مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

الواقف في عينات كالواقف في عرفات!! (العلاقات بين يافع وعينات في ضوء وثيقة تاريخية)

أضواء

أ.د. علي صالح الخلاقي

“أمَا علمْتُم أن جلسة ساعة بين يدي ولي كمثل عبادة سبعين سنة”

[منصب عينات أحمد بن عليّ بن أحمد آل الشيخ أبي بكر بن سالم (1142- 1177هجرية)]

المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 9

رابط العدد 32 : اضغط هنا


    برز التأثير الروحي الكبير لسادة حضرموت، ولمناصب عينات خاصة، في مناطق يافع والجنوب منذ عهد الشيخ أبي بكر بن سالم بن عبدالله بن عبدالرحمن السقاف العلوي (919 – 992هـ)، الذي نَصَّب – قبل أن تدركه الوفاة – الشيخ العلامة علي بن أحمد هرهرة مصلحًا ومرشدًا دينيًا في يافع العليا، وكان رجل دين مشهور، ذا علم وحلم، وهو مؤسس الأسرة الهرهرية، ثم السلطنة التي سُميت باسمهم فيما بعد، واتخذت من حوطة “المحجبة” عاصمة لها في يافع بني مالك.

    في سنة 1027هـ وصل الحسين بن الشيخ أبي بكر إلى يافع، في طريق عودته من الحرمين الشريفين، مرشدًا وداعيًا إلى الله، فأحبَّتْه قبائل يافع محبةً عظيمةً، واتخذوه مرجعًا لكثير من مشاكلهم، وقد أسس مسجدًا في قرية “عنتر”، واشترى من ماله الخاص كثيرًا من الأراضي المتنازع عليها، فأوقفها على كثير من أوجه البر وفض الخصومات([1]).

    ومنذ ذلك الحين حظي الشيخ أبوبكر بن سالم، ثم نجلُه الحسين بمكانة خاصة من التجِلَّة والتعظيم في يافع، واعتبروهما من أولياء الله الصالحين، وزاد من الترويج لتلك المكانة وصول أعداد من أقاربهما السادة من بني هاشم، ممن انتشروا في مناطق يافع بناءً على طلب من قبائلها، ليعلِّموا أهلها، ويصلحوا ذات بينهم عند نشوب النزاعات والفتن القَبَلية، ويتولوا القيام بالأعمال الشرعية، وجمع العشور والنذور والصدقات المخصَّصة لهما ولذريتهما من الأوقاف، والتي تصل إلى عينات دون انقطاع كواجب ديني مُلزم([2]).

    ظل تأثير الشيخ أبو بكر بن سالم وذريته من بعده، مناصب عينات، مُعظَّمًا في مدى ثلاثة قرون، ومثَّلوا المرجعية الدينية التي يلجأ إليها اليافعيون، لا في شؤون دينهم فحسب، بل وفي أمور دنياهم، حيث تنصاع لهم القبائل عند نشوب خلافات أو نزاعات، بل وتلجأ إليهم حينما تتعرض للخطر، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولا ننسى دور عينات في حشد قبائل يافع وتعبئتها لمواجهة ودحر غزوات الجيوش الزيدية ودحرها، لا في يافع فقط، وإنما في لحج وعدن وحضرموت، إذ كانت يافع رأس حربة في تلك المواجهات.  

    ورغم دورهم الإيجابي كمرجعية دينية، لكنهم نسجوا هالة من التقديس على أنفسهم وقدراتهم الإلهية، وصلتْ حد الغلو في إضفاء القداسة والكرامات، التي أوهموا بها الناس، حتى أننا نجد الاعتقاد ببركتهم وتأثيرهم الروحي وقدراتهم الخارقة ملحوظًا في الذاكرة الجَمْعِيَّة وفي الموروث الشعبي وفي الكثير من الأشعار اليافعية التي تطلب الغوث والنجدة من عينات، وتحديدًا من الشيخ أبي بكر بن سالم. ومن ذلك -على سبيل المثال- قول الشاعر محمد محسن بن طهيف اليزيدي:

يافع مُدرَّب([3]) بالصَّحايح لوَّلات

والشيخ “بُوبك”([4]) ذي وسط “عينات”

    وهو في هذا البيت الشعري لا يلخِّص بكثافة علاقة يافع بمناصب عينات فحسب، بل وبتبعيتها الروحية وانقيادها لهم في الاعتقاد الذي رسّخوه في أذهان الناس عن بركتهم، والشاعر يصرّح بما كان تعتقده الغالبية في أن يافع محمي (مُدَرّب) بسياج من العهود القديمة (الصَّحايح لوَّلات)، وببركة ودعوات الشيخ أبي بكر بن سالم في عينات.

    وبالمثل يذهب الشاعر الشيخ ناصر عمر بن عاطف جابر إلى أن جبل يافع محروس ومحروز، أي محفوظ ومصان بالشيخ أبي بكر بن سالم، الذي أكد (تحرَّازه)، أي حفظه وصونه من كل سوء أو شر، يقول:

أمّا جبل يافع المحروس فيه أحرز

والشيخ أبو بكر ذي أكّد تحرازه

    وقد ظلت عينات حتى عقود قريبة مضت، قِبْلةً يتجه إليها اليافعيون في مناسبات كثيرة، سواء لغرض الزيارة والتبرك، أو طلب نجدة أو غوث أو لحل مشاكل قائمة، وكانوا يحملون إليها العشير والنذور من الحبوب والبُن والنقود، ويطلقون على مناصب عينات كلمة “الحبيب”، بل ويسمُّون “عبدالحبيب” وقد انتشر هذا الاسم مع موجة المدِّ الصوفي، الذي نشره مناصب عينات في يافع.

    وتزخر خزائن الوثائق الأسرية اليافعية بالكثير من رسائل مناصب عينات الموجهة إلى سلاطين يافع ومشايخها وأعيانها، ويغلب عليها الحض على أداء الفرائض والواجبات الدينية، وعلى إيصال العشور والنذور، التي كانت تخصصها القبائل اليافعية لهم، وتتوعد بالويل والثبور وعواقب الأمور لمن يقصر فيها.

