أضواء
د. مُحمَّد أبو بكر حميد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 22
رابط العدد 2 : اضغط هنا
تزامن سنة ١٩١٧م ظهور الصحافة في حضرموت مع ظهورها في المهجر الحضرمي بالشرق الأقصى مع الفارق أن ظهورها في المهجر كان قوياً في دعوته ومظهره وتأثيره نظراً لاختلاف البيئة، فالشرق الأقصى كان مفتوحاً على العالم متأثراً بالحضارة متوافر به إمكاناتها من ورق و مطابع ومال في حين كانت حضرموت بيئة مغلقة غير متصلة بشكل مباشر بالحضارة الحديثة ولا تتوافر بها إمكاناتها فضلاً عن رفض الكثير من قادة الرأي العام فيها لفكرة الصحافة والنظر إليها نظرة دونية واعتبارها من بدع العصر الحديث.
حورب ظهور الصحافة في حضرموت عندما أطلت برأسها خيفة وفي وجل وعلى استحياء في حضرموت نفسها وبأيدي حضارم وانطلقت ثم ازدهرت على أيدي حضارم آخرين في الشرق الأقصى وأصبحوا رواد الصحافة العربية فيها.
ظهور الصحافة في حضرموت:
باتفاق عدد من المؤرخين فإن رائد الخطوة شاب من تريم هو السيد شيخ بن عبد الرحمن بن هاشم السقاف عضو (جمعية نشر الفضائل) ومدرس في إحدى مدارسها أصدر ( صحيفة حضرموت) وكان يعاون السيد شيخ جماعة من شباب (جمعية نشر الفضائل) وذلك في غضون سنة ١٣٣٧هـ الموافق ۱۹۱۷م وهي أول صحيفة خطية تصدر في حضرموت إذ لم تكن في حضرموت آنذاك مطابع فكانت تنسخ باليد وتوزع نسخ محدودة منها بين الناس بالتداول سراً خشية اعتراض الجامدين الذين سيحاربونها. أوهي غير صحيفة حضرموت التي يحررفيها الأستاذ محمد بن هاشم في المهجر الإندونيسي كما إن ابن هاشم هذا غير ابن هاشم
ذاك).
وما كاد يصدر العدد الأول منها حتى ثار الجامدون وأثاروا حفيظة الناس على مديرها وأصحابه وجمعيتهم باعتبارهم ينشرون البدع ويخالفون السلف. ولم يستطع هؤلاء الشباب المستنيرون الصمود أكثر من إصدار أربعة أعداد من مجلتهم ثم اختنقت وتوقفت.
ويبدو أنه لم يتجرأ أحد بعد هذه التجربة على إصدار صحيفة في حضرموت في حين انطلقت الصحافة الحضرمية في إندونيسيا وسنغافورة تشق طريقها بنجاح في سهولة ويسر.
ظهور الصحافة العربية الحضرمية في اندونيسيا :
أصدر الحضارم في إندونيسيا وبجاوة خاصة حوالي ۲۳ صحيفة ومجلة في الفترة من ۱۹۱۷ الی ۱۹۳۷م من أهمها:
(الإقبال) : أول جريدة أصدرها الحضارم في جاوة، صدر العدد الأول منها في أوائل شهر أكتوبر ۱۹۱۷م، ورأس تحريرها محمد حسین بارجاء.
( الإرشاد) جريدة أسبوعية ناطقة باسم حزب الإرشاد، صدر العدد الأول منها في سواربايا في ١١ يونيو، ۱۹۲ ، رأس تحريرها حسن بن علي الثقة.
(الشفاء) مجلة شهرية صدرت في مدينة بكالونجان ورأس تحريرها عمر سليمان ناجي، صدرت في سنة ١٩٢٠م.
(الذخيرة الإسلامية) مجلة دينية أدبية أصدرها الشيخ أحمد السوركتي في بتافيا في شهر محرم ١٣٤٢هـ ( سبتمبر ۱۹۲۳م)، ولكنها لم تتعد السنة الواحدة من صدورها، وتوقفت في شوال ١٣٤٢) مايو ١٩٢٤م) بعد عشرة أعداد.
