أضواء
شهرزاد قاسم حسن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 27
رابط العدد 32 : اضغط هنا
ترجع تجربتي الميدانية في التعرف على الحضارة الموسيقية للقسم الجنوبي من اليمن إلى الفترة الممتدة من أواسط الثمانينيات إلى تسعينيات القرن الماضي؛ إذ قمتُ بزيارات إلى حضرموت الداخل والساحل إضافة إلى مدينة عدن. في هذه الزيارات تعرفت على أنواع مختلفة من الغناء التقليدي للمنطقة، والأمر الذي ساعدني في اختيار نماذج مختلفة منه للتعريف بحضارة حضرموت الموسيقية، والتي طبعت من قبل اليونسكو في قرص مضغوط عام 1998م([1]).
في تلك الفترة كنت أعمل على التعرف على التقاليد الموسيقية في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية، كقطر والبحرين والإمارات وعمان، ثم سوريا والعراق في الشرق الأوسط. وعند زيارتي الأولى للوادي عام 1985 أثارت جلسات الدان التي تعتمد الارتجال الشعري الجماعي الذي يُؤَدَّى غناءًا- انتباهي؛ لأني لم أجد لها شبيهًا في المناطق العربية التي زرتها، وشعرت وكأني عثرت على كنز، يمثل امتدادًا لأداء الشعر المُغَنَّى، والذي عُرِفَت به الجزيرة العربية منذ العصور السابقة للإسلام، وليس ذلك مستبعدًا بحكم الموقع الجغرافي للوادي، الذي يسهل عملية تناقل تقليد جذوره ممتدة بعيدًا.
ثم إن ما لفت انتباهي هو الاهتمام الفائق الذي يكنّه الحضارمة رجالًا ونساءً بكل أعمارهم وانتماءاتهم الاجتماعية لهذا النمط الشعري الغنائي، حفظهم لأشعاره وغناؤهم له، أضف إلى معرفتهم بأسماء شعرائه، ومغنِّيه وملحِّنيه، الأمر الذي لم أجد له مثيلًا بهذه الكثافة والدقة في منطقة أخرى من العالم العربي. فقد وجدتُ في بيوت مختلفة لرجال ونساء من طبقات اجتماعية متباينة، احتفاظهم بدفاتر يدوّنون بها أشعار الدان القديمة والحديثة.. وفي الواقع إن التمسك بتقليدٍ مثل هذا ليعبّرُ عن الاعتزاز بمكانته عند كل الذين التقيتُ بهم في مدن الوادي من سائقي التاكسي إلى البائعين في الأسواق، وإلى كبار وجهاء القوم وسادتهم، كما انعكس في تكريم رُوَّاد الجلسات ومغنِّي هذا الشعر في صورٍ كبيرة الحجم كانت قد عُلِّقت في ساحات مدينة سيئون.
لابد أن أضيف هنا أن حضرموت في الفترة التي عرفتُها، شأنها شأن عدن، كانت تهتم بدرجة كبيرة بالثقافة المحلية؛ إذ اعتمدت طباعة الكتب المؤلفة والمترجمة ما عدا وجود نشرة خاصة بالدان تسمى “حولية الدان” التي تُعنَى بمساجلات أشعار الدان، والتي كانت تصدر عن إدارة الثقافة في سيئون؛ لتوثّق كل ما ينبثق من شعر في الجلسات المختلفة كما تشير إلى مؤدّيه – خاصة الشعراء منهم وإلى تاريخهم.
ومما يثير اهتمام الباحث الذي يعمل في مجال الثقافات الشفهية هو أنه في اليوم التالي للجلسة يُطبَع كل ما ارتجل من شعر بالآلة الطابعة؛ ليدخل في سجل تراث الدان، ولينتشر بسرعة عجيبة في أرجاء الوادي، ويصل إلى الساحل، ذلك أن هذه الجلسات تعد منجمًا للإبداع الشعري، الذي يستخدم فيما بعد في غناء الأنواع الأخرى من الدان، كدان الجَمَّالة الذي يؤدى بصورة منفردة، أو دان النساء الذي يُؤدَّى في الأفراح والأعراس مع مصاحبة آلات الإيقاع، ودان الطرب الذي يُؤدَّى أمام الأصدقاء في الأماسي. والفارق لها هو أن جلسات الدان هي التي تخضع أساسًا لقاعدة الارتجال الشعري. إن ظاهرة هذا التوثيق الشعبي المستمر، لم أجد لها مثيلًا بهذه الدقة والاستمرارية في أي منطقة أخرى من مناطق العالم العربي التي عرفتُها لأي نمط صوتي أدائي.