    وخير شاهد على تلك التبعية الدينية والروحية هذه الوثيقة التاريخية التي حصلتُ عليها من صديقي سليل سلاطين آل هرهرة، الأخ الفاضل علي بن فضل هرهرة، المقيم في بريطانيا. تقع الوثيقة في صفحة مستطيلة مع تكملة لها في قُلبها، وحالتها سليمة لولا التلف الذي أصاب أجزاء بسيطة منها، لكنه غير مؤثر على فهم الوثيقة.

    تعالوا في البدء نتعرف على نَصِّ الوثيقة:  

نص الوثيقة:

 بسم الله الرحمن الرحيم

    هذا من كلام مولانا وبركتنا وعمدتنا الحبيب أحمد بن علي، نفعنا الله به آمين

    لما دخلنا عليه للزيارة قال له بعض المحبين: خاطرك يا حبيب جينا إليك بأحمال ثقيلة نطرحها بين يديك. فقال الحبيب: يحصل لكم ذلك وأهونها مغفرة الذنوب، لأن من وصل هنا، وأقبل إلى هنا، أقبل على الله. قلنا: حبيب لنا ولوالدينا ولمن أوصانا ولكبيرنا وصغيرنا، ذكرنا وأنثانا. فقال الحبيب: لكم ولهم يحصل ذلك. فقال له بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع السلاطين […طان] وآل هرهرة وآل امرصاص، لأن آل عفيف الذي قاموا بهذا العمل والمساعدين له آل هرهرة وآل امرصاص، هم القفل والباب، إذا صلح القفل والباب صلح البيت، وإذا بطل الباب والبيت دخل السارق واللصوص. فقال الحبيب: إن هذه الإقامة ما هي إلا بأهل هذا البيت لمعوضة، فلما مات معوضة قام الإمام يريد أنه يدخل عليهم وعـ[……قطع بالورقة]  لقوله: “وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم” لأنها وقعت شدّة بموت معوضة، فلما مات معوضة كان الخير في قدوم قحطان……… الكلمة التي هي إليه، وقد أخذنا المحبين باللطف والبصر، حتى دخلوا في الطاعة، اليوم الحمد لله لا يقبل إلينا…. آل هرهرة إلا وذكروا لنا نشكر إليكم آل امرصاص، ولا يجي من آل امرصاص إلا وذكروا نشكر إليكم يافع فهم تجملوا معنا، فعرفنا أن هذه القدرة التي جمعت الكلمة، ولا توصيهم إلا بالرفق بالضعيف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف يحل مال مؤمن مال أخيه المؤمن لأن ماله كَدَمِه، كيف يتركون أهل البدعة ويوخذون أهل السنة هذا في أهل اليمن كيف أهل الحد الذي هم هنا.

