أضواء
د. رزق سعدالله بخيت الجابري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 20
رابط العدد 32 : اضغط هنا
الناظر إلى خريطة حضرموت يشاهد عددًا من المعالم الجغرافية، هناك المعالم الطبيعية التي تتنوع بين السهول الساحلية والسهول الداخلية والجبال الشاهقة والهضاب التي تكثر فوق سطحها التلال أو القور كما يسميها البعض، وبين تلك المرتفعات تكثر الأودية التي تتباين في أطوالها واتساعها، وهناك الصحاري التي تختلف طبيعتها من أرض صلبة متماسكة وأحجار صغيرة، إلى رمال متحركة ذات كثبان رملية، بعضها هلالي الشكل، والبعض الآخر كتلي وشبه دائري. وتوجد أيضًا الترب، منها الطينية والفيضية والرملية، وكذلك العيون والينابيع، وقد تفاعل معها الإنسان الحضرمي في كل حلقات السلسلة التاريخية، منذ أن استقر على هذه الأرض إلى يومنا هذا، فأنتج شكلًا آخر من المعالم الجغرافية في هيئة مظاهر حضارية متعدّدة ومتنوعة.
ستكون أُولى حلقات سلسلة المعالم الجغرافية لحضرموت المتعددة من الأودية، التي شكلت موطن الحماية للإنسان في مرحلة مبكرة من تاريخهم، وأوجدت موارد للإعاشة. أودية حضرموت كثرٌ، بعضُها أخذ حيزًا واسعًا من النشر في المجلات العلمية والثقافية، ولكن بعضَها الآخر لم يزل مجهولًا رغم تفرُّدِه ببعض الظواهر الطبيعية والحضارية عن غيره من أودية حضرموت، ولعل وادي بدش يدخل ضمن الأودية الفريدة المجهولة جغرافيًا.
يقع وادي بدش في مديرية الريدة وقصيعر، في أقصى شرق ساحل حضرموت، وينحدر من منطقة التجمع المائي للسلسلة الجبلية الساحلية لحضرموت، حيث تلتقي به في مجراه الأعلى ثلاثة أودية، وتشكل بعض الشعاب الصغيرة روافد له. يبلغ طوله بالتجمع البشري الذي على حافتَيْهِ على بعد 28 كيلومتر من مدينة الريدة عاصمة المديرية. يتميز الوادي بالضيق وانحداره الشديد في المجرى الأعلى، ولكنه يأخذ في الاتساع والانحدار التدريجي باتجاه المصب، إلى أن يندمج مع السهل الساحلي مشكِّلًا دلتا صغيرة. هذه الطبيعية الجغرافية للوادي انعكست على نمط الاستيطان والأنشطة الاقتصادية للسكان.
يظهر الاستيطان البشري على شكل قرى صغيرة على ضفتي الوادي، يتموضع بعضها في أعلى السلسلة الجبلية للوادي على ارتفاع شاهق كما في قرية الخيف، وبعضها بالقرب من بطن الوادي كقرية الردفة والجحا، وبعضها الآخر في انحدار متوسط مثل قرية صرصر وقرية العرض وقرية الرزمة.
تشكل الزراعة والرعي النشاط الاقتصادي الرئيس للتجمعات البشرية في الوادي، الذي يقع على هامش التنمية، وأهم المحاصيل الزراعية، هي: النخيل والمانجو، ومنها الذرة والموز والبطاطا والبرسيم الحجازي. غير أن مساحة الوادي الزراعية تتعرض للانكماش بسبب السيول الجارفة، فمع كل سيل يُقتَطَع جزءٌ من المساحة الزراعية، لذلك فإن مشكلة جرف التربة تأتي في مقدمة المشكلات الزراعية.
لقد كانت بداية صراع الحضارم مع الطبيعة – كما تدونه المصادر التاريخية – في الألف الأول قبل الميلاد؛ بسبب الجفاف، عندما أخل بعلاقة التوازن بين الإنسان والموارد، ولاسيما إنتاج اللبان، بعد موت أعداد كبيرة من أشجاره بسبب هجرة الحضارم، فان هذا الصراع ما يزال في وادي بدش، ولكنه صراع مع الفيضانات، الذي تحول إلى صراع مستديم، فمع كل سيل تنجرف التربة، وتتقلص المساحات الزراعية.