(القسطاس) صحيفة أسبوعية إرشادية أصدرها عمر بن علي مكارم في مدينة سواربايا في 3 فبراير ١٩٢٣م، لكنها لم تستمر طويلاً في الصدور.
(حضرموت) جريدة أسبوعية أسسها عيدروس المشهور العلوي في سواربايا في ١٦ ديسمبر ۱۹۲۳م، واستمرت عشر سنوات حتى توقفت في أواخر عام ۱۹۳۳م.
(الأحقاف) جريدة أسبوعية أصدرها عمر هبيص في مدينة سواريايا عام ١٩٢٥م.
ولكنها لم تستمر طويلاً في صدورها.
(الدهناء) مجلة شهرية صدرت في مدينة سواربايا في شهر يونيو ۱۹۲۸م، ويبدو أنها لم تستمر إلا سنتين أو ثلاث.
(المصباح) مجلة شهرية أصدرتها جمعية التمدن الإرشادية في سواربايا في ديسمبر ۱۹۲۸م.
(الرابطة) مجلة شهرية صدرت في جاكرتا في يناير ١٩٢٩م، واستمرت أربع سنوات وقد تولى رئاسة تحريرها الأستاذ هاشم ابن محمد الحبشي.
(برهوت) جريدة أسبوعية انتقادية باللهجة العامية الحضرمية، أصدرها الأستاذ محمد بن عقيل في مدينة الصولو في يناير ١٩٣٠م.
(الإصلاح) صحيفة أصدرها علي هرهرة في سواربايا في ٢٢ سبتمبر ۱۹۳۰، ويبدو أنها لم تستمر طويلاً.
(الإرشاد) مجلة شهرية صدرت في سواربايا في ٢ أغسطس ١٩٣٧م، وكان رئيس تحريرها محمد عبود العمودي، وقد استمرت عامين متصلين، وربما توقفت عن الصدور بعد ذلك في عام ١٩٣٩. وصحف أخرى لم تستـمر طويلاً مثل: (المشكاة)، و(المستقبل)، و(اليوم)
والمعارف)، و(الترجمان)، و(المرأة المحمدية) و(مرآة الشرق)، و(السلام).
ظهور الصحافة العربية الحضرمية في سنغافورا :
وفي سنغافورة صدرت معظم الصحف العربية الحضرمية في الفترة من ۱۹۱۷ الى ١٩٤٣م وهي تقريبا الفترة نفسها التي شهدت العصر الذهبي للصحافة العربية الحضرمية في إندونيسيا. وأهمها: (الأيام): أول صحيفة عربية في المهجر الشرقي جاوة وسنغافورة ، أسسها الاستاذ محمد بن يحي بن عقيل، صاحب كتاب النصائح الكافية في أول جمادى الثانية ١٣٢٤هـ ١٩٠٦م، واستمرت حتى عام ۱۹۰۸م، وهناك صحيفة اسمها (الوطن) يذكر أنها أول صحيفة عربية في هذا المحجر الشرقي.
(الإصلاح): صحيفة أسبوعية أدبية أسمها محمد بن عقيل العلوي عام ١٩٠٨م. وكان رئيس تحريرها الشيخ كرامة بن سعيد بلدرم، ولقد استمرت في الصدور حتى عام ١٩١٠م.
(الهدى): أول جريدة أسبوعية ظهرت في سنغافورة بعد انقطاع طويل للصحف في هذه الجزيرة، أصدرها ورأس تحريرها عبد الواحد الجيلاني في ٢٥ مايو ١٩٣١م، وتوقفت في شهر جون ١٩٣٤ بعد أربع سنوات من النشاط، وذلك بعد رفع قضية عليها جعلتها تتوقف لأسباب مالية.
(العرب): أنشأها حسين بن علي السقاف وكان رئيس تحريرها أحمد بن عمر بافقيه وقد استمرت حتى يناير ١٩٣٥م.
(القصاص): جريدة نصف شهرية أصدرها فرج بن طالب الكثيري باللغة العامية الحضرمية في فبراير ١٩٣٢م.
(النهضة الحضرمية): جريدة شهرية أصدرها أبوبكر السقاف العلوي في يناير ۱۹۳۳م، واستمرت حوالي العامين حتى عام ١٩٣٤م.