وقلنا: خاطرك يا حبيب مع أهل الحد لأنهم محبين. فقال الحبيب: إن ما يروح على الإنسان شيء إلا وهو مكتوب عليه، لعل العوض يحصل له بما هو أحسن منه، مكتوب على كُلّ حبَّة لآكلها. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب أنه بيحصل من أهل الجهل عقاير في بقر وغنم، هل يجب ممن عرف خصمه أن يفعل بمثل ما فعل به لقوله: “من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه”. فقال الحبيب: لا لا، لأن قد اعتنى به الشيخ الكبير أبوبكر ابن سالم، واعتنى بعد ذلك الحبيب الحسين، واعتنى بعد ذلك الحبيب أحمد، واعتنى بعد ذلك الحبيب سالم، واعتنى بعد ذلك الحبيب علي، واعتنى بعد ذلك الحبيب أحمد، هذا فقلنا: يا حبيب أحمد أنت خصمه في الدنيا والآخرة. فقال الحبيب أحمد: أنا خصمه في الدنيا والآخرة. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع الأخدام الذي من قبلك. فقال الحبيب: قد فعلنا عليهم شارح آل هرهرة لأنها وقعت لهم من هنا، من الشيخ الكبير والشيوخ الأولين للشيخ علي هرهرة، ولكن الشيخ علي هرهرة قام بمقامنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن تخاصم قام عليه، وعليه يعلم والقدرة تكوي، ونرجو من القدرة تهدي الناس جميعًا، لأن ما نأخذ العاشر إلا باللطف والطاعة والصبر والمعروف، ألا تبصرون الولد أول ما يتعلق بأُمّه فكبر التربية، فتعلق بأبوه، فكبر الولد فتعلق بالله وعرف به، ومن عرفنا هنا عرف الله، وأن ما يلحق الولد عقوق لوالديه إلا من عدم التلطيف الوالد بالولد وإكراه الوالد له، فمتى أحسن الوالد إلى ولده وتلطّف به خرج الولد بارًّا بوالديه؛ لأن وصية الله بالولد “يوصيكم الله في أولادكم”، وقول الله بالوالد وبالوالدين : “ولا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما”. ونحن كذلك ما نأخذ الناس إلا بالمعروف، ولا كتبنا إلا إلى العقال، ما هو إلى الجهال، الذي ما يعرف مقدارنا، كيف كتبنا تصل إليهم ويقولون ما قدرنا بالجاهل، فمن لم ينهى المنكر فكأنها عار عليه وهو معاون للجاهل وإلا هو يقدر عليه، وأما حقنا قال الحبيب علي: اطرح حقنا على جنب. فلما كان ليلة الوقفة خرج الحبيب يطوف، فاستقام له بعض المحبين على باب البيت وقال: ما تدخل الباب إلا ودخلوا المحبين قُدَّامك في الباب الآخر وفي هذا. فقال الحبيب: ادخلوا هذا الباب تدخلون الباب غدًا قبلي. فقال بعض المحبين: تكون دخلتنا جميعًا مَنْ حضر منّا ومن غاب وأهلنا وعيالنا ومن أوصانا صغيرًا وكبيرًا وذكرًا وأنثى. فقال الحبيب: نعم يحصل لكم ولهم ذلك، ادخلوا الباب هذا قبلي تدخلون غدًا قدامي. فلمَّا كان ليلة العيد قال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، اليوم هذا واقفون على عرفات، هل يكون لنا مثل ما لهم من الأجر. فقال الحبيب: يحصل لكم ذلك، إن بعض الشيوخ قال كما قلتم، فكشف للشيخ وإذا البيت يدور بباب الشيخ سبعًا، ومن مثل هنا مثل هناك. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، إنا فرقنا عيالنا وأهلنا وعيدنا وجينا عندك، نريد العوض غدًا. فقال الحبيب: يحصل لكم ذلك. فقال بعض المحبين: إنا تعبنا في الطريق مع بُعد المسافة. فقال الحبيب: أما علمتم إن لكم بكل خطوة عشر حسنات. فقال بعض المحبين: يكون بالمجيء والرواح. فقال الحبيب: نعم بالمجيء والرواح. فقال بعض المحبين: لنا ولأهلنا ولمن أوصانا صغيرًا وكبيرًا وذكرًا وأنثى. فقال الحبيب: نعم لكم ولهم. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، إن الطفل الصغير إذا وقعت فيه شوكة أو أدنى شيء. فقال الحبيب: أما علمتم أنه قال بعض الشيوخ إن شمسنا أشرقت على البعد، ووقع شح على حضرموت كمثل الفاية، لكن عادها تدخل عليهم وأنتم كيف تخافون. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع سلاطيننا، إنهم الركن، إذا استقام الركن استقام البيت. فقال الحبيب: هم محفوظين. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب من الدولة. فقال الحبيب: ما عاد جعلهم إلا للسلاطين لأجل يخرجوا منهم، وإلا ولا عاد هناك شيء أبدًا. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب في أبين وخروج الدولة. فقال الحبيب: على الله عسى وخرجوا على بصر؛ لأن خروجهم تسكين للضعيف. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب معنا هذا عيد نريد الشفاعة لنا ولأهلنا ولمن أوصانا صغيرًا وكبيرًا ذكرًا وأنثى. فقال الحبيب: يحصل لكم ولهم. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، إنا نظرناك عيانًا بيانًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من نظر إلى جسدي خرج جسده من النار”. فقال الحبيب: وأنتم كذلك، لأن بعض الناس ينظرون إلى جسد والسر رباني. فقال بعض المحبين: لنا ولأهلنا، حيًّا وميتًا. فقال الحبيب: نعم. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، المحبين يريدون تفسح هذا اليوم في الحفة. فقال الحبيب: فسحنا لكم؛ لأنه يعظم شعائر الله، وأن في الحفة إرهاب للعدو، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ومعه من القوم منهم أمراض وصحاح، فوصل المشعر وألزمهم الرمل لأجل ينظر العدو ويرتهب، وجعل المسعى على تلك الصفة التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب، إنا تعبنا في السفر مع قل الماء. فقال الحبيب: إذا معكم الماء لسباركم اسقوا قراشكم منه، واسقوا إلى حد الكلب، ولا تسقوا قاطع الصلاة إذا هو معكم، وتيمموا بالتراب للصلاة. فقال بعض المحبين: نريد كرامة لنا ولأهلنا ولمن أوصانا. فقال الحبيب: أما علمتم أن جلسة ساعة بين يدي ولي كمثل عبادة سبعين سنة. قال بعض المحبين: خاطرك مع سلاطيننا والعقال. قال الحبيب: ما يقع رجل في معقول أو سلطان إلا ومعه عقل أربعين رجل؛ لأن كُلًّا مسئول في رعيته. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع عيالنا وأهلنا. فقال الحبيب: يحصل لهم ذلك؛ لأنهم كفوكم وأنتم كفيتموهم هنا. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع آل هرهرة إنهم ركن معنا. فقال الحبيب: قد وثَّرها لهم الشيخ علي هرهرة، وقال الشيخ الكبير أنت أعلم وأنا أكوي، وترا ناصر فيه البركة. فقال بعض المحبين: خاطرك مع عمر أنه أبيثب بالحرب. فقال الحبيب: هو محفوظ ويتركون ظعف اليمن وظعف أبين وظعف الحد لأن مال المؤمن كدمه.  فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب هذا عيد ووقفة وكُلًّا في بيته وفي عرفات أشركنا في ثوابهم. فقال الحبيب: هم واقفين على حصاحص ورمال وأنتم على فرش، ومن جاز هنا جاز هناك. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب مع أهل بلدتنا أنهم محبين الجميع. فقال الحبيب: إن قد قال بعض الشيوخ إن شمسنا أشرقت على البعد، وأنتم كيف تخافون. فقال بعض المحبين: خاطرك يا حبيب نريد الهدية للمحبين. فقال الحبيب: ردوا عليهم السلام، ونحن راضين عليهم وأدعي لهم، وعلى الله القبول والحمد لله رب العالمين.

شرح الوثيقة والتعليق عليها:

    تعود هذه الوثيقة التاريخية إلى عهد منصب عينات أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم، (خلف أباه وتولى المنصب بين سنة 1142- 1177هجرية)، ويكون قد مكث في منصب عينات 35 عامًا، وكان – كما يصفه ابن عبيدالله- مضيافًا، يذبح كلّ يوم ستًّا من الأغنام، سوى ما يذبحه للواردين، وله ولوع شديد بالقنص، وكان كريمًا شفوقًا([5]).

    لم يُدوَّن في الوثيقة تاريخُ كتابتها، لكنها كُتبت بين سنتي (1142-1177م)، في عهد المنصب أحمد بن عليّ بن أحمد بن علي، الذي قصده للزيارة المحبون له، القادمون من يافع، وكان ميقات تلك الزيارة متزامنًا مع قدوم عيد الأضحى المبارك، وهو ما يتضح من مضمون الحوار، لكننا لا نعرف في أي عام كانت هذه الزيارة على وجه التحديد. كما لا نعلم من هو كاتب الوثيقة؛ لعدم ذكر اسمه، والأرجح أنه أحد فقهاء يافع، ممَّن كان برفقة زُوَّار عينات، وقد حرص أن يدوّن في هذه الوثيقة أهم ما دار من حوار بين الوفد الزائر ومنصب عينات، وفيما يأتي نعرض أهم ما ورد فيها مع التعليق:

    – يلاحظ منذ البدء أن مخاطبة الوفد الزائر للمنصب بالقول: “خاطرك يا حبيب”، وقد تكررت 22 مرة، وهي صيغة توقير واحترام له، وحلَّت عوضًا عن الأسئلة عند التوجه إليه لمعرفة ما في خاطره وقلبه عما تم طرحه عليه من قبلهم؛ لقناعاتهم المسبقة المترسخة في أذهانهم بقدراته في معرفة خفايا الأمور والأحداث. ويبدو أن الطرح لم يأت على لسان شخص واحد، بل جاء على لسان أكثر من شخص من الزُوَّار، بدليل أنه لم يحدِّد اسم شخصٍ محدَّد، بل يكرر في كل مرة “قال بعض المحبين” التي وردت 28مرة، عند طرح المسائل على (الحبيب) أثناء اللقاء، ووصفهم بالمحبين، تدل على حبهم وطاعتهم له دون تردد أو اعتراض أو عصيان.

