ترجمة
أ. نجيب سعيد باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 43
رابط العدد 32 : اضغط هنا
في البداية قدم رئيس الجلسة المحاضر قائلًا:
عندما طُلب مني أن أترأس جلسة الليلة تبادر إلى ذهني أن كل ما عرفته عن حضرموت هو، أولًا، أنه ورد ذكرها بالتأكيد في سِفر التكوين، وثانيًا، ما عَلِمته من بعض المقالات الحديثة الآسرة بقلم الآنسة فريا ستارك. وما بين سفر التكوين والآنسة فريا ستارك، كان عقلي يخلو تمامًا من أي شيء عن حضرموت. ولكن على الرغم من أنه ليس لدي معرفة شخصية بالموضوع، فإننا كلنا نعرف شيئًا عن السيد والسيدة إنجرامز وعن خدماتهما وإنجازاتهما في المجال العام. لكن الشيء الرائع حقًا، إذا استثنينا عملهما نفسه، الذي يتلقيان عنه المكافآت والتكريم عبر القنوات الحكومية المعتادة، هو تلك المحبة العظيمة التي يشعر بها الناس نحوهم على امتداد المناطق، التي حظيت بفرصة الانتفاع من رحلاتهم وخدماتهم، وليس المرء بحاجة لأن يعرف الكثير عن حضرموت حتى يصل ذلك إلى علمه. وحتى لا أطيل أكثر في الحيلولة بينكم وبين السيد إنجرامز، فإنني سأدعوه على الفور ليتحدث إلينا.
قبل عامين وصفتُ لهذه الجمعية رحلةً قمنا بها أنا وزوجتي في أنحاء حضرموت في نهاية عام 1934. كان الغرض من تلك الرحلة، التي كانت في غالبها رحلة استكشافية؛ لأن الجزء الأكبر من مسار الرحلة شمل بقاعًا لم يصل إليها الأوروبيون من قبل، هو التحري عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد، وإجراء اتصالات مع حكامها، وإعطاء توصيات لما يمكن تنفيذه مستقبلًا من سياسات في المنطقة. كانت رحلتنا تلك على هُدى زيارةٍ قام بها السير برنارد رايلي عندما كان مُقِيمًا سياسيًّا في عدن في عام 1933؛ إذ كان الرجل يفكر بجدية في مسألة وجوب القيام بشيء لخدمة الناس الذين طالبوا طويلًا بالمساعدة، وأن أي شيء لا يمكن تقديمه دون وجود موظفين سياسيين. وقد تم نشر المعلومات التي جمعناها خلال تلك الرحلة في تقرير رسمي، حمل رقم (وزارة المستعمرات رقم 123)، وفي مقالات قُدِّمت إلى هذه الجمعية وإلى الجمعية الجغرافية الملكية.
كان من ثمار تلك الزيارة أنْ تمَّ النظر في نوع المساعدة التي يمكن أنْ تُقدَّم، وتقرَّر أنه يمكن التصرف على نحوٍ ما لمساعدة السلطان القعيطي في إعادة تنظيم قواته، ولمساعدة السلطان الكثيري في تشكيل مفرزة من الحرس القبيليين على غرار المفارز، التي كانت قد أنشئت في القسم الغربي من المحمية. كما أُقِرَّتْ أيضًا بعضٌ من أنواع المساعدة الأخرى الأقل أهمية. وكان أنْ ذهبْتُ أنا مرةً أخرى إلى حضرموت لأُخبر السلطانين بما سيتم القيام به.