(الشعب الحضرمي): جريدة نصف شهرية أصدرها فرج بن طالب في فبراير ١٩٣٤ باللهجة العامية الحضرمية، ولم تستمر في صدورها طويلاً.
(الجزاء): جريدة نصف شهرية أصدرها فرج بن طالب في أبريل ١٩٣٤ باللغة العربية الفصحى، واستمرت حتى شهر مايو ١٩٣٤ م على ما يبدو.
(الحساب): نصف شهرية أصدرها فرج بن طالب في يناير ١٩٣٥، واستمرت حتى أبريل ١٩٣٦م على ما يبدو.
المجد العربي : جريدة نصف شهرية أصدرها فرج بن طالب في ٢٠ مارس ١٩٣٥م، وربما استمرت حتى سبتمبر ١٩٣٥م.
(صوت حضرموت) : جريدة شهرية صدر العدد الأول منها في مايو ١٩٣٤، واستمرت أربع سنوات، ثم توقفت ثم عادت للصدور حتى عام ١٩٤٧، صاحبها طه أبوبكر السقاف العلوي.
(السلام): جريدة شهرية صدرت تحت رعاية إبراهيم بن عمر السقاف في ١٢ أبريل ١٩٣٦ ، واستمرت حتى فبراير ١٩٤٠ على ما يظهر حيث توقفت بسبب عدم دفع المشتركين فيها ما عليهم من حقوق مادية لها. ولقد كانت السلام هذه بعثاً لجريدة العرب السابقة، ولكن بروح مختلفة تماماً، وذلك حين بدأت بوادر الانفراج في الأزمة التي عصفت بالعرب في المهجر السنين طويلة.
(المشهور): أصدرها محمد بن زين السقاف في ديسمبر ۱۹٣٨ ، لكنها لم تستمر طويلا.
(الذكرى): جريدة نصف شهرية أصدرها عبد الله بن عبد الرحمن الحبشي في سبتمبر عام ۱۹۳۹م، واستمرت حتى مايو ١٩٤٠م.
(الأخبار): أصدرها عبد الواحد الجيلاني في سبتمبر ۱۹۳۹م، بعد توقف جريدته الهدى، كانت يومية في البدء ثم أصبحت أسبوعية، ثم توقفت عام ١٩٤١م.
(الأخبار المصورة): أصدرها السيد عبد الواحد الجيلاني في جولاي ۱۹۳۹م على ما يبدو، وربما توقفت في نوفمبر ١٩٤٠م.
علي أحمد باكثير رائد ثاني صحيفة في حضرموت :
بعد توقف (صحيفة حضرموت) التي أنشأها السيد شيخ بن عبد الرحمن بن هاشم السقاف سنة ١٩١٧م في مدينة تريم ووأدها في سنتها الأولى كان لابد من الانتظار حتى يعود الفتى علي أحمد باكثير من إندونيسيا إلى سيئون سنة ١٩20م وهو في سن العاشرة ليصدر صحيفة (التهذيب سنة ۱۹۳۰ م وهو في سن العشرين ، فأصبح رائد ثاني صحيفة
تصدر في حضرموت.
عاش علي أحمد باكثير في حضرموت فترة قصيرة قياساً بالأثر الذي أحدثه، فقد أرسله والده من إندونيسيا سنة ١٩٢٠م وهو في سن العاشرة وغادر حضرموت نهائياً سنة ١٩٣٢م.