    – استهل الزوار عند دخلوهم على (الحبيب) الإفصاح عن أحمالهم الثقيلة، ويقصدون بذلك الذنوب، بغرض التطهُّر منها بين يديه، فبارك وصولهم، ومنَّاهم بمغفرة الذنوب لهم ولوالديهم ومن أوصاهم، كبيرهم وصغيرهم، ذكورًا وإناثًا. وفي ذلك ادعاء الخصائص الإلهية، بمقدرته على مغفرة ذنوبهم، والله تعالى يقول: {ومَنْ يَغْفِرِ الذُّنُوب إلاَّ اللَّه}، بل وأكَّد لهم أن مَنْ وصل وأقبل إلى عينات أقبل على الله. إذ قال: “من وصل هنا، وأقبل إلى هنا، أقبل على الله“. فأوهمهم أن من أقبل إلى عينات فكأنما أقبل على الله!!.

    – وعن ما يخطر ببال (الحبيب) عن السلاطين، آل هرهرة (سلاطين يافع) وآل الرصاص (سلاطين البيضاء)، ذكروا له أنهم مساعدون لآل العفيفي في العمل الذي قام به، لقولهم: “لأن آل عفيف الذي قاموا بهذا العمل والمساعدين له آل هرهرة وآل امرصاص، هم القفل والباب، إذا صلح القفل والباب صلح البيت، وإذا بطل الباب والبيت دخل السارق واللصوص”، لكن الوثيقة لم تذكر طبيعة هذا العمل المُشار إليه في حديثهم، ولعل في تشبيه آل هرهرة وآل الرصاص بالقفل والباب، تذكيرًا بموقعهم المتقدِّم في مركز المواجهة الأمامية، أي: على خطوط التماس مع جيوش الزيدية. ويبدو مِنْ طَرْحِهِمْ هذا أن هناك -ربما- غَيرَة من مكانة سلاطين آل عفيف في القارة، الذين سطع نجمُهم في مقاومة الزيدية في عهد سلطانهم معوضة، ورفع من مكانتهم لدى عينات.

    – لكن المنصب أشاد بمكانة آل العفيفي ومواقفهم في كسر شوكة الزيدية، قائلًا للمحبين من الزوار: “إن الإقامة ما هي إلا بأهل هذا البيت لمعوضة“. ويقصد بذلك معوضة بن محمد بن معوضة بن عفيف، الذي قام بالثورة ضد الدولة القاسمية الزيدية، وطرد عاملَها صلاح بن مسمار الأهنوم في نهاية شعبان 1092هـ/ سبتمبر1681م، بعد أن هاجم مراكزها في “القارة” و”مسجد النور” فاستولى على ما فيها من أموال وعتاد، ثم جهز حملة أخرى في شوال من العام نفسه لطرد الحسين بن حسن ومن معه من الجنود من حصن “الخَلَقة”، آخر معاقل الدولة القاسمية في يافع، وبعد تلك الانتصارات التي حقَّقها معوضة بن محمد بن العفيف استقلت يافع بعد أكثر من عشرين عامًا من سيطرة الدولة القاسمية، فأصبح معوضة منذ تلك السنة (1092هـ) أول سلطان للسلطنة العفيفية في يافع، وخاض عدَّة مواجهات لاحقة مع الدولة القاسمية حتى وافاه الأجل في 13رمضان سنة 1104هـ/ 17مايو1693م([6]).

    – وذكَّرهم (الحبيب) بأن وفاة السلطان معوضة أثارت مطامع الدولة القاسمية؛ للسيطرة على يافع مجدَّدًا، وأنه لـمَّا مات معوضة قام الإمام يريد أنه يدخل عليهم، ووقعت لموت معوضة (شدّة)، وبعد موته كان الخير في قحطان، وكانت الكلمة إليه، وهو الذي خاض مواجهات كثيرة ضد جيش الدولة القاسمية في العر وأبين ولحج وعدن. ويبدو من حديث الحبيب أن السلطان قحطان قد واجه إشكالية عندما تقلَّد زمام السلطنة خلفًا لوالده([7])، حتى تدخلت عينات وأخذت المحبين باللطف والبَصَر، بدليل قول (الحبيب): “وقد أخذنا المحبين باللطف والبصر، حتى دخلوا في الطاعة”… وأبدى (الحبيب) ارتياحه لجمع الكلمة، وإقبال الجميع إليه شاكرين بعضهم لبعض، إذ قال: “اليوم الحمد لله لا يقبل إلينا آل هرهرة إلا وذكروا لنا نشكر إليكم آل امرصاص، ولا يجي من آل امرصاص إلا وذكروا نشكر إليكم يافع؛ فهم تجملوا معنا، فعرفنا أن هذه القدرة التي جمعت الكلمة”. وأوصاهم بالرفق بالضعيف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجنب مال المؤمن لأن ماله كَدَمِه…” إلخ.

    – سألوه عن (أهل الحد)، وهم حد يافع المواجه لمناطق سيطرة الإمام الزيدي. فقال الحبيب: “إن ما يروح على الإنسان شيء إلا وهو مكتوب عليه، لعل العوض يحصل له بما هو أحسن منه، مكتوب على كُلّ حبَّة لآكلها”، ومن إجابته نستنج أن أهل الحد تعرضوا لضررٍ ما، فطمأنهم بحصول العوض لهم عن ذلك الضرر، الذي لا نعرف كنهه.

    – سألوه عما يحصل أثناء النزاعات أو الفتن ممن أطلقوا عليهم (أهل الجهل)، الذين يلجأون إلى عَقْر بقر خصومهم وغنمهم، بقطع قوائمها، وهل يجب على من عرف خصمه أن يرد بمثل فعله بعقر ماشيته لقوله تعالى: [فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه]. فرد عليهم بأن لا يفعلوا ذلك، مُذكِّرًا إيَّاهم بأن أسلافه قد اعتنوا بهذا الأمر بدءًا من الشيخ الكبير أبي بكر بن سالم، وصولًا إلى جده لأبيه الحبيب أحمد([8]). ولكي تطمئن قلوبهم قالوا له: “يا حبيب أحمد أنت خصمه في الدنيا والآخرة”. فرد بالإيجاب.