غادرنا عدن ثانيةً أنا وزوجتي على الباخرة (أس. أس. الأمين)، ووصلنا إلى المكلا في 16 نوفمبر، 1936، حيث قابلت عظمة السلطان صالح بن غالب، الذي تسلَّم العرش منذ زيارتي الماضية. مكثنا أسبوعين في المكلا لمناقشة الأمور مع السلطان، ورأيته متطلّعًا جدًا لتحسين إدارة بلاده، ولتوفير خدمات حديثة في التعليم، والأمور الطبية، والتنمية الزراعية، وتوسيع نطاق الاتصالات، والكهرباء، وغيرها. وأخبرني أنه يواجه صعوبةً كبيرةً من الناحية السياسية؛ لأنه لم يجد رجالًا أكفاء أو جديرين بالثقة حقًا لكي يعتمد عليهم.
صادف يوم وصولنا أول أيام شهر رمضان، فكانت غالبُ اتصالاتي مع الناس تتمُّ في الليل، ما عدا مشاوراتي مع السلطان التي كانت صباحية. وقد وجدت أن أهالي مدينة المكلا بأسرها، بالرغم من ولائهم الشديد وإخلاصهم للسلطان نفسه، كانوا غير راضين نهائيًا عن الأوضاع بشكل عام. كانت المكلا مرتعًا حقيقيًا للدسائس: كل واحد يحطُّ من قَدْرِ أي أحدٍ غيره، وجوٌّ غريبٌ من الرِّيبة يُحِيط بنا من خلال نظرات ممثّـلي كلِّ فريقٍ ممن كانوا على اتصال بنا. وبدا لي أنه من المستحيل أن أتمكَّن من تحقيق شيء ذي جدوى حقيقية وَسْطَ جَوٍّ كهذا، ولذلك تنفَّسْنا الصَّعْداء عندما سنحتْ لنا فرصةُ الذَّهاب إلى حضرموت الداخل مرورًا بالشحر. كان الوضع في الشحر، إلى حدٍّ ما، أفضل منه في المكلا، ولكنني وجدتُ هناك أيضًا كما في المكلا أصدقاءَ قدامى يخافون أن يأتوا لمقابلتي، وكان الجميع لا يجرؤون على الحديث إلا بكثير من الحذر أنْ يسمعهم أحد، إذ لم يكن أحد يعلم أي فريق لديه الفرصة الأكبر لتصدُّر المشهد.
تحركْنا من الشحر أخيرًا بالسيارة باتجاه المعدي حيث تم اتخاذ الترتيبات؛ لكي تأخذنا قبيلة البحسني مسافةً ما ضمنَ منطقتهم إلى الموقع الذي ستنتظرنا فيه السيارات القادمة من حضرموت، التي أرسلها لنا السيّدان عبد الرحمن وأبو بكر الكاف.
كان ذلك أوَّلَ تعامل لي مع قبيلة البحسني، الذين كانوا قومًا أقلَّ مستوًى بكثير، في حسن الخلق، من البدو السيبانيين الموجودين على طريق دوعن. فقد كان شغلُهم الشاغل أنْ يبتزُّوا منا أكبر قدر ممكن من المال مقابل أي خدمة يسيرة، وكانت قلَّة منهم متطرفين في فظاظتهم؛ وليس ذلك، كما أرى، ناجمًا عن غِـلٍّ حقيقي، بقدر ما أنَّ هؤلاء فئة من البدو خسيسةٌ وشديدة التخلُّف. كانوا يطلبون منا ريالًا ونصف الريال ماريا تيريزا ثمنًا لكل قِربة ماء نستعملها، وريالًا مقابل أربع حبَّاتٍ من جوز الهند. وقد اضطُرِرنا لشراء جوز الهند؛ لأننا عندما وصلنا إلى محطة السيارات في حضرموت وجدْنا السيارات لم تصل بعد. ودفعنا اثني عشر ريالًا للرسول الذي أوكلنا إليه مهمة الذهاب للبحث عنها، وعندما شُوهدت السيارات أخيرًا ألحَّ علينا الحرامي الكبير أنْ نعطيه ريالًا؛ لأنه أوَّلُ مَنْ وقعت عيناه عليها وهي قادمة في الطريق، وما دفعني لأعطيه ما طلب كان هو ضجري الشديد من ضجيجهم المستمر في طلب البقشيش بأنواعه المختلفة. وقد قضيْنا بينهم يومين ونحن نشعر بشيء من الضِّيق. كان هؤلاء القوم قد قتلوا أحد الأشخاص قبل بضع ليالٍ، وكانوا يخشون أن يتعرَّضُوا للمداهمة ليلًا، لذلك ساعدناهم في بناء حصون حجرية صغيرة ليبيتوا فيها. وعلى سبيل رد الفعل، طلبنا منهم مبلغًا مقابل معاونتنا لهم في البناء، وبطبيعة الحال لم يتقبلوا الفكرة بتاتًا.
