تاريخ
أ.د. أحمد محمد بن بريك
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 80
رابط العدد 2 : اضغط هنا
يقول المصلي:
” عدت من شبام إلى الشحر مسقط رأسي في يوم … من شهر … سنة ١٣٥٦ هـ لزيارة عائلتي بعد وفاة والدي بعدة أشهر. وما مكثت بينهم سوى بضعة أيام وإذا أنا برسالة من الأمير عوض بن صالح القعيطي من المكلا يطلب وصولي إليه. وبناء على هذه الرسالة ذهبت إلى المكلا وواجهت فور وصولي إليها الشيخ سعيد احمد الحدادي وقد كان مساعداً للأمير عوض وقائما بأعمال الإدارة في الدولة وتحدث معي بأن الأمير عوض يريدك أن تعمل عنده كمساعد وقلت له إنني موظف في شبام وما جئت إلى الشحر إلا لزيارة عائلتي وسأعود إلى شبام فقال لي إننا في حاجة إليك واخترناك دون سواك لما عرفناه من خبرتك وإخلاصك. وحاولت أن أتخلص لأني غير مرتاح للعمل في الساحل على الإطلاق ولكن الحدادي والأمير عوض عندما واجهته تشبثاً بي كثيراً مما جعلني أرضخ لطلبهما وتقرر لي مرتب مائة روبية استلمها من مالية المكلا علاوة على المائة الريال التي كانت مرتبة لي لعملي في شبام استلمها من مالية الشحر.
واستلمت العمل وكنت أسكن في الباغ في بنقلة صغيرة أنا والحدادي تقع بين بنقلة السلطان وبنقلة المستشار وكان العمل شاقاً وخطيراً في نفس الوقت . شاقاً لكثرته وخطيراً لما يكتنفه من صعوبات في الاستجابة لمطالب دار المستشار التي كانت أشبه بجزار والدولة أمامها كحيوان وادع مستسلم بين كل حين وآخر تطالب بسلخ جانب منه وهالني ما شاهدت ولكني صبرت على أمل أن أتخلص من العمل أو أبقى وأنفع.
وسألت الحدادي هل ترك لكم السلطان صالح لمدة غيابه في الهند برنامجاً تسيرون
عليه فقال لي إنه لم يترك لنا أي برنامج سوى قوله: استمروا في عملكم ولاحظوا الأمور، وكان الحدادي هو المسئول الأول عن العمل وهو الذي يقوم بدور التفاهم بين القصر ودار المستشار وكان عملي في المكتب أشبه بمساعد له.
وأخذت أزاول عملي وجاءت حادثة قتل عمر عوض عبود مخارش قائم غيل باوزير (۲) فقد كان عمر عوض مخارش خارجاً من الغيل في سيارة لوري ذاهباً إلى الشحر وعندما وصلت السيارة المكان المسمى الحمى إذا بجماعة من بحسن التامبول إحدى قبائل الحموم يظهرون على السيارة في كمين قد أعدوه لها ويطلقون النار عليها فيقتل سائق السيارة في الحال وهو رجل من سكان الشحر وعلى اثر ذلك غادر عمر عوض السيارة والخذ يتبادل إطلاق النار مع جماعة الحموم وأصابته رصاصه في جنبه وقتل في الحال . وجاءت الأخبار بالحادث إلى المكلا واهتممنا بالأمر وبخاصة أن الحموم بدأوا يتحركون ويخوفون من يمر في الطرق بالقتل والنهب وتقرر أن ترسل قوه إلى الشحر ومن الشحر توزع هذه القوة على الحامي والديس وقصيعر والريدة وصدر الأمر على ثمانين من عبيد الدولة وقبلوا الأمر إلا أنهم جاءوا يطالبون ببنادق ورصاص فبعضهم معه البندقية ولكن بدون رصاص وبعضهم لديه بندقية غير صالحة وتحتاج إلى إصلاح وبعضهم لم تكن لديه بندقية . وأمر الأمير عوض أن تحضر كمية من البنادق والرصاص من خزينة الدولة وما كان الأمير عوض يعلم عن الخزينة شيئاً ولا أين مفتاحها كما أن الحدادى نفسه لا يعرف شيئا عن ذلك وبعد بحث عرفوا المسئول عن خزينة السلاح فأحضروه وفتح الخزينة ولم يجدوا فيها لا بنادق ولا رصاص وجاء الحدادي إلي يخبرني بذلك فقلت له إنني ألومك أكثر من كل أحد لأنك تعرف إنك تنوب عن السلطان وقت غيابه وكان عليك ان تتأكد من كل شيء قبل أن يسافر وهذه غفلة تلام عليها أشد اللوم.