    – طرحوا على (الحبيب) موضوع الأخدام، والمقصود بذلك الأشخاص المكلفين بخدمة عينات في جمع العشور في مناطق يافع، وهي الكأس العاشر من محاصيلهم، ويبدو أنه حصل من بعضهم تقصير أو تلاعب في مهمتهم. فردَّ عليهم بأنه قد وضع عليهم مراقبًا من آل هرهرة (شارح آل هرهرة)، يُشرِفُ على أدائهم، منذ عهد الشيخ الكبير أبي بكر بن سالم والشيوخ الأولين للشيخ علي هرهرة، وأن الشيخ علي بن أحمد هرهرة قد قام بمقام عينات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن تخاصم قام عليه، وعليه أن يحدد معالم المشكلة (يَعلِمْ) والقُدرة ستلحق العقاب (تكوي)، ثم يرجو من (القدرة) أن تهدي الناس جميعًا لدفع الكأس العاشر، قائلًا: “لأن ما نأخذ العاشر إلا باللطف والطاعة والصبر والمعروف”. وفي قوله هذا حث وتأكيد على وجوب تسليم الكأس العاشر من كل منتوج من الحبوب أو البُن. وهذه المسألة شغلت من حديثه الكثير مقارنة بغيرها، بل وذهب إلى تشبيه العلاقة بين يافع وعينات بعلاقة الولد بوالديه، لقوله: “ألا تبصرون الولد أول ما يتعلق بأُمّه فكبر التربية، فتعلق بأبوه، فكبر الولد فتعلق بالله وعرف به، ومن عرفنا هنا عرف الله”، والفقرة الأخيرة هي (بيت القصيد) الذي يريد أن يقنعهم به، فمن عرف مناصب عينات عرف الله، فساوى بذلك بين معرفتهم ومعرفة الله. ثم أشار إلى أن ما يلحق الولد من عقوق لوالديه لم يكنْ إلا بسبب عدم تلطف الوالد بالولد وإكراه الوالد له، فمتى أحسن الوالد إلى ولده وتلطّف به خرج الولد بارًا بوالديه؛ لأن وصية الله بالولد [يوصيكم الله في أولادكم]، وقول الله بالوالد وبالوالدين: [ولا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما]. ثم يقول: “ونحن كذلك ما نأخذ الناس إلا بالمعروف”، وكأنه يوصيهم بأن يعاملوا مناصب عينات بمرتبة الوالدين، ولا يجب أن يُقال لهم: (أُفٍّ)، وأن مخالفة ذلك مُنكرٌ، يصدر من جاهل، لا يعرف قدرهم ومكانتهم، وينبغي النهي عن ذلك المنكر، ومن لم يستطع نهيه فـأنه عار عليه، ويكون عونًا للجاهل. ويؤكد على وضع حقهم المستحق من (العشور) جانبًا، وكأنه هنا يستعيد ما قاله والده: “وأما حقنا، قال الحبيب علي: اطرح حقنا على جنب“، وهذا الحق لا يشمل فقط الكأس العاشر من جميع أنواع المحاصيل الزراعية، بما فيها البُن، بل يشمل أيضًا النذور والهبات النقدية ونحوها.

    – ولـمَّا كانت ليلة الوقوف في عرفات خرج الحبيب يطوف حول بيته، وكأنما يؤدي مراسيم الطواف بمكة وليس حول بيته، فاستقام له بعض المحبين على باب البيت وقال لهم إنهم سيدخلون الباب غدًا قبلَه جميعًا، مَنْ حضر منهم ومن غاب وأهلهم وعيالهم ومن أوصاهم صغيرًا وكبيرًا وذكرًا وأنثى. والمقصود هنا بالطبع (باب الجنة).

    – وفي ليلة عيد الأضحى، وحجاج بيت الله واقفون على عرفات، كان الزُّوَّار واقفين بباب بيته في عينات، راجين أجرًا كأجر الواقفين بعرفات، فضَمِن لهم (الحبيب) أجر الواقفين بعرفات، وساوى بين الوقوف بباب بيته والوقوف بعرفات، بل وأَجزَمَ أن (البيت يدور بباب الشيخ سبعًا)، وكأنما سعى بين الصفاء والمروة، وفي ذلك مغالاة وادعاء قدرات خارقة، ومثل هذا الاعتقاد نجد له نظيرًا لدى بعض (الأولياء) في يافع ممَّن ينسبون لهم كرامات مماثلة، كأن يسافر قاطعًا الطريق إلى الهند أو خُرَاسان ويعود في اليوم نفسه([9]).

     – وضمِن لهم (الحبيب) حصول العوض عن فراق أهلهم وأولادهم وعيدهم، ردًّا على سؤالهم: “إنا فرقنا عيالنا وأهلنا وعِيدنا وجينا عندك، نريد العوض غدًا”.

    – كما ضمِن لهم أجر تعب الطريق ومشقته في الوصول إليه باحتسابه لكل خطوة خطوها بعشر حسنات في المجيء وفي الرواح، لهم ولأهلهم ولمن أوصاهم صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى.

    – وحينما سألوه عن الطفل الصغير إذا وقعت فيه شوكة أو أدنى شيء. رد بإجابة غامضة يعلمهم أن شمس عينات تشرق على البعد وتفيء على حضرموت، فكيف يخافون!!.

    – وعن ما بخاطر (الحبيب) مع سلاطين يافع، شبههم بالركن، فإذا استقام الركن استقام البيت. وقال: هم محفوظون!!.

    – أما عن خاطر (الحبيب) من الدولة، فقال: “ما عاد جعلهم إلا للسلاطين لأجل يخرجوا منهم، وإلا ولا عاد هناك شيء أبدًا”. ومن غير الواضح ماذا يقصد بالدولة… لكن الأرجح أنه يقصد الدولة القاسمية، التي لم يعد لها نفوذ بعد طردها من قبل سلاطين يافع وآل الرصاص والفضلي واستقلالهم عنها. وقد تمنى خروج الدولة في أبين بقوله: (على الله عسى وخرجوا على بصر؛ لأن خروجهم تسكين للضعيف).

