أضواء
منير بن سالم بازهير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 23 .. ص 28
رابط العدد 23 : اضغط هنا
بحث تاريخي في منهجية المدارس
مدرسة سادة حضرموت بتريم مدرسة عريقة مباركة، تمتاز بمتانة أصولها، وبُعْدِ نظر مؤسسيها؛ فقد أسَّسوها لتربية الأنام والسير بهم نحو مرضاة العزيز العلام، همُّهم ربط الخلق بالخالق، وتحقيق الوفاق بين الخلائق، يعرف ذلك ويتيقنه من درس كتبهم بإنصاف ورويَّة.
وقد اتضحت لي بالمطالعة الدقيقة في كلام أكابرهم بعض معالم منهجهم في التعامل مع القضايا السياسية المحضة، وكذا ما يتصل بها من تنافسات ومماحكات، وذلك من خلال نماذج من كلام الإمام الحداد، مجدِّد الطريقة في القرن الثاني عشر، وهو رمز من رموز الطريقة العلوية الحضرمية، تأصل فيه الأخذ عن رجالها، وتشرَّب روحها، وأسسها في أرض مَنْبَتِهم تريم، عبر مجالسة الرجال من رموزها المتصلين بها تمامًا عبر سلاسل إسنادهم، وعبر فهم ما كتبه الأكابر من رجال الطريقة ممن سبقوه وخلفوا إرثًا مكتوبًا. فمن هذه الأسس والمعالم:
1- ابتعادهم عن التنافس السياسي مطلقًا:
يحرص سادة حضرموت في منهجيتهم على تجنيد أنفسهم للنصح المتزن للساسة والشعوب، أما وظيفتهم الأساسية فهي كما أفدت سابقًا (تربية الأنام، والسير بهم نحو مرضاة العزيز العلام)، وقد أدرك ذلك الإمام البرزنجي (ت 1103هـ)، وهو من أعيان القرن الحادي عشر الهجري وعلمائه، وهو من رموز المدرسة الحجازية آنذاك، فقد أفاد الإمام الحداد (ت 1132هـ) أنه كان يقول: (إن السادة الباعلوي، ما أسَّسُوا أمرهم إلا بالفقر المجرَّد، بقصد منهم، ولا هم لهم في شيء من الرياسات وحظوظ الدنيا، بل تركوها لغيرهم، حتى لو أنَّ أحدًا منهم طلب الإمارة، أخرجه منها الباقون). ينظر تثبيت الفؤاد (1/ 56- 57).
فمنهجيتهم ترك أمر السياسة إداريًا للغير؛ لإدراكهم بخطر التنافس في هذه الدائرة، فكان نظرهم يتجه إلى إصلاح من يدير العملية السياسية من غير حرص على نزعه عن منصبه، ولا مزاحمته عليه، فيرون أن هذا هو الأنسب لهم دينيًا وإنسانيًا، (اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، فإن من أراد أن تكون كلمته مسموعة، فلا بد أن يكون بعيدًا عن الأطماع التي هي أساس الفتن والاحتراب.
2- الفرار بالدِّين من الفتن العمياء:
الفتن العمياء قديمة قدم التاريخ ذاته، وأقصد بالفتن العمياء: التي لا تميز ولا تبصر إلا مصالحها الذاتية فحسب.
فهناك عراك سياسي أعمى لا يبصر إلا في حدود ما تمليه عليه الرغبة والمصلحة القريبة، والقريبة فحسب، والحيلولة دونه ودون هدفه الأهوج، التي تضر أكثر مما تصلح، فيكتفون بإرسال رسائل النصح البريئة الحريصة على حقن الدماء، وإشاعة السلام وبسطه وتعميمه، من خلال مجالس نصحهم، وأروقة درسهم، ولكل من استمد نصحهم وقصدهم من رجال السياسة، مع مد أيدي الابتهال للعزيز العلام أن يصلح الجميع، وأن يطفئ نيران الفتن ما ظهر منها وما بطن، ومن النصوص الرائعة المجسِّدة لهذا المعلم قول الإمام الحداد: (ومثال الدول (أي السلاطين والملوك والساسة عمومًا) إذا اثنان كلاهما يريد الولاية، كثورين يتناطحان عند بقرة، يأخذها من غلب منهما، فلا تكن أنت خلفهما، ولا أمامهما، ولا بينهما. والسادة الباعلوي من قديم الزمن خارجون من بينهما، ولا يدنون منهما، ومن دنا خالف ما عليه سلفه).
أقول: وهذا كلام في غاية الجودة والنفاسة في تصوير حلبة الصراع السياسي، أنه في غالبه تدمير، ونزاع غير متعقل، تهيجه قوة وشهوة، يمارسه ثور أهوج مع مثيله، فإن حاولت فصله عن مراده طحنك في حلبته لفرط سعار غضبه المؤجج بنار الشهوة والرغبة والجهل الذي رمز له الإمام الحداد هنا بالثور..
والثور لا ينفك عن مراده وشهوته مهما حصل ولو كان في ذلك حتفه وحتف جميع من حواليه.
وفي رأيي أن هذا نص مهم في تجسيد معالم رؤية مدرسة حضرموت من القضايا السياسية، وهو قمين بالدراسة والنظر والتوقف بكل باحث يريد أن يفهم معالم مدرسة حضرموت من العراك السياسي.
