العيدروس لدى أمراء مكة وأشرافهم
كانت للسيد محمد بن علي العيدروس (صاحب الشبيكة) مكانة كبيرة وهيبة ووقار لدى العام والخاص، وكان أشراف مكة المكرمة وأمراؤها تقدِّره وتحترمه وتهابه إذا جلس للمحاضرة، ولا يردون له شفاعة حتى وإن تكررت هذه الشفاعات كل حين، وعندما يأتيه الرجل يطلب مسألة من شريف مكة كان السيد محمد يقول له اذهب للشريف تُقضى حاجتك، وكان أشراف مكة يهدون إليه العطايا؛ إذْ كان السيد محمد العيدروس يقضي الأشهر في منى يأتيه أعيان مكة فيكرمهم بما عنده من خير، فقد كان يشبه الأمراء في المال والجاه[6]، كما كانت للسيد محمد بن علوي السقاف وكل السادة آل باعلوي والمشايخ آل باقشير مكانة كبيرة بين أهالي مكة من أمراء وعامة.
وجاهة السيد السقاف لدى أشراف مكة
كانت للسيد علوي بن علي السقاف (ت: 1084هـ) مكانة ووجاهة كبيرة لدى أشراف مكة المكرمة ولدى عامة الناس؛ إذ كان يقصده أكابر مكة وأعيانها لالتماس دعائه لهم، كان مهابًا مقبول الشفاعة عند الملوك؛ فقد كان شريف مكة يحترمه غاية الاحترام، وللسيد علوي عددٌ من المواقف التي تثبت الجاه الذي يتمتع به، حضر جنازته شريف مكة محسن بن زيد ودفن بالمعلاة[7].
عبدالرحمن بن عبد الله بن عتيق (وزير الشريف حسن بن أبي نمي)
لقد حظيت هذه الشخصية الحضرمية في مكة المكرمة باهتمام من قبل مؤرخي الحجاز؛ إذْ كان مصدرهم العلامة المفتي عبدالكريم بن محب الدين القطبي، ومنها نقلها معظم من تحدَّث عن هذه الشخصية، منهم المؤرخ العصامي في سمطه، والمؤرخ المحبي في خلاصته وغيرهم، وجميعهم يتحدثون عن عبدالرحمن بن عتيق الحضرمي بنمط واحد من الصياغة التاريخية، ونسجوا حول هذه الشخصية هالة كبيرة من الرهبة وتصوير العلاقة التي تربطه بالشريف حسن بن أبي نمي أمير مكة المكرمة القوية، بأنها علاقة سيطرة كاملة على قرارات الأمير وتصرُّفاته، وتم تصوير أمير مكة بأنه مسلوب الإرادة أمام وزيره ابن عتيق، وأمام هذا النفوذ بدأوا في المس من شخصية ابن عتيق؛ إذ يتبادر إلى ذهن القارئ بأن هذا الرجل – ابن عتيق – مجرد من أي خلق إنساني، وأنه رجل ظالم غشوم، وأحيانًا خارج عن سواء الصراط، وبموته قد ارتاحت العباد والبلاد منه.
ذكر المؤرخ العصامي عن ابن عتيق ما نصه: “كان الشريف حسن – رحمه الله – استخدم في آخر عمره سنة ثلاث بعد الألف بشخص من الحضارم يسمى: عبد الرحمن بن عبدالله بن عتيق. كان عبد الله بن عتيق تزوج بنتًا من بنات الشيخ محمد جار الله بن أمين الظهيري، فجاءت منه بعبد الرحمن هذا وأخيه أبي بكر، فتحشر عبدالرحمن المذكور من الشريف حسن، وبقي يفهمه النصح في الخدمة، وسحر الشريف حسن، حتى تمكن منه غاية التمكن، وبقي حاله كما قال الشاعر:
أمرك مردود إلى أمره *** وأمره ليس له رد
فتسلط عبدالرحمن المذكور على جميع المملكة، وتصرف فيها كيف شاء، وبقي كل من يموت سواء من أهل البلد أو من التجار، أو من الحجاج يستأصل ماله بحيث لا يترك لوارثه شيئًا.. فإذا تكلم الوارث أظهر له الحجة أن مورثه كان قد اقترض منه في الزمن الفلاني كذا وكذا ألف دينار، ويقول: هذا الذي أخذته دون حقي وبقي لي كذا وكذا، وطريق كتابته لهذه الحجة وأمثالها على ما بلغني ممن أثق به أن كتبة المحكمة تحت أمره وقهره، فيأمرهم بكتابة الحجة فيكتبونها، وعنده أكثر من مائة مهر للقضاة والنواب السابقين، فيمهرونها ويأمر عبدالرحمن المحالبي أن يكتب إمضاء القاضي الذي مهر الحجة بمهره، ويكتب خاله الشيخ علي بن جار الله، وأخوه الشيخ عبدالقادر بن محمد بن جار الله شهادتهما، ويكتب الشيخ علي أيضًا عليها ما نصه: “تأملت هذه الحجة فوجدتها مسدَّدة، ويشهد بذلك محمد بن عبدالمعطي الظهيري وابن عمه صلاح الدين بن أبي السعادات الظهيري وغيرهم. ثم إنه يظهر الحجة ويقرأها بين الناس، وجميعهم يعرفون أنها زور ولا أصل لها، ولا يقدرون أن يتكلموا بكلمة واحدة خوفًا من شره وقهره، واستولى بهذا الأسلوب على ما أراد كما أراد، وإذا اشتكى على الشريف حسن يقول هذه حجة شرعية وشهودها مثل هؤلاء الجماعة الأجلاء كيف أردُّها؟ فنفرت قلوب الناس من ابن عتيق وضجوا وضجروا، وكل من أمكنه السفر سافر، وما تأخر إلا العاجز… انتهى” [8].