    – طلبوا من (الحبيب) الشفاعة في عيد الأضحى لهم ولأهلهم ولمن أوصاهم صغيرًا وكبيرًا ذكرًا وأنثى، فضمِن لهم ذلك بقوله: “يحصل لكم ولهم”.

    – جاء في قول (المحبين) أنهم قد نظروا (الحبيب) عيانًا بيانًا، فهل سيكونون بذلك كمَنْ نظر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟، واستشهدوا بقول الرسول ولم أجد له سندًا: “من نظر إلى جسدي خرج جسده من النار”. فقال الحبيب: “وأنتم كذلك؛ لأن بعض الناس ينظرون إلى جسد والسر رباني”. وفي قوله هذا يساوي (الحبيب) بين من نظر إلى الرسول ومن نظر إليه، وإقرار منه بحديث لا صحةَ له، ربما كانت عينات مصدره لترسيخ اعتقاد المحبين لهم بكرامتهم.

    – طلب منه محبوه أن يَفْسَح لهم في ذلك اليوم في أداء (الـحَـفَّة) تعبيرًا عن سرورهم بوجودهم في حضرته. والحفَّة رقصة البرع اليافعي الشهيرة، ومكان أدائها يسمى (الـمَحَف). فسمح لهم ورأى فيها تعظيمًا لشعائر الله، وإرهابًا للعدو، وشبَّهها بدخول الرسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ومن معه من القوم “أمراض وصحاح”، (حتى يراهم العدو ويرتهب).

    – أما تعبهم في السفر مع قلّ الماء. فقال لهم (الحبيب): إذا معكم الماء لسباركم([10]) اسقوا قراشكم([11]) منه واسقوا إلى حد الكلب، ولا تسقوا قاطع الصلاة إذا هو معكم، وتيمَّمُوا بالتراب للصلاة.

    – وعند طلبهم كرامةً لهم ولأهلم ولمن أوصاهم. قال (الحبيب) لهم: “أمَا علمْتُم أنَّ جلسة ساعة بين يدي ولي كمثل عبادة سبعين سنة“. وفي قوله هذا غلو وتضليل لهم؛ لزيادة تعلقهم به وبالجلوس بين يديه طمعًا بزيادة الأجر، فكيف بمن جلس بين يديه ساعات وأيامًا وأشهرًا، كم سيكسب من الأجر؟!!.

    – وعن ما بخاطره مع (السلاطين والعُقَّال)، قال إنه لن يكون عاقل أو سلطان إلا ومعه عقل أربعين رجلًا؛ لأن كُلًّا مسؤول في رعيته. وفي ذلك تأكيد منه على أن يتحلَّى أولو الأمر من السلاطين والمشايخ (العُقّال) بالعقل والحكمة تجاه رعيتهم.

     – وطمأنهم أن لا خوف على أهلهم وعيالهم بسبب بُعدهم بقوله: يحصل لهم الأجر؛ لأنهم كفوكم وأنتم كفيتموهم هنا.

    – وعن آل هرهرة، أكد (الحبيب) على أن مكانتهم قد وضع أساسها (وثَّرها) لهم الشيخ علي هرهرة، منذ أن أرسله الشيخ الكبير (أبوبكر بن سالم) مرشدًا دينيًا، وقال له: “أنت أَعْلِم وأنا أَكْوِي“، أي أن عليه أن يحدد مكان الألم أو المشكلة ومهمة الشيخ أبي بكر وضع الميسم (المكوى)، والمقصود أن يضع الحل لكل مشكلة. ورأى (الحبيب) في (ناصر) البركة، ويعني بذلك السلطان الصالح ناصر بن صالح هرهرة، الذي خلف والده بعد وفاته سنة 1116هـ، ولأنه كان ورعًا وزاهدًا في الحكم، فقد تنازل لأخيه السلطان عمر بن صالح بن هرهرة. وهذا الأخير هو ما قصده الزُّوَّار (المحبُّون) بقولهم للحبيب: خاطرك مع عمر، أنه يثب بالحرب، أي إنه شجاعٌ، ومقدام، وصال وجال، ووثب وكر في المعارك، وقد كان كذلك؛ فهو الذي اتجه عام 1116هـ على رأس قوات مؤلَّفة من ستة آلاف مقاتل من يافع إلى حضرموت استجابة لاستغاثة منصب (عينات) للقضاء على نفوذ الإمام المهدي، ومحاربة السلطان عمر بن جعفر الكثيري، الذي خضع لسلطان الإمامة واستعان بجنودها في حكم حضرموت، وقد استولى السلطان عمر بن صالح هرهرة على جميع حضرموت، وطرد منها قوات الإمام، وعاد إلى يافع عام 1119هـ. وفي العام التالي 1120هـ هاجم بقوات قِوَامُها 20 ألف مقاتل من يافع وحلفائهم من المناطق المجاورة مدينة (إب)، وألحق هزيمة نكراء بقوات الإمام المهدي، صاحب المواهب، وقضى على القوة التي أرسلها لتعزيز جيشه وعاد منتصرًا إلى يافع([12]). وقال (الحبيب): إن السلطان عمر بن صالح: “محفوظ”، وطلب أن يتركوا ضعف اليمن وضعف أبين وضعف الحد لأن مال المؤمن كدمه، ولم نعرف ما قَصَدَ بذلك. 

    – كما أشرك (الحبيب) المحبين في ثواب الواقفين في عرفات، وزادهم تطمينًا أن الواقفين هناك في عرفات، يقفون على حصى، فيما يقفون في عينات على فُرُشٍ، وكأن في ذلك أفضلية لهم مع مساواتهم في الثواب مع من يفترش الأرض في عرفات، وقال: “ومن جاز هنا جاز([13]) هناك”، أي إن الواقف في (عينات) كالواقف في (عرفات).

    – كما طمأنهم أن لا خوف على أهل بلدتهم (المحبين)، طالما أن شمس عينات أشرقت على البُعد… فكيف يخافون!!.

    – واختتموا حوارهم بطلب الهدية للمحبين. فطمأنهم برضاه عليهم ودعائه لهم قائلًا: رُدُّوا عليهم السلام، ونحن راضين عليهم وأدعي لهم، وعلى الله القبول والحمد لله رب العالمين.