تمثل جلسات الدان التي تعتمد المساجلات([2]) طقسًا خاصًّا بوادي حضرموت، يتركب كما عرفتُه([3]) من أجزاء تجري وفق أصول، يعرفها حاملوها من المؤدِّين، والتي تفرضُ عليهم سلوكًا مُعيَّنًا من الاحترام. وتتميَّز باشتراك عدد من المغنّين والشعراء، الذين يقومون بتبادل مستمر أو حوار على درجة عالية من الوجدانية أمام جمهور، يتكوَّن عادةً من العارفين أو المختصين.
ثم إن جلسات الدان تمثّل المكان الوحيد الذي وجدتُه في الموسيقى العربية، الذي يمكن للمستمع أن يكون فيه شاهدًا فيه لعملية الخلق الآني من قبل مجموعة من الشعراء لمادة شعرية، تتحوَّل حالًا إلى غناء، وهي بذلك تختلف عن ارتجال الزجل المعروفة في لبنان مثلًا، والتي لا يدخل فيها عنصر الغناء المباشر.
إن المادتين الأساسيتين المتداولتين في جلسات الدان هما، أولًا الغناء، ومن ثم الشعر المرتجل؛ وهاتان المادتان تكوّنان حجر الأساس لطقس الجلسة المكوّن عادة من عدة فصول، يتداولها فاعلون ثلاثة، وهم حسب تسلسل أدوارهم: المغني أو المغنون، الشاعر أو الشعراء، ثم الملقّن. ويمكن إضافة الجمهور؛ لأنه العنصر المتلقي والفاعل غير المباشر، الذي قد يساعد في دفع عملية الارتجال خصوصًا إذا كان ذا معرفة بالجلسات.
ورغم أنّ جلسات الدان تتميز أساسًا بالشفاهية لكنَ استخدام الكتابة عند الشعراء بعد خروج الكلمات ارتجالًا أصبح متداولًا. ونجد الكثير من الشعراء يُثبِتون على الورق كل ما يخرج من قريحتهم، كما أن الملقّن كثيرًا ما يستخدم القلم لتثبيت البيت الشعري الذي شهد ولادته، الأمر الذي يساعد في طباعته في اليوم التالي.
وأخيرًا إن الجمهور، كما كان الأمر في كثير من أنواع الموسيقى التقليدية، يكون عادة جمهورًا مُلِمًّا بالمادة و بسيرورة الطقس، كما يمكن أن يكون عارفًا بأسرار الأوزان ودرجة صعوبتها أو سهولتها، متذوّقًا للغة العربية المحلية، و للمعاني التي يتغنَّى بها الشعراء، والجمهور التقليدي هذا جمهور فاعلٌ ومساهم بطريقة مباشرة؛ فهو يعبِّر عن تجاوبه مع ما يخرج من أبيات شعرية، مُؤيِّدًا لها بحركاته أو بإشاراته أو بكلمات تشجيع تبدر منه، ووجود هذا الجمهور في الأجواء التقليدية ضروري لسير الارتجال؛ إذ لا ينجح الارتجال كواقع وكمبدأ بدون جمهور يشد ويدفع.
مجالس الدان طقس يعتمد على مراحل منظمة في توزيع الأدوار:
وإذا كانت غالب الكتابات تؤكد على أوليَّة الجانب الشعري فإن الباحث الموسيقي يجد عند مراقبة الجلسات والاستماع إلى التسجيلات بأن الأوليَّة تعود إلى دور المغنّي، الذي يمثل الأساس في تنظيم مسار الجلسات.