والآن فما العمل؟ والحالة تستدعي الإسراع بإحضار السلاح . أذكر أنني اتصلت بالمستر انجرامس وأبلغته أنه لا يوجد سلاح في خزينة الدولة لا بنادق ولا رصاص فهل في الإمكان جلب بنادق ورصاص من حكومة عدن ؟ فقال لي أنه توجد لديه مائتا بندقية من نوع العطف وأكد لي أنه سيقدم لنا ما نحتاجه منها.
وعدت إلى الحدادي وأخبرته ثم رأينا أولاً أن تفحص البنادق العاطلة التي مع بعض العبيد فإذا أمكن إصلاحها تصلح وتذهب القوة وإذا ما جاء السلطان إلى المكلا يكون التفاهم معه في هذا الشأن وهكذا أحصيت البنادق العاطلة وأصلحت.
وشحنت هذه المجموعة من الجنود العبيد في السبع سيارات ورافقتهم إلى الشحر ولما وصلنا الشحر سلمتهم نائبها وهو إذ ذاك الشيخ عمر صالح بن الشيخ علي ليتولى توزيعهم، وفعلاً وزعوا على القــرى التي ذكرتها.
واغتنمت الفرصة حكومة عدن بسبب هذا الحادث وما سبقه من حوادث من الحموم أخلت بالأمن وقامت باتصالات مع الحموم بواسطة معتمدها في المكلا المستر انجرامس الذي هو في نفس الوقت مستشار الدولة القعيطية وطالبت الحموم بتسليم الجناة ودفع غرامة عدد من الجمال والبنادق ووزعت عليهم منشورات بواسطة الطائرات تتضمن الإنذار بأنه في حالة عدم استجابتهم المطالب الحكومة سترميهم الطائرات.
لم يستجب الحموم لهذا الإنذار وبدأت عمليه الطائرات ترمي القنابل عليهم. كل هذا بدون علم الدولة القعيطية رسمياً؛ مخاطبات مع الحــموم وتلاها إنذارات لهم ثم رمي طائرات كل هذا يجري ويقوم به المستشار وحكومة عدن ومكتب السلطان القعيطي لم يبلغ رسمياً بشيء من ذلك فهو يستمع الأخبار كما يستمع لها ابن الشارع .
وفي خلال سير العمليات الجوية جاء في عشية يوم من الأيام علي عبد الله مدي احد كتبة دار المستشار وترجمانه ومعه ورقة عرضها على الحدادي وطلب منه توقيع الأمير عوض عليها فوعده أن يعرضها على الأمير عوض . وفي الورقة قرار الحكومة بالعمليات الجوية ضد الحموم . ودرست الورقة ولم يكن فيها تصريح عن الحكومة التي قررت عملية الطائرات أهي الحــكومة الانكليزية أم حكومة القعيطي وتقرر أن يسأل مدي عن ذلك فجاء مدي ليأخذ الورقة ممضاة من الأمير عوض ولكنه سئل وطلب منه إيضاح ما تتضمنه الورقة وعن نوع الحكومة التي قررت هذه الإجراءات أهي حكومة عدن أم حكومة المكلا فقال هو على الفور إنها حكومة المكلا فقلت إن الأمير عوض على استعداد للإمضاء إذا وصفت هذه الحكومة بأنها حكومة المكلا. ثم لماذا يطلب إمضاء الأمير عوض اليوم والعمليات تجري ثم هو لا يدري الأسباب التي من اجلها جرت هذه العمليات بالضبط وعلى من تكون تكاليف هذه العمليات . فأخذ مدي الورقة ليتحدث مع انجرامس بهذا الشأن ثم يعود ولكنه ذهب ولم يعد. واستمرت عمليات الطائرات وانتهت بتسليم الجناة والغرامة ولم تعط معلومات لمكتب السلطان بذلك.