الخلاصة:

    – تعود هذه الوثيقة إلى عهد منصب عينات أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم (1142-1177هـ)، وهي وثيقة صادقة، لا يرقى إليها الشك؛ لأن خبرها امتزج بمشاعر الحُبِّ من محبين يُجِلُّون ويُوَقِّرُون مناصب عينات، بل ويُنَزِّهُونَهُم. وربما كان باعث تدوين ما دار من حوار بين (المحبين) و(الحبيب) حرصهم على حفظ محتواها وإيصاله إلى محيط أوسع في يافع، ممن ينتظرون عودتهم بشوق، للاطلاع والأخذ بتعاليم (الحبيب) ونصائحه والابتعاد عن ما نهى عنه، وتبشير الأهل والأصحاب ممن أوصاهم صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، بما أغدق به عليهم من رصيد الأجر والثواب ومغفرة الذنوب!!.

    – تعكس الوثيقة في مضمونها بصورة جلية طبيعة العلاقة بين يافع وعينات، التي يصحُّ وصفُها بــ(علاقة التابع والمتبوع)؛ إذ تكشف لنا تعلق اليافعيين -في تلك الفترة- دينيًا وروحيًا بمناصب عينات، والعودة إليهم كمرجعية دينية في شؤون دينهم ودنياهم، واتباع ما يصدر عنهم من تعليمات وأوامر دون اعتراض، والسعي لكسب رضاهم، وكأنهم بذلك يرضون الله ورسوله، وقد صوَّرت بتلقائية علاقة التبعية الروحية من محبين يعتقدون ببركة عينات ومناصبها، لذلك كان وجهتهم في عيد الأضحى؛ لاعتقادهم بأنها أفضل الأيام للتطهُّر من الذنوب، وطمعًا بزيادة البركة، والفوز بالأجر ومغفرة الذنوب، والتزوُّد بما يغدق عليهم الحبيب من بركاته وتوجيهاته، ولا شك في أنهم غادروا عينات بنفوس راضية، لشعورهم أنهم تطهَّروا من الذنوب الثقيلة، وعادوا منها محمَّلين بالحسنات التي احتسبها لهم (الحبيب)، ولم تغادر أسماعهم أقواله: من عرفنا هنا عرف الله..أمَا علمْتُم أنَّ لكم بكل خطوة عشر حسناتأمَا علمتم أنَّ جلسة ساعة بين يدي ولي كمثل عبادة سبعين سنةومَنْ جازَ هنا جازَ هناك...إلخ.

    – تبين لنا الوثيقة أيضًا كيف استغل مناصب عينات مكانتهم وتأثيرهم الروحي في أتباعهم، المحبين لهم في يافع؛ لترسيخ أوهام كثيرة عن كراماتهم وقدراتهم الخارقة، التي تزيد من تعلّقهم بهم، وتقربهم إليهم بالسمع والطاعة، والإيفاء بإيصال النذور والهبات، وتهديد مَنْ يُقَصِّر بأدائها بالويل والثبور… إلخ. ومثل هذا التوجه لمناصب عينات نجده كثيرًا في مراسلاتهم إلى يافع، التي ترفع من قدسية سلفهم الشيخ أبي بكر بن سالم ونجله الحسين، وأن من كان معهم كان الله معه، ومن أخلص معهم شكر الله سعيه، وأجزل خيره، وكثّر الله ماله وأولاده، ومن خالف كلامهم فيا وَيْلَهُ منهم، ويخسر ويندم، ولا يبلغ لا مطلوبًا ولا مقصودًا؛ لأن كلامهم -كما يزعمون- ما يخرج من لسانهم إلَّا وقد أخرجتْه قدرةُ الله ربنا، ويا وَيْلَ من خالف القدرة. وقد وجدتْ مثل هذه التعبئة أرضيةً لها في يافع، وترسَّختْ في اعتقادات كثيرين([14]).

    – وبقدر حرص مناصب عينات على تعزيز نفوذهم الروحي ورفع مكانتهم في نفوس أتباعهم، فقد كانوا حريصين أيضًا على توجيههم في أمور دنياهم، وتوحيد كلمتهم، وحل أية خلافات قد تنشأ بإصلاح ذات البين؛ لأن استقرار مناطق يافع وأحوال أهلها من شأنه أن يعود على عينات بالمنافع، وتدفُّـق النذور والهبات إلى خزائنها، وكذلك تجنيد المقاتلين إذا لزم الأمر؛ لنجدة عينات أو حضرموت إذا لزم الأمر، وحملة السلطان عمر بن صالح لطرد الزيدية من حضرموت خير مثال.   


** أ.د. علي صالح الخلاقي .. أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية .. جامعة عدن

[1] – هداية الأخيار في سيرة الداعي إلى الله محمد الهدار، حسين بن محمد الهدار ص 439، وكذا صحيفة (الأيام) 13 نوفمبر 2003م، العدد (4024).

[2] – انظر: الموسوعة اليافعية، نادر سعد عبادي بن حلبوب العُمري، م/1، ج1: ص82-83.

[3] – مُدَرَّب: مُحاط، أو محمي، والدّرب في لهجة يافع هو السور المحاط بالبيت ونحوه.

[4] – يقصد به الشيخ أبوبكر بن سالم، ففي لهجة يافع يُستغنى عن الهمزة في بداية اسم “أبو بكر” وعن الراء في نهايته ويُنطق “بُوبَك”، ومن ذلك قولهم “بوبك للعدود”. كما تُسمى مدينة بني بكر، كبرى مدن يافع “بَنِيبَك”.

[5] – انظر مؤلفه “إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، دار المنهاج، 2005م، ص 982.

[6] – انظر: صلاح البكري: في شرق اليمن يافع، ص. د. محمود علي محسن السالمي: السلطنة العفيفية، دار الوفاق-عدن، ط1، 2014م، ص 137. فيما يرجع أحمد فضل بن علي محسن العبدلي وفاة السلطان معوضة إلى سنة 1114هـ (انظر: هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ/1980م، ص 107).

[7] – يذكر العبدلي أنه في 2 شوال من سنة 1114هـ اجتمع السلطان قحطان والسلطان صالح بن هرهرة والسلطان أحمد بن علي الرصاص والسلطان منصر بن صالح العولقي في العر وحسموا الخلاف الحاصل بين السلطان قحطان والسلطان أحمد بن علي بخصوص أطراف أبين (هدية الزمن، ص107).

[8] – الحبيب أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم (خلف أباه وتولى المنصب بين سنة 1069- 1111هجرية).