درس علي أحمد باكثير أمهات الكتب العربية في اللغة والنحو والعقيدة والأدب على يدي عمه العلامة القاضي الشيخ محمد بن محمد باكثير لمدة عامين في الفترة من ١٣٤١ – ١٣٤٤ هـ الموافق ١٩٣٤ – ١٩٢٥م. ثم عين مديراً الأمدرسة النهضة العلمية بسيئون أول مدرسة أهلية نظامية في ٣/٢٦/ ١٣٤٤ هـ الموافق ١٩٢٥/١٠/١٤م. كان تعليمه حضرمياً ولكن ثقافته لم تكن حضرمية، فقد استغرقته قراءاته الرواد الأدب والفكر والثقافة الإسلامية في مصر، ولم يكتف بما يرد إلى حضر موت من كتب ومجلات قليلة فما كان ذلك يشبع نهمه، فقد أقام لنفسه جسوره الخاصة فراسل كبريات الصحف والمجلات التي كانت تصله بالب ريد من مصر أو مع المسافرين من الأصدقاء . واتصل بقادة الفكر والأدب والحركة الإصلاحية الإسلامية المستنيرة في مصر والعالم الإسلامي، فقد وجدت في ملفاته الخاصة رسائل إليه وهو في حضر موت من أمير البيان شكيب أرسلان من جنيف ورسائل أخرى من السيد محمد رشید رضا صاحب مجلة المنار والسيد محب الدين الخطيب صاحب مجلة الفتح والمطبعة السلفية وقد وجدت في مكتبته في حضرموت الكثير من أعداد هاتين المجلتين. كان أثر هاتين المجلتين الإصلاحيتين وراء إصدار باكثير صحيفة ثقافية أدبية إسلامية في سيئون بحضرموت باسم (التهذيب) صدر العدد الأول منها في ١ شعبان ١٣٤٩ هـ الموافق ٢٢ ديسمبر ١٩٣٠م والعدد الأخير منها في ١ جمادى الأولى ١٣٥٠هـ الموافق ٢٢ سبتمبر ١٩٣١م ، وهذا يعني أنها لم تستمر أكثر من عام واحد لما لقيته من مقاومة ممن أسماهم (بالجامدين) الذين لم يستوعبوا رسالتها أو من الذين أحسوا بخطر رسالتها عليهم وكان إصدار هذه الصحيفة التي شاركه فيها جماعة من المتنورين من أبناء جيله عبئاً كبيراً عليهم ، فلم تكن في حضرموت حينذاك مطابع وإنما كان يسهر عليها مع زملائه يخطونها باليد وتوزع في نطاق محدود وتعلق أعداد منها في المساجد وأماكن تجمع الناس. ولعل صحيفة التهذيب قد أشعلت الفتيل الذي أعطى الضوء لظهور صحف أخرى في حضرموت الوادي والساحل استمرت الفترات أطول وقويت شوكتها وعبرت عن طموحات الشعب الحضرمي وقضاياه خاصة تلك التي صدرت في المكلا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وذلك بعد هجرة علي أحمد باكثير النهائية إلى مصر.
الدور الفكري والإصلاحي لصحيفة التهذيب :
جعلت الصحيفة شعارها الآية الكريمة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ولم يجعل باكثير اسمه عليها لصغر سنه من ناحية ولوضوح توجهه العقدي من ناحية أخرى، وإنما كتب عليها ( يحررها نخبة من أفاضل سيئون ) وجعل المدير العام المسئول عنها رجلا من أفاضل أهل البلاد هو الأستاذ محمد بن حسن بارجاء الذي كان يسهر الليالي – إيماناً برسالتها . يخط أعدادها بحروفه الجميلة . وقد أرسل باكثير فيما بعد أعداد هذه الصحيفة مجتمعة إلى أستاذه محب الدين الخطيب بالقاهرة حيث طبعها في مجلد واحد في مطبعته السلفية، وكتب لها مقدمة تبارك توجهها بعنوان ( ألوكة وادي الأحقاف )
وجعل شعارها سؤال وجواب من شعر باكثير:
س : ما هو التهذيب ؟
ج : قبس تألق من سنا حرية
سيكون فاتحة النهوض الحضرمي
يظهر على صحيفة التهذيب منذ العدد الأول أثر فكر جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وصحيفتهما (العروة الوثقى ودعوتهما إلى الجامعة الإسلامية وإلى انفتاح المسلمين على روح العصر ونبذ الخرافات والأوهام وما علق بالدين من غبار الدراويش والعودة الحقيقية إلى
جوهر الإسلام كما قدرته السـ النبوية الشريفة وأفعال الصحابة الأكرمين.