ثم وصلت السيارات أخيرًا، وبعد أن اجتزنا بلاد قبيلة المعارّة، الذين بالرغم من أنهم مبتلَون أيضا بداء البقشيش كانوا في الأقل لطيفين، وصلنا في وقت متأخر من الليل برفقة قبيلة بن يماني، المنتمين لآل جابر. في الصباح وجدنا الطريق قد سُدَّت بحاجز من الحجارة، وإذا نحن ببعض البدو الغلاظ الذين أخذوا يطالبوننا بصخب أن ندفع لهم مئة ريال ماريا تيريزا كي يسمحوا لنا بالعبور. وبالمفاصلة خفضنا المبلغ إلى عشرة ريالات، وبلغْنا تريم في نهاية المطاف، حيث تم إيواؤنا في ڤيلا جميلة، على نمط فلل الريڤييرا، في ضاحية عيديد، بها حوض سباحة جميل، وكلُّها بمحتوياتها كانت جديدة، لمْ نرَها في زيارتنا الماضية.
كان السلطان علي بن منصور والسيد أبو بكر الكاف قد جاءا من سيئون لاستقبالنا، وسَرعان ما بدأنا العمل. وقد عبَّروا بصراحة عن خيبة أملهم تجاه ما اعتبروه عرض مساعدة هزيلًا؛ لأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يُتخذ إجراء فوري للتعامل مع عمليات النهب والقتل على الطرق الطويلة التي كانت تحدث يوميًا. كانت قد وقعت للتوِّ حادثة جِدُّ رهيبة. كان بعض المسافرين من آل كثير من سكان قرية صغيرة، تبعدُ مسيرة عشرة أيام إلى الشمال الشرقي داخل أرض المهرة، قد أتوا في واحدة من زياراتهم النادرة. وعندما غادروا سيئون في طريق عودتهم اعترضتهم جماعة من العوامر، وهم أكثر قبيلة ذات سمعة سيئة في القتل من بين قبائل وادي حضرموت الرئيس، وقتلوا منهم أربعة. لم يكن آل علي الكثيريون قد دخلوا في نزاع من أي نوع مع أحد من أهالي حضرموت، ولكن العوامر، معتقدين أنهم مهرة، قاموا على هذا الأساس بما اعتبروه تصفية ثأر لهم مع المهرة. كان هذا الالتباس بين الهُوِيَّتين مسألة واردة بلا شك، لكن ذلك لم يكن عزاءً كافيًا لأقارب القتلى.
وفي الوقت الذي كنت ما زلت فيه في تريم، وقعتْ حادثة أخرى على بعد بضعة أميال على الطريق المؤدّية إلى سيئون. فقد ذهب صائغ فضة، وهو من الطبقات التي لا تحمل السلاح، إلى قبيلي من العوامر كي يطالب بدَينٍ له عند العامري، فما كان من هذا إلا أن قتله في التو واللحظة وَسْطَ الطريق.