3- الحرص على وحدة الصف وحقن الدماء:
يقول الإمام الحداد مبينًا معالم هذا المسلك: (وأما نحن فلا نشير إلا بما ظهر لنا فيه صلاحًا للمسلمين وحقن دمائهم، وحفظ نفوسهم وأموالهم وحرمهم، فهذا الذي نحبه ونشير به، على جميع من ولي شيئًا من أمورهم، ومن التمس منا غير ذلك، أو نقله عنا، أو نسبه إلينا، فقد خان ومان، فاعتمدوا على ما ذكرناه، وأصلحوا النية مع الله تعالى، واطلعوه سبحانه من باطنكم على محبة ذلك والسعي فيه، بكل ما يمكنكم وتستطيعونه، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز). (المكاتبات 2/ 129).
فالتسكين للفتن طبعهم وديدنهم، والحرص على حقن الدماء ووحدة الصف وصفهم ومسلكهم كما يفيده النص بوضوح تام.
4- عدم الإثارة لغضب الساسة من غير موجب:
الحصيف في دعوته لا يحرك غضب الساسة نحوه ما دام لم ير منهم كفرًا صريحًا، فالساسة والسلاطين ممن قل فهمهم ودينهم ينبغي أن لا يُحَرَّكوا أو يُثَارُوا؛ فإنهم عقاربُ وحيَّاتٌ ساكنة، كذا قال الإمام الحداد في (تثبيت الفؤاد 1/ 83).
فنصح أهل الشرع والتبصر بالسياسي الأرعن؛ لئلَّا يوهمه أنهم يعادونه، فيشكل من نفسه عقربًا أو حية لبثِّ سمومه فيهم، بالتحريش تارةً، وبمحاولة النيل منهم تارة أخرى، مع أنهم لا يقصدون إلا نصحه، ووقايته من تحمل آثام العباد ممن تحت ولايته، ودعوته إلى الأمثل والأكمل وفقًا وما تمليه عليهم نصوص الشرع، ولكنْ قاتل الله الفهم السقيم.. ولهذا يقول الإمام الحداد: (لا ينبغي أن يحركوا، فإنهم كعقارب وحيات ساكنة)، وقال فيما يتصل بهذا الباب أيضًا: (لا تكلِّمْ من سكت عنك، ولا تُوقِظْ مَنْ غفل منك، فربما ذلك يحركه بإيذائك). انظر: (تثبيت الفؤاد 1/ 92). ولا شك أن قوله هذا مستفاد من تجربة ونظر فلا تتعجَّلْ في رفضه ونقده.
5- صلاح العباد يكفيهم شر العداة والظلمة:
من معالم هديهم في التعامل مع الولاة الظلمة أنْ يدعوهم إلى الخير، ويسألوا الله لهم الهداية، فإن رجعوا عن ظلمهم فذاك الأحب إلى نفوسهم، وإن تمادوا فإن الله يكفيهم شر ذاكم المتعدِّي ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)).
قال الإمام الحداد: (إذا أكثر الإنسان الظلم ولم يزل يظلم، كان كالجريدة الخضراء، يتناقص ماؤها وخضرتها حتى تيبس، فعند ذلك تسرع النار في إحراقها) انظر تثبيت الفؤاد (1/113).
فهم يرون أن صلاح العباد هو العنصر المسهم في إصلاح الولاة، يقول الإمام الحداد: (كنْ مليحًا لربك يكنْ كلُّ شيء مليحًا، فمن كان مليحًا لربه كان كل شيء له مليحًا، ومن كان بخلاف ذلك، كان كل شيء له كذلك، لأن الأشياء تابعة لخالقها) انظر تثبيت الفؤاد (1/174).
ويقول: (من راعى روعي، أنت تريد من الله أن يراعيك، فراع حقه أنت حتى يراعيك) تثبيت الفؤاد (1/ 169).
ومما سبق يتضح لنا منهجه في التغيير، وأنه يبدأ بالإنسان والمجتمع والقاعدة الشعبية، ومنهم يسري التغيير الإيجابي إلى الرأس والقمة، وهذا ما يؤكده قوله: (وإذا أردت أن الله يجري بك على العادة من لطفه وكرمه، فاجرِ أنت على العادة من طاعته وعبادته، فإن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم) تثبيت الفؤاد (1/139).
ختامًا أقول: إن الغوص في تفهم كلام رجال المدرسة العلوية الحضرمية في مصادرهم المكتوبة، والتنقيب عنه، ودراسته، وتأمله، لقمين بتفكيك أبعاد كثير من القضايا، وتوضيح معالم النجاح فيها، و الإحاطة بدلالات الهدى والرشاد المبصرة بسنن التعامل مع المتغيرات، وتجلية معالم الطريق وموقفهم من كل القضايا الموضوعة في ساحة المتغيرات الإنسانية، ولعلِّي هُدِيتُ إلى بعضها هنا، من خلال فقرات من كلام الإمام الحداد رحمه الله تعالى فيما يخص التعامل مع الفتن والقضايا السياسية، وبالجملة فهذا غيضٌ من فيضٍ من منهجهم، والأمر قابلٌ للمدِّ والبسط، ولكن الميسور لا يسقط بالمعسور، وهذا مفتتح نأمل تتميمه، ومن الله أرجو التوفيق والقبول، والحمد لله رب العالمين.
8/ ذو القعدة/ 1442هجري. تريم حرسها الله تعالى من كل مكروه.