استطاع علي أحمد باكثير أن يعبر من خلال صحيفة التهذيب ومن خلال وجوده مديرا لمدرسة النهضة العلمية بسيئون عن دعوته الإصلاحية، فقد أمن أن لا سبيل لتحقيق غايته في خدمة مجتمعه إلا بالقضاء على الجهل وذلك من خلال الإمساك جيداً بناصية التربية والتعليم وإنشاء جيل جديد لا يفكر بطريقة آبائه فبدأ عمله في مدرسة النهضة العلمية بسيئون بوضع نظام جديد للتعليم يعتمد على الفهم لا الحفظ، ويعمل بوسائل التربية الصحيحة ، وقد عبر عن هذا الاتجاه في شعره الذين نشره بين تلاميذه من خلال صحيفة التهذيب :
إن برنامج تدرسيكم
ليس برنامج قوم مرتقين
ترهقون النشء بالحفظ فمن
حفظ تقرير إلى حفظ متون
ليس في ذاك لهم من صالح
إنه يقتل فهم الناشئين
فدعوا الحشو وربوا فيهم ملكات
الحذق في كل الفنون
كانت المدرسة قبل أن يتولى علي أحمد باكثير إدارتها تقتصر على تدريس الفقه والحديث والنحو بالأسلوب التقليدي الذي لا يتفق مع سن التلاميذ وقدراتهم على الفهم فبسط باكثير أسلوب التعليم وأدخل عليه مواد جديدة كالتاريخ والجغرافيا والإنشاء والأدب والشعر فثارت عليه ثائرة بعض الجامدين وعدوا فعله ذلك مروقاً على ما تعودوا عليه في تعليم
الأبناء وعده الغلاظ منهم خروجاً عن منهج أسلافهم وأوغروا عليه صدور العامة، وكانت بالنسبة لبعضهم فرصةً للنيل من هذا الشاب الذي جاء يبشر بأفكار جديدة وكأنه يريد أن يعلمهم دينهم فكان باكثير يدافع عن نفسه ويبسط ذلك في أشعاره الكثيرة :
أنا لم أدع إلى غير الهدى
وإلى غير نهوض المسلمين
أنقمتم دعوة الناس إلى
سنة المختار خير المرسلين ؟!
وصادف أن حل موعد الاحتفال السنوي بإنشاء المدرسة فنظم للتلاميذ نشيداً ينشد ملحنا نشره في التهذيب يقول فيه :
بنهضة العلم شخص العلم قد نهضا
وعنصر الجهل في أيامها القرضا
وقد توطد ركن الدين وانتشرت
أعلامه ، وبدا صبح الهدى وأضا
اليوم يوم به ( سيئون ) زاهية
مملوءة فرحاً إذ نالت الغرضا
اليوم يوم به حل السرور بنا
يوم احتفال وإقبال ويوم رضا
فكان هذا النشيد وحده مدعاة جديدة للثورة عليه وللتأكيد على مخالفته لهؤلاء في كل ما يفعل فما كان منه إلا أن رد على هؤلاء بخطبة طويلة القاها في يوم ٤ رم ١٣٤٩هـ الموافق ٢١ مايو ١٩٣٠م في الاحتفال السنوي للمدرسة في ذلك العام ونشرت في صحيفة التهذيب في حينها بتعليق يقول : » إنها أول خطبة في موضوعها ألقيت على ملا من الناس في هذه الديار . ناقش فيها الاعتراضات التي ثارت ضده لتلقينه طلاب المدرسة هذا النشيد الملحن على اعتبار هذا الفعل تقليداً جديداً وتشبهاً بالإفرنج . فرد با کثیر بان التسرع في الأحكام والتحليل والتحريم أكبر مخالفة لنهج السلف وقال: ” إنه يجب على من أراد أن يحافظ على سيرة السلف أن يعرف أولاً حقيقتها والله يعلم أنهم لم يبلغوا تلك الرتب العالية ولم يصلوا إلى تلك المنازل السامية إلا بعنايتهم التامة بإصلاح قلوبهم وتطهيرها من رذائل الصفات وقبائح النزعات واعتمادهم في كل ذلك على العلم الحقيقي الخالص من الشكوك والأوهام فإذا ورد عليهم أمر لا عهد لهم به لم يسرعوا في الحكم بتحليله أو تحريمه ولم يرفعوا صوت الإنكار على فاعله بمجرد النظر إليه بل عرضوا ذلك الأمر على نظر العلم أولاً ووزنه بميزان العقل فإن رأوه منابذاً للعلم مخالفاً للعقل مضراً بالناس تحققوا أنه مما لا يرضى به
الله ورسوله “.