فالمغني هو الذي يبدأ الجلسة أو الحلقة وكل فصل من فصولها. وهو يمتلك بيده ناصية إدارتها، ويتحكم إلى درجة كبيرة بتوجيهها؛ إذ يبدأ بأداء نموذج، يحمل إشارة مزدوجة، الأولى تعني بأن الفصل سيغنى على اللحن الذي يقدمه، ومن ثم فإن اللحن المغني يحمل نموذج الوزن الذي يطلب من الشعراء الارتجال عليه. فهو بالتالي مسؤول عن وضع الأساس العملي لمقاليد الجلسة.
ولكن في الواقع أن ما يقوم به المغني أكثر تعقيدًا من ذلك؛ لأنه يمر بمراحل قبل غنائه النموذج كاملًا، الذي تعد ألحانه وأوزانها أساسًا للفصل كله فهو:
عندما يبدأ بأداء اللحن يصفر اللحن، ثم يؤدّيه بصوتٍ منخفض جدًا، أو برأس منحنٍ. تسمى هذه المرحلة النسنسة – يقال “نسس يابو فلان”، والغرض من هذه المرحلة الأولى التمكن الكامل من السيطرة على اللحن؛ لكي يتمكن من استخدامه طوال الفصل، ما دام هناك إبداع واستمرار للارتجال الشعري.
ثم يغني اللحن نفسه باستخدام كلمة الدان ومشتقاتها مثالًا على الوزن الشعري الذي اختاره، ثم يتبعه الغناء بنص شعري معروف. وفي هذه المرحلة يغيّر المغنّي من جلسته؛ إذ يرفع رأسَه واضعًا يديه على أذنه؛ لكي يركّز على سماع نفسه، أي إن رأسه يتخذ موقع الصندوق الصوتي، الأمر الذي يساعده على التركيز والانقطاع عما يحيط به، أو كما يقول أهل حضرموت: “یرن بینه وبین نفسه”؛ لأن العكس يعني أنه لن يتمكن جيدًا من الذي سيغني، وبأنه ليس غارقًا فيه يقال: “ما طلع غوا”.
كل هذه المراحل تساعد على تكرار النموذج الوزني من جانب الشعراء الموجودين؛ لكي تتشرَّب دواخلهم بالقالب الوزني. وهنا نفهم حقيقة دور المغني في إدارته للجلسة.
ذلك أن أوزان الدان كثيرة تتدرج من السهل إلى الصعب. كما أن الوحدة الشعرية للدان يمكن أن تتألف من بيتين أو تتدرج إلى ثمانية أبيات. زيادة على ذلك من خصائص الدان هو أن أبياته ليست بالضرورة متساوية الوزن، بل إن أطوالها قد تكون مختلفة الأمر الذي يعقد الأمر.
يميل غالب الباحثين المحليين إلى الاعتقاد أن لغة الدان عربية محلية، قد تكون قريبة أحيانًا من الفصحى، وإن كانت مليئة بالإشارات والرموز المحلية. ويعد بعضهم أن شعر الدان من أشعار الحميني، غير القابلة للإعراب، التي تستخدم اللغة المحلية، وهؤلاء يعدّون أوزان الدان من أوزان الشعر الحميني، ويعتقد آخرون أن أوزان الدان لا تدخل ضمن الحميني، وأن بحور الدان مستقلة.
بعد أن ينتهي المغني من أداء النموذج كاملًا لحنًا ونصًّا، مع إعطاء الوزن الشعري، تبدأ مرحلة سكون بانتظار ظهور أول بيت شعري من أي الشعراء الحاضرين، الذين يُعرَفون بشعراء البديهة، ويقصد بها الشعراء الذين يرتجلون على سليقتهم.
وهنا تكشف هذه المرحلة المهمة عن ميكانيكية الإبداع الحي، الذي يشهد له الحضور كافة، والذي يصبح به التأليف الآني والأداء فعلًا واحدًا.
فالبيت الشعري – كما تعرفون كلكم لا يخرج كله بالضرورة دفعة واحدة، فالجمهور الحاضر يشهد ولادة كلمات أو مجموعة كلمات تُدعم بتشجيعه، وقد تمر ولادة البيت أو مجموع الأبيات التي تكوّن الوحدة الشعرية بكثير من مقاطع السكوت، حتى يبدو السكوت أحيانًا ثقيلًا.. وقد يطول الانتظار عندئذٍ يتدخل المغنّي لدفع الحرج، وذلك بإعادة غناء البيت، الذي سبق أن قام بغنائه، مانحًا بذلك وقتًا أكثر للشاعر.
