أضواء
د. عبدالخالق عفيف
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 24
رابط العدد 32 : اضغط هنا
عند اشتعال شرارة الحرب العالمية الثانية قابلها الحضارم بالخوف والذعر من استعار نارها إلى الشرق الأقصى، ولكنْ سَرعانَ ما زال ذلك الخوف وعاد الناس إلى حالتهم الطبيعية؛ لأن مجرى حياتهم لم يتغير بشكل محسوس فيما توجس منه بعض الحضارم خوفًا من المستقبل ومن خطر يمكن أن يهدد حضرموت فينذر بالمجاعة وحالة من الفوضى والاضطراب يعم فيه السلب والنهب. وفي ظل تلك الأوضاع التي سادت حضرموت انطلقت رحلة محمد أحمد بركات (مراسل صحيفة فتاة الجزيرة) في الصباح يوم الثلاثاء 9 سبتمبر1941م على متن سيارة تابعة للجيش، تحمل عددًا من رجال جيش البادية الحضرمي، وضابطًا سياسيًا هو المستر جون جوبل (John Goebel) قاصدين العاصمة الكثيرية سيئون! فسلكت السيارة الطريق القبلية، أي طريق دوعن (طريق السيارات المؤدية الى حضرموت الداخل اثنتان: القبلية هذه، وأخرى شرقية تعرف بطريق الكاف نسبة إلى آل الكاف الذين أصلحوا الطريق). ومرت السيارة بالديس والمعاوص ولم تقف إلا قليلًا بجانب النويمة، التي تبعد عن المكلا خمسة عشر ميلًا. ثم شقَّت السيارة طريقها مارَّةً بقرى صغيرة بعيدة عن الطريق الرئيس للسيارات. يصف مراسل الجزيرة إعجابه بما رآه: “كنت أشاهد بعض التلال الدكناء منحوتة بشكل طبيعي، كأنها آثار فنية بديعة، خلَّفتْها وراءها تلك الأمم الغابرة التي سكنتْ حضرموت وعمرتها. ومنظر الرُّعاة البدو وأغنامهم وأنعامهم الكثيرة كان جذابًا، يلفت الأنظار خصوصًا، وقد بدأت الغزالة ترسل أشعَّـتَها الملتهبة على تلك البقاع الخضراء، التي تكتنفُها جبال دكناء جرداء، وكأنها أفريقية عارية، تقدّم بدنَها لحرارة الشمس الدافئة”.
ويصف سير السيارة على الطريق الجبلية بأنها شاقَّة، فكانت تارةً تصعد تلًا، وتارةً أخرى تنحدرُ إلى الطريق المستقيم. لا تكلُّ ولا تملُّ لولا أن عطبًا أصاب محرِّكَها فأعاقها عن سيرها بِضعَ ساعات. وبعد إصلاح الخلل استؤنفت الرحلة حتى وصلت إلى قمَّة وادي ليسر بدوعن الساعة الخامسة مساءً. ثُمَّ انحدرت إلى اليمين نحو عقبة الجحي، فكان السير فيها مُجَازفةً بسبب أنَّ الطريق ملتوية وذات تعرُّجات مخيفة، إذ يقول: “كان الناظر إلى أسفل يُخَيَّل له أنَّ الساعة آتية لاريب فيها… ولولا ما لخضرة الوادي ومنظره الطبيعي الساحر من تأثيرٍ على النفس والمشاعر، ينسى النازل من ذلك الارتفاع الهائل خوف السقوط ولقضى المرء نحبه من الخوف فقط!”.
ومع غروب الشمس وصلت السيارة إلى وسط قرية الجحي، فأخذ الجميع قسطًا من الراحة، ومن شدة التعب لم يشعر بالجوع أحد. وفضَّل الجميع قضاء الليلة في الجاحي، وتكلَّم أحد رفاق الرحلة بالمشورة إلى الضابط الإنجليزي بالنوم في قرية المشهد، التي يقيم فيها المنصب السيد أحمد بن حسن، وقدَّر لهم المسافة بين المشهد والجحي بعشرة أميال فقط، واتضح لهم فيما بعد انها تقدر بحوالي 25 ميلًا.