أما آفة التقليد فهاجمها بضرب المثل بالذين يتبعون آراء غيرهم في الحكم على علماء الإسلام المحدثين دون تروي أو تمحيص فيصيبون رجاله بجهالة . ودافع عن الإمام محمد عبده الذي سماه ( الشيخ الإمام حكيم الإسلام ) وبرأه من الافتراءات التي كتبها عنه الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني وتصديق بعض الناس في حضر موت لهذه الافتراءات وتبنيها دون التأكد من صحتها ، وناقش باكثير جمهوره بمنطق بسيط يحقق إنصاف الإمام محمد عبده فقال : (… هل تعرفون حقيقة الشيخ النبهاني تماماً ؟ الجواب لا تعرف عنه إلا أنه من كبار العلماء وأعيان الصالحين . من أين لكم معرفة ذلك ؟ الجواب أننا عرفنا ذلك من مطالعة كتب ه فكلها نافعة وغالبها في مدح النبي (صلى الله عليه وسلم) . أرأيتم لو كتب عنه أحد العلماء بمصر بأنه زائغ مبتدع وفاسق ماذا كنتم صارفين في أمره ؟ الجواب لا نبالي بذلك فقد عرفناه عالماً صالحاً بكتبه . إذن لماذا لم تفعلوا ذلك في حق الشيخ م محمد عبده فتطالعوا كتبه أولاً وتقرؤوا رسائله وكتاباته في الدفاع عن الإسلام …..
وفي ضوء هذا الوعي المبكر بجوهر الإسلام والحرص على الارتباط بتراث السلف والاتصال بقادة التجديد والإصلاح ودعاة العودة إلى الوصول في العالم الإسلامي وفي مقدمته مصر كان لا بد لبا كثير أن يصطدم مع بعض ما تعارف عليه كثير من الناس في مجتمعه فكتب في صحيفة التهذيب بألم يقول:
قلبي به شطران بين المسلمين على العموم ، وبين شعبي الحضرمي
اسى على مجد متهدم ويحي لذلك السؤدد المتهدم
واذوب من أسف لشعب جامد متخبط في ليل جهل مظلم
متعسف في دينه ، متعصب لقديمه متفرق متقسم
الحر مضطهد لديهم مبغض والوغد جد محبب ومعظم
ومن هنا يجد الدارس المتأمل الموضوعات صحيفة ( التهذيب ) التفاصيل الدقيقة لخريطة التفكير المستنير عند علي أحمد باكثير في تلك المرحلة المبكرة من عمره ومن تاريخ الثقافة الحديثة في حضرموت، فهي تحدد مصادر التأثر الفكري والعقدي عنده في المرحلة من حياته كما أنها تضع النقاط على الحروف للأهداف التي كان يعمل لتحقيقها في مجتمعه الحضرمي .
والطابع العام للصحيفة سواء من حيث الموضوعات أم من حيث الاستشهادات والمأثورات التي ترد في قضاياها تدل على مدى تأثر با کثیر بروح ( العروة الوثقى ) التي أصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في فرنسا وروح مجلة ( المنار ) التي أصدرها تلميذهما محمد رشيد رضا في القاهرة بأنه لا منقذ للمجتمعات الإسلامية الرابضة في التخلف إلا بتصحيح
العقيدة وإيقاظ الهمم . ويجد الدارس لحياة باكثير وفكره في حضرموت في صحيفة التهذيب أوجه التشابه بينه وبين رشيد رضا في المعالم البارزة للاتجاه الإصلاحي عند كل منهما، وعمل كل منهم على محاربة البدع في وطنه وحث الناس على التخلي عن التوسل بأصحاب القبور
ودعوتهم إلى التوجه لله وحده . وقد دعم هذا التوجه والأثر المجلدات العديدة من مجلة ( المنار) التي وجدتها في منزل باكثير في حضرموت والحواشي والتعليقات الموجودة على بعض
صفحاتها بخطه تدل على أن باكثير وجد في (المنار) ما وجده أستاذه رشيد رضا في العروة الوثقى ) مما كان يتوق إلى معرفته من أسباب الفساد في المجتمع المسلم ووجد وسائل الإصلاح والعلاج .