إن التلاحم المتين الذي يمكن مراقبته بين المؤدِّين والجمهور المحلي من المستمعين متينة، يرجع إلى انتمائهم إلى ثقافة محلية واحدة، مما يسمح بفهم النص ورموزه ومعانيه، التي قد يستعصي فهمُها على غيرهم؛ ذلك أن مواضيع الجلسات ذات طبيعة تقليدية، مستمدة من الثقافة المحلية: من رموزها وهمومها، والتي تلجأ إلى استخدام الصيغ اللغوية الجاهزة المعروفة في اللغة المحلية.
بعد أن يبدأ الدان عادةً بذكر الله، وللشاعر الحرية في اختيار موضوعه الذي يمكن أن يتغير عبر الفصل الواحد. وغالب مواضيع الدان منبثقة من الواقع الاجتماعي الأخلاقي والقبلي وهي كثيرة، لا يمكن حصرها كلها. فهناك القيم الأخلاقية للصدق والمودَّة والأُخُوَّة والشرف والحماسة، ثم مواضيع الحب والإشادة بالفضائل والجمال، إضافة إلى الارتباط الوثيق بالعالم العربي والإسلامي. ومن المواضيع الأساسية هو التطرق إلى الطبيعة وظواهرها، كالجفاف والأمطار والفيضانات وغيرها.
وخلاصة الأمر أن مجالس الدان التي تؤدى في الأماسي هي طقوس تأخذ مكانتها الفعلية في سياقها الاجتماعي الأصيل في الوادي، إذ يحصل فيها اقتراب حميمي بين رجال يشتركون في عشق مشترك، يربط بينهم، ويزيل الحواجز الاجتماعية والطبقية، التي بني عليها المجتمع؛ ليسمح للجميع بالوصول إلى حالة من الوجد النبيل، من خلال هذه الممارسة الاجتماعية. والنتيجة هو خليط من البساطة والحكمة، هي خلاصة تجربة بعيدة وعميقة، تظهر بلغة نبيلة، وبهذا تغلق الجلسة لتنشر ما جاء فيها في الأماكن البعيدة كما جاء.
جلسات الدان طقس يمسك بإنسان الوادي ليحرّره من أعباء الحياة، ولينقّي روحه، وكما يقول الحضارمة: “إذا كانت هناك ليلة يتأسف فيها الأموات لكونهم أمواتًا فهي الليلة التي تعقد بها جلسات الدان”.
بحث أُلقِي في تموز 2019 بمناسبة انعقاد الندوة الدولية عن “فن الدان الحضرمي” التي نظمتها وزارة الثقافة اليمنية في القاهرة.
[1] تحوي الاسطوانة على عشرة نماذج من الغناء الحضرمي هي دان الجمالة، دان الطرب، جلسات الدان، الخيالي العوادي، غناء بني مغرة وترحيب.
[2] يعتمد كل ما جاء في هذه المداخلة على مراقبتي الميدانية لعدد من جلسات الدان في الوادي وحتى في فرنسا، إضافة إلى لقاءات متعددة مع المختصين بالدان وبتقاليد الوادي.. إني مدينة إلى الشعراء ناصر يسلم بن ناصر وحسین عبد الله با حارثة وجعفر محمد السقاف وعبد العزيز الحدادي وحسين محمد البار، والمغنين يسلم هادي قهمان وسعيد عيضة باحشوان ومحمد بن شامخ وحسين عبد القادر الكاف والكاتب وعلي عبيد باسيف وغيرهم. وأعتذر إذا ما كانت بعض الأسماء من الذين أسدوا إليَّ المساعدة لفهم تقاليد المنطقة قد سهوت عن ذكرها إني مدينة لهم كلهم حتى أولئك الذين انتقلوا إلى رحمة الله.
[3] في اللقاء الأخير الذي عقد في القاهرة في تموز 2019 فهمت من بحث الأستاذ جيلاني الكاف أن هذا النوع من الدان يسم بالدان الحدري الاسم الذي لم اسمع به في زيارتي لحضرموت.