يبتكر الحضارم – كعادتهم – في صراعهم مع الطبيعة الحلول، فكما لجأ الأقدمون في مواجهة الجفاف والابتعاد التدريجي عن الزراعة البعلية (زراعة الأمطار) من خلال حفر الآبار الجوفية، وابتكار السناوة للزراعة، وتعويض الأرض الزراعية التي اقتطعت بسبب الجفاف. فقد ابتكر أهالي بدش بناء المدرجات الزراعية؛ لتعويض المساحة التي تجرفها السيول.
تنتشر الزراعة وخاصة في الجزء الأعلى من وادي بدش على ضفتيه في شكل مدرجات، وهذه هي الميزة التي ينفرد بها وادي بدش عن بقية أودية حضرموت؛ فزراعة المدرجات هي النمط السائد للزراعة في وادي بدش؛ إذ استطاع الحضارم في هذه البقعة الجغرافية المعرضة للفيضانات مع كل سيل أن يتغلَّبوا على هذا الأشكال من خلال بناء مدرجات زراعية، إذ كانت الأحجار أساسًا لبناء هذه المدرجات وتُنقل من بطن الوادي، وأمَّا التربة فيتم جلبُها إلى المدرجات الزراعية من مسافات بعيدة بواسطة وسائل نقل بدائية كالحمير والجمال.
هناك قنوات الري قد بُنيت على نظام هندسي دقيق للاستفادة من العيون التي تنتشر بشكل كثيف في الوادي، فقد شُقَّت هذه القنوات من منابع العيون، وهي متباينة في أطوالها، فبعضُها شُقَّ لمسافة قصيرة، والبعض الآخر شُقَّ ليمتد لمسافات طويلة، لري المساحات الزراعية في المجرى الأوسط للوادي، وقد استطاعت تلك السواقي أن تقاوم السيول الجافة، التي يتعرض لها وادي بدش، كما تنتهي بعض القنوات في أحواض لتجميع المياه، ثم إعادة تصريفها للزراعة وقتَ الحاجة.
إذا كان الري يُعَدُّ من أهم المنشآت الحضارية المعروفة في أودية حضرموت، فإن المدرجات الزراعية في وادي بدش لهي من المعالم الحضارية المجهولة، التي لم يتناولها الإعلاميون أو الكُتَّاب، ولم يذكرها واضعو مناهج التاريخ والجغرافيا في حضرموت وإدراجها كشواهد تاريخية وجغرافية شاهدة على حضارة حضرموت وابتكار الإنسان في هذه الأرض في صراعه مع الطبيعة.
هناك مظاهر طبيعية تجعل من وادي بدش واجهة للسياحة، منها النباتات الطبيعية، غير أن عين حوريت تأتي في مقدمة تلك المعالم؛ فالعين تتموضع في بطن الوادي، ومن جمال الوصول إليها الهبوط من منتصف السلسلة الجبلية الشاهقة الارتفاع إلى بطن الوادي. العين عبارة عن حفرة عميقة، في شكل كهف دائرية الشكل واسعة، ماؤها مستديم صافٍ، من سقفها تنزل المياه في شكل قطرات، عند مدخلها توجد مصطبة يمكن للزائر الجلوس فيها حيث الظل المستدام. ولكن زمن السياحة بحسب المعطيات الجغرافية يكون في فصل الصيف مع موسم الخريف، حيث تنتشر أشجار النخيل، ويمكن الزائر أن يستمتع بمظهر النخيل المثمر، إلى جانب أشجار المانجو والموز، التي تشكل مع السلسلة الجبلية مظهرًا طبيعيًا جميلًا خلّابًا.
صورة عين حوريت
أما النمط العمراني فمغاير للأنماط العمرانية في حضرموت، فـقرى وادي بدش تأخذ النمو الكتلي؛ إذ يستغل السكان مناطق الفراغات الجبلية للبناء، أو حتى على بعض السفوح الجبلية.
إذا كانت المظاهر الطبيعية والحضارية تمثل الشق الأول لوادي بدش فإن الإنسان الذي أسهم في صناعة بعضها يعد العنصر الأهمَّ، أمَّا الشق الثاني من المنظومة الجغرافية للوادي فهو العنصر البشري، المتمثل في التماسك الاجتماعي، والحفاظ على منظومة القيم الاجتماعية، رغم التحضر التدريجي، الذي أخذت مظاهره تبرز في الوادي.
أ.د رزق سعد الله بخيت الجابري .. أستاذ جامعي باحث في السكان والتنمية