كانت حالة الأوضاع هذه تعد شيئًا عاديًّا، وفيما بعد عندما حلّ السلام، أجرى الناس تقديرات متحفظة، قائلين: إننا بما فعلناه أنقذْنا حياة عشرة أشخاص في الأقل في الشهر الواحد في منطقة وادي حضرموت وحدها. كان كل قبيلي هناك يمتلك سلاحًا، لم يكن من الأسلحة من الطراز القديم التي عفا عليها الزمن، بل كانت لديهم بنادق حديثة وسريعة، ومثل هذه يوجد منها طبعًا أعداد كبيرة مع البدو، تباع بأسعار تتراوح ما بين 600 إلى 1000 ريال للقطعة الواحدة، وهي أسعار كانت في متناول أيدي الأثرياء من القبيليين، الذين كوَّنوا ثروات في الشرق الأقصى.
في مثل هذه الظروف لم يكن من المستغرب أن الناس لم يتخيلوا للوهلة الأولى كيف سيقوم مئتان من عبيد السلطان، الذين كانوا دائمًا غير منضبطين، وكانوا يدخلون في إضرابات متكررة، بإحداث تغيير كبير، وهم لا يحملون من السلاح سوى بنادق ليغراس مستعملة. وكنتُ مدركًا لمدى صعوبة الوضع، وقد جئت إلى حضرموت على أمل أن يتم فعل شيء لوضع حدٍ لواحدٍ من أكبر نزاعاتها، وهو النزاع بين عشيرتي بن عبدات وبلفاس الكثيريتين.
كانت لنا أنا والسيد أبو بكر جلسات نقاش طويلة. والسيد أبو بكر هو أحد أعظم الأشخاص الذين قابلتُهم في حياتي. وقد ولد في سنغافورة، البلاد التي سافر جَدُّه إليها ليؤسس ثروات العائلة. لم تكن عائلة الكاف غنيَّةً في تلك الفترة المبكرة، وحتى في الوقت الحاضر يوجد من آل الكاف من ليسوا أثرياء، والفرع الذي يسكن في تريم وسيئون هو الفرع الوحيد من العائلة، الذي كان له نصيب من الثروة الضخمة، التي مهَّد قواعدَها جدُّ السيد أبي بكر. كان هذا قد غادر حضرموت، كما يفعل الكثيرون، إلى جزر الهند الشرقية، وحصل هناك على وظيفة كاتب. وعندما ادَّخر مبلغًا كافيًا من المال اشترى منزلًا صغيرًا وأجّره، ثم منزلًا آخرَ، وهكذا استمرَّت العملية حتى أصبحت قيمة أملاك العائلة في سنغافورة لا تقل عن مليونَي جنيهٍ أسترليني، وثروتهم في جاوا تصل إلى هذا المبلغ أو أكثر.
عاش السيد أبو بكر في سنغافورة حتى بلغ حوالي الثالثة عشرة من عمره، وعندها عاد إلى حضرموت، التي دائمًا ما كان قلبه معلقًا بها. وقد قام بزيارة أخرى إلى سنغافورة، وكانت زيارة قصيرة، وأخبرني بأن حكومة مستوطنات المضايق في تلك الفترة كانت ترغب في إجراء تحسينات على الطريق في سنغافورة، ووجدت أن ذلك يستدعي إزالة مسجدٍ يقفُ حيث ستمرُّ الطريق. ولذلك عرضت الحكومة على الأوصياء على المسجد أن تبني لهم مسجدًا آخر في موضع أفضل، ولكنْ تم إخبار ممثّلي الحكومة أنه وِفقًا للشريعة الإسلامية إذا أُوقِفَت أرضٌ معينة لاستعمالها مسجدًا فلا يجوز أن تستخدم لأي غرض آخر، فكان أن صرفوا النظر عن الأمر. وهذا الموقف من جانب الحكومة المدعومة بكامل السلطة والقوة قد أثار بحقٍّ إعجابَ السيد أبي بكر، وجعله يشعر أن الحكومة الوحيدة التي يمكن ائتمانها على تقديم المساعدة لحضرموت هي الحكومة البريطانية.
وقد أخبرني بعض أصدقاء السيد أبي بكر أنه منذ زمن بعيد كان يعتاد الجلوس على حافة الجول