قضايا صحيفة التهذيب وأثرها في حياة باكثير:
ومن الواضح أن باكثير تعرف على فكر
الأفغاني ومحمد عبده من نافذة المنار التي كانت مرأة لفكر الإمام محمد عبده خاصة الذي يتمثل في الإيمان بأن إصلاح الأمة يأتي أولاً من خلال التربية والتعليم وتصحيح العقائد فلا عجب إذن أن نجد (تهذيب) باكثير تزخر بهذه الموضوعات التي تقع في صمیم مشکلات مجتمعه الحضرمي آنذاك ، وهي موضوعات كتب بعضها باسمه الصريح والبعض الآخر باسم مستعار وقد أبلغني بعض رفاق صباه أنه كان يحرر معظم موادها ويكتب افتتاحياتها . فنجد له مثلاً مقالات عن (قراءة البخاري في شهر رجب) و (ذكرى المولد النبوي) و ( مذهبي في زيارة القبور والتوسل ) كما لم تخل كتاباته من تناول بعض القضايا الاقتصادية والسياسية والأدبية . ففي افتتاحية العدد السابع يكتب مقالاً بعنوان (حركة الماكينات الرافعة في حضرموت) التي يدعو فيها لتطوير أساليب الزراعة وتنميتها باسمه الصريح وفي العدد نفسه يكتب مقالاً باسم مستعار بعنوان (حول اضطهاد إخواننا مس لمي طرابلس) وهو عن الهجوم الوحشي الإيطالي على تلك البلاد والفظائع التي ارتكب ها المستعمر بأهلها. وقد كان هذا المقال صدى للحدث نفسه ولما كتب عنه في مجلتي (المنار ) و(الفتح ) لمحب الدين الخطيب وخاصة ما كتبه الأمير شكيب أرسلان في الأخيرة، وقد حيا باكثير شكيب أرسلان بعد ذلك بقصيدة طويلة نشرت في حينها في مجلة الفتح.
ويحمد لـ علي أحمد باكثير ابن سيئون أنه استطاع الصمود بـ التهذيب لمدة عام في مواجهة الحملة التي شنها عليه من اطلق عليهم مسمى (الجامدون) في حين لم يستطع زميله السيد شيخ بن عبد الرحمن بن هاشم السقاف ابن تريم الذي سبقه بـ ١٣ سنة بإنشاء صحيفة (حضرموت) التي لم يصدر منها إلا عدد واحد فقط. وربما كان الفارق في درجة الجمود والتشدد بين تريم وسيئون أحد أسباب سرعة توقف الصحيفة في تريم الأكثر تشدداً علاوة على الفارق الزمني والفارق في ثقافة الشخصية كل هذه عوامل ترجح أنها أعانت صحيفة التهذيب على الاستمرار في الصدور لمدة سنة.
ولكن هذا لا يعني أن الأمر مر بسلام فقد
دفع علي أحمد باكثير الثمن غالياً، إذ لم تكن الحرب التي شنها الجامدون مقتصرة على فكره بل امتدت إلى شخصه فقد حورب في أعز ما لديه، وحيل بينه وبين الفتاة التي كان يحبها ويرغب في الزواج منها بالتأثير في والدها، ولم يستطع تحقيق هدفه إلا بعد انتظار قرابة عامين و بتدخل من علامة حضرموت السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف وهذه صة طويلة مؤلمة ليس هنا مكان الحديث عنها. ولكنه حتى لما تزوج من يحب لم يهنا طويلاً إذ لم يدم هذا الزواج أكثر من ثلاث سنوات أنجبت له فيه زوجته الحبيبة ابنته خديجة ثم توفيت بعد مرض عضال في ٢٠ مايو ۱۹۳۲م فجن من وقع الحدث وغادر سيئون هائما على وجهه في قرى وادي حضرموت حتى وصل المكلا في ١٧ يونيو ۱۹۳۲م ومنها غادر إلى عدن ليبدأ هجرته الطويلة التي انتهت به إلى الاستقرار في مصر منذ سنة ١٩٣٤م حتى وفاته بها سنة ١٩٦٩ م رحمه الله.