من النص السابق يبين لنا مدى النفوذ والقوة التي تمتع بها ابن عتيق في مكة المكرمة كونه وزيرًا للشريف حسن، ولكن الأمور المنسوبة إليه فيها شيءٌ من المبالغة قد تكون ناتجة عن مناكفات ومنافسة شخصية من قبل المعارضين له، ينظرون إليه بنوع من الحسد لوصوله هذا المكانة المرموقة لدى الأمراء، وهذا ما نلاحظه كثيرًا من قراءاتنا السابقة لتاريخ المنطقة، ويدلل الباحث رأيه هذا بعدد من الشواهد:
أولًا: شخصية أمير مكة المكرمة الشريف حسن أبي نمي نفسه؛ فقد كان من أجلِّ الأمراء وأشهرهم وأقواهم آنذاك شجاعة وشهامة ونُبلًا وذكاءً وفراسة، وهذا ما شهد به كل مَنْ تحدَّث عن الشريف حسن ومنهم صاحب الرواية نفسه – العصامي -، ووصفه الشلي بقوله: “كان حسن السياسة وافر الجلالة والرياسة، مدحه جماعة من العلماء وكثير من الفضلاء بقصائد عظيمة، ومدائح جسيمة” [9]، فلا يمكن بعد هذه المكانة للشريف حسن بن أبي نمي أن تنطلي عليه أساليب ابن عتيق.
ثانيًا: أن أخواله من الأسرة الظهيرية هم من الأسر المكية المشهود لها بالعلم والورع والشهرة، فلا يمكن أن يشهدوا زورًا أو يكونوا عونًا لابن عتيق مهما بلغت نسبة القرابة به، وممن ورد ذكرهم من علماء الأسرة الظهيرية يعدون قامات كبيرة في مكة المكرمة آنذاك، وهذا ما شهد به الشريف حسن نفسه عندما قال: هذه حجة شرعية وشهودها مثل هؤلاء الجماعة الأجلاء كيف أردُّها؟
ثالثًا: اتهام جميع الكتبة والقضاة والعمال لدى محكمة مكة المكرمة بأنهم تحت سيطرة ابن عتيق ونفوذه، وأن لدى ابن عتيق مائة مهر للقضاة والنواب السابقين كلام مبالغ فيه لدرجة كبيرة.
رابعًا: ضعف الحجة التي استند عليها منافسوه، وهي اتهامه بأنه قد سحر الشريف حسن؛ إذ لا يمكن الاعتماد على أمرٍ كهذا في تفسير الأمور بعيدًا عن الواقع والحقائق.
خامسًا: هذه الرواية انفرد بها العصامي والجميع نقلوا عنه، وغاب الكثير من المؤرخين الحجازيين والمعاصرين للشريف حسن عن ذكر هذه الرواية.
وفي الأخير يمكننا القول إن ابن عتيق قد وصل إلى مكانة ونفوذ كبيرَيْنِ لدى أمراء مكة المكرمة، وقد يكون قد مارس نوعًا من الجبروت والقوة لفرض هيبته ونفوذه كونه وزيرًا للشريف حسن، ولكن ليس إلى الدرجة التي وُصف بها.
(1) محضار بن عبدالله السقاف، الشهب المكية على من تعرض للسادة الحسينية، مخطوط رقم 1757، جامعة الملك سعود، ص5.
[1] ) أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، مطبوعات أرض الحرمين (د. ت) ص146. محمد المحبي، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، دار صادر، بيروت (د. ت)، ج1، ص172.
[2] ) عبدالله مرداد أبو الخير، المختصر من نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، اختصار وترتيب وتحقيق محمد سعيد العامودي وأحمد علي، ط2، 1986م، عالم المعرفة جدة، ص408- 409.
[3] ) عبدالله الغازي المكي، إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام، تحقيق: عبدالملك بن دهيش، ط1، 2009م، ج3، ص394.
[4] ) المرجع نفسه، ج3، ص397، دحلان، خلاصة الكلام، ص151، مرداد، نشر النور، ص409.
[5][5] ) دحلان، خلاصة الكلام، ص173.
[6] ) محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي، المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل باعلوي، المطبعة العامرية الشرفية، ط1، 1319هـ، ج1، ص195.
[7] ) محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي، عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر، تحقيق: إبراهيم المقحفي، مكتبة تريم، حضرموت، مكتبة الإرشاد، صنعاء، ط1، 2003م، ص249- 249.
[8] ) العصامي، سمط النجوم، ج4، ص390- 391.
[9] ) الشلي، عقد الجواهر، ص81.