وكنت أظن أن حكومة عدن أو المستشار انجرامس على اتصال بالسلطان في الهند رأسا ولكن الواقع أن السلطان لم يكن له علم بكل ما جرى فالسلطان نفسه وردت منه رسائل لابنه الأمير عوض يسأله ويعتب عليه انه يسمع من أفواه الناس حادثة قتلة عمر عوض مخارش ولا يعلمها من عاصمة ملكه. واهتم الأمير عوض والحدادي وحررت برقية مطولة شرح فيها الحادث وعملية الطائرات والإجراءات الجوية تمشي وأرسلت هذه البرقية الى مركز التلغراف لإرسالها كما حرر الأمير عوض رسالة لوالده فصل فيها الحادث وما يجري من عمليات.
أما البرقية فقد جاء إلى المكتب مدير التلغراف في اليوم الثاني وكنت بـالمكتب وحدي ولم يكن الحدادي موجوداً فقد خرج لعمل له خارج المكتب وسألني مدير البرق عن الحدادي فقلت انه ذهب لعمل وسيعود ومكث مدير البرق طويلاً عندي بالمكتب ولم يعد الحدادي وأخيراً قال إن الحدادي تأخر كثيراً فقلت انه سيأتي فهل من خدمة يمكن نقوم بتأديتها فقال الأمر بسيط وسكت . فتركته جالساً ينتظر وأخيراً قال إن المسألة بسيطة وهي بخصوص صورة برقية من الأمير عوض للسلطان إلى الهند جاءت اليوم لإرسالها إلى الهند وهي مطولة كثيراً فلو تختصر يكون أحسن فقلت أيوجد مانع عندكم من إرسالها بطولها فقال لا ، إلا أن الاختصار أحسن . فقلت مادام لا يوجد لديكم مانع في إرسـالها بطولها فأرسلوها كما هي لأن الأمير عوض ما كتبها كذلك إلا وهو يريد أن ترسل كما كتبت . فقال إذا كانت رغبة الأمير هكذا سنرسلها على ما فيها من طول . فقلت أرسلوها برمتها. ثم عاد إلي وقال نحن ما عندنا مانع من إرسـالها إلا أنه توجد لدينا أوامر من دار المستشار أن لا نرسل البرقيات التي فيها أخبار الحروب المحلية وعملية رمي طائرات . فقلت ولم هذه الأوامر فقال كأنهم يخشون أن تلتقط هذه الأخبار باخرة غير واخرهم أو طائرة غير طائرتهم وهم لا يريدون أن تعلم الدول الأخرى عنهم أنهم يرمون القبائل العزل من السلاح بقنابل الطائرات خشية أن يحتجوا عليهم ، فقلت رغبة الأمير عوض أن ترسل الرسالة بكاملها لأن والده السلطان صالح يستعجله إرسال تفاصيل الحوادث بسرعة لأنه يعلم ذلك من الناس . وخرج مدير البرق من عندي على انه سيرسل البرقية بكاملها. وجاء الحدادي ورويت له ما دار بيني وبين مدير البرق. وتأكدنا بعد ذلك ان البرقية لم ترسل للسلطان وإن رسائل الأمير له تحجز ولا ترسل. تأكدنا من ذلك من رسائل السلطان المتتابعة التي يعتب فيها اشد العتب على ابنه الأمير عوض على عدم وصول رسائل منه له. وقد اضطر الحدادي أن يرسل رسائله مع : نواخيذ السواعي الذاهبين إلى بمبي (مومبي).
(1) تم نشر “الورقة الأولى من” أوراق في تاريخ السلطنة القعيطية ” في العدد (۲۱) ربيع الثاني ١٤٣٣ه – مارس ٢٠١٢م من مجلة “الرباط” ، مع تقديم للعلامة المرحوم الشيخ المصلي.
(۲) وردت هذه الحادثة ، في كتاب المؤرخ سعيد عوض باوزير الثقافة وسيلتنا إلى الكفاح ” والذي أعده ونشره ابنه نجيب ، تحت عنوان ( البدوي الأرعن ) بشيء من التفصيل. فبعد أن وصف القائم مخارش بالنتيل الشجاع قال: “لم يتمكن أفراد العصابة في ارتكاب جريمتهم إلا بعد أن أفرغ ( مخارش ) آخر رصاصة في الشـريط (الميزر) الذي كان يتمنطقه”.