يبدو أنَّ الضابط الإنجليزي يقوم بالرحلة لأول مرة، فعندما غادرت السيارة الجحي المخضرَّة نحو المشهد، وبعد أن قطعت مسافة عشرة أميال، حلَّ المساء، ولم تظهر المشهد، واستاء الضابط السياسي المستر جون جوبل (John Goebel) كثيرًا، وصبَّ غضبه على الشخص الذي غرَّر بهم وقدر المسافة خطأً، وقرَّر الجميع قضاء الليلة في الخلاء، تحت تلٍّ صغيرٍ تقعُ عليه قرية الهجرين، فأنُزِلَ المتاع من السيارة، وتناول الجميعُ طعامَ العشاء وقليلًا من الشاي، ثمَّ ناموا بعد رحلة يوم شاق.
وفي الصباح الباكر تحرَّكت السيارة إلى المشهد، وكان في استقبالهم السيد أحمد بن حسن مُرَحِّبًا بهم وأخذهم إلى داره من أجل الراحة وشرب الماء. وقدَّم لهم الفطور من العسل والسمن والبيض وأرغفة من الدُّخن المحلّي، فوصف المستر جوبل الفطور: “بالمنِّ والسَّلوى“. وبعد بضع دقائق وصلت سيارة “جيش المكلا النظامي” حسب الاتفاق، فيقول بركات: “إذ كنا في الواقع منتظرينها على أحرِّ من الجمر“، ونزل منها عدد من الجنود بقيادة الضابط الهندي، فأكلوا وشربوا واستراحوا. وطلب الضابط السياسي الإنجليزي من السيد أحمد السماح باستئناف الرحلة، من أجل الوصول إلى سيئون قبل الغروب حسب ما خُطّط له في الرحلة، فأَذِنَ لهم السيد أحمد بن حسن بعد ممانعة؛ لأنه كان يريد استضافتهم لتناول وجبة الغداء، وهكذا استؤنفت الرحلة إلى سيئون.
يصف مراسل صحيفة فتاة الجزيرة الطريق من المشهد إلى سيئون: “لم تكن الطريق هذه المرة بأحسن من الأولى، إلا أنها تختلف عنها بكونها رملية“. وكثيرًا ما تتوقف السيارتان لساعاتٍ لتنفيس الهواء من العجلات من وقت لآخر؛ حتى تمر بسهولة في الكثيب.
وصلت السيارتان أول حد من حدود القطن – التي سيطر عليها بعض من قبائل يافع –ويصف المراسل القطن قائلًا: “ليست بلادًا كبيرة واسعة المساحة، ولكنها خصبة، وبها من النخيل الشيء الكثير“. ولم تتوقف السيارتان فيها إلا خمسَ دقائق لتعبئة الخزانات بالماء. ثم استأنفت السيارتان رحلتهما بين أشجار النخيل باتجاه مدينة شبام، الواقعة في الشمال الشرقي من القطن دون توقف لوجبة الغداء؛ إذ وصلتا إليها في الساعة الخامسة مساءً. ويصف مراسل فتاة الجزيرة شبام بأنها “مدينة مربعة الشكل، محاطة، يظنُّها الرائي من بعيد دارًا واحدة! ويقال إنَّ عدد بيوتهم لا تزيد على500 بيت، وهي مركز تجاري مهم بالنسبة إلى داخل حضرموت”. ولم تتوقف السيارتان فيها؛ إذ واصلتا الرحلة بين القرى الصغيرة ولم يستطيع وصفها لشدة الظلام فيها مرورًا بالطرق الواقعة في الجهة الغربية لغرفة ابن عبدات دون المرور وسطها. ويصف الغرفة قائلًا: “هي عبارة عن مدينة صغيرة – إن سموها مدينة -، واقعة تحت هضبة تطل عليها من جهة، ويحيط بها سور مرتفع“. ويُرجَّحُ سببُ عدم مرور السيارتَيْنِ بالغرفة يعود إلى حالة العِدَاء القائمة بين ابن عبدات والسلطات الحاكمة.
وتواصل الرحلة السير في المساء، وماهي إلا مسافة قصيرة حتى ظهرت مدينة سيئون بأضواء السيارتَيْنِ بعد يومين من السفر.
خلاصة الرحلة المضنية ليومين من السفر من الساحل إلى الداخل أنها تعطيني صورة جميلة عن طبيعة حضرموت الخلَّاب،ة بتضاريسها الرائعة، وحالة الهدوء والسلام والاستقرار الاقتصادي، الذي لم يدمْ طويلًا حتَّى حلَّت المجاعة في حضرموت عام 1943م.
*بموجب تجديد المكاتبة القعيطية- الكثيرية لسنة 1918م في مارس 1939م التي وضعت السلطنتَيْنِ تحت تكوين إقليم واحد يعرف بحضرموت؛ Records Of Yemen.VL9.1933-1945.pp243-245