[9]– على سبيل المثال، الولي عبدالله عاطف الخلاقي، كان الناس يتبركون بضريحه في مسقط رأسي.. وجاء في قصيدة للشاعر صالح سند توجه بها إلى الشيخ عبدالله في حياته معترفًا بكراماته قائلًا: [انظر: د.علي صالح الخلاقي: صالح سند… خير من نشد،2006،ص 48-49]

وبعد يا مُرسلي شد السفر عاني وشل ذا الخط من ذي شرَّف اقواله
قرية خُلاقه وخُص الشيخ بالغالي بن عاطف الجيد ما حد ماثل امثاله

لا سار لا الهند والاّ لا خُريساني خَذْ بالطُرق يوم للسيره ترحاله
ويوم ثاني رجع وانّه بلوطاني ولا يخابر تقول الناس ما قاله

[10] –  سباركم، من السَّبَار: الاحتياج اليومي من للاستهلاك سواء من الماء أو الطعام.

[11] – القُراش: الحيوانات الأليفة.

[12] – محمد علي دبي الشهاري: اليمن في ظل حكم الإمام المهدي المعروف بـ(صاحب المواهب)، صنعاء، ط1، 2008-2009م، ص186-187.

[13] – جازَ الموضعَ/ جازَ بالموضع: سلكه وتركه خلفه، سار فيه وقطعه (معجم اللغة العربية الماصرة).

[14] – تأكيدًا لذلك، لعله من المفيد أن نورد -على سبيل المثال– بعض ما جاء في رسالة منصب عينات أبي بكر بن أحمد بن سالم بن الشيخ أبي بكر بن سالم (1242 ه‍/ 1261 ه‍) التي بعث بها من عينات إلى بني بكر سنة 1244هـ، إلى كل من: الفقيه عبد الحبيب بن أحمد حيدر والشيخ عبدالله بن عوض دينيش وكافة المحبين بني بكر والمحب محمد صالح، ومما جاء فيها لتعظيم مكانة عينات ورفع شأنها ومكانتها قوله: “صدرت الأحرف من محروس عينات، بندر صالح الدعوات، بصلاح الحالات، وإنزال البركات، وإسبال الرحمات، وحفظ الثمرات، وكفاية البليات، ويصرف الله عن الجهة منحي الأذيات، ويكثر الله الخيرات، ويصلح النيات، ومعتنين بكم غاية الاعتناء، ومعكم ظاهرًا وباطنًا، ولا نغيب عنكم طرفة عين، لأنكم الخلاصة لنا، والعلاقة بنا، الأول بالأول، والتالي بالتالي، ومن كان معنا كان الله معه، ومن أخلص معنا شكر الله سعيه، وأجزل خيره وكثّر الله ماله وأولاده، فأوصيكم بإخلاص النية وإقواء العقيدة والتمسك بالإنذار يحميكم الله آناء الليل وأطراف النهار، وعليكم بالبركة والود للمسانح المبارك يخلف عليكم بجميع المطالب والمقاصد وصلاح الأحوال باطن وظاهر، وكتابكم العزيز وصل وبه الأنس الوافر النعيم حصل، وحمدنا الله على عافيتكم وصحة ذاتكم، وانتظام صنعاتكم، ورخاء أسعاركم وفهمنا ما شرحتوا الجميع وتذكر أن ربنا من بالرخاء وأبذل الفضل والماء، فنسأل الله الكريم أن يفضل عليكم بخيره العميم وضاه الجسيم وتدوموا في خير وسرور وأنسٍ وحبور وما أرسلتوها اثنعشر القرش بيد المحب الخلاصة حيدر عبدالله وصلت تقبل الله منكم وأخلفها عليكم بجمال الحال وصلاح الذرية والعيال وكثرة الأموال والزيادة في جميع الأحوال والله الله عرفوا المحبين بالإخلاص والوَدَا الإخلاص الإخلاص يا محبين الدّرك على الله ثم عليكم …”.

   ثم يواصل الترغيب والترهيب بقوله: “وتذكرون أن عرضتنا على المحبين الجميع وطربوا بها في الأسواق فهذا حسب الظن فيهم وعرضنا عليهم كالجبال الرواسي، فمن قبلَهَا سَعُد وظفر ونال كل مطلوب ومقصود، ومن خالف كلامنا فيا ويله منا ويخسر ويندم ولا يبلغ لا مطلوب ولا مقصود، وكلامنا ما يخرج من لساننا إلَّا وقد أخرجته قدرة الله ربنا، ويا ويل من خالف القدرة، فالله الله عرّفوا المحبين في الإخلاص لنا، والاعتماد على كلامنا تنالوا جبرنا ورضانا ودعانا، جمَّلكم الله دنيا وآخرة آمين”.

   ويختتم بالدعاء التالي: “والدعاء لكم مبذول عند الصلوات والحضرات والزيارات، عند ضريح فخر الوجود، ومهد كل موجود، غوث الملا، ومدمر المخالفين الأعداء، الذي أعطاه الله النصر حيًا وميتًا، الشيخ الأكبر، والكبريت الأحمر، والكنز المدخر، ذي النور الساطع، والفخر الجامع، والسيف القاطع، والرمح القامع، صاحب الكرامات الخارقات، والأنوار الساطعات، والشموس الشارقات، والبوارق اللامعات، الشيخ أبوبكر بن الشيخ سالم والحبيب الحسين وأولادهم أهل الكثيب الأحمر والثريب الأخضر في عينات، حيث الأرض منها النور فاض، وبحرها ليس يختاض، خلوا الاعتراض، يا أصحابنا كونوا أنفاض، سيروا بانتهاض، زوروا بلاد المحابيب، يا مولى الكثيب، ترابها طب لجراح، منه المسك فاح، من شم هاتيك الأرياح، يغنم واستراح، مَرِّغ بها الخد يا صاح، إن رمت النجاح، وزُر قببها بترتيب، يا مولى الكثيب، بالعافية الضافية، والنعمة الدايمة، والكلمة العالية، والرتبة السامية، والحفظ والحماية والذرية الكثيرة القوية الصالحة والجمالة دنيا وآخرة وإنزال الخيرات والبركات وعموم الرحمات وصلاح الحالات حماكم الله خالق السموات والأرض”.[انظر صورة ونص الوثيقة كاملا في كتابنا: دولة بن مقيص في حضرموت، ط1، 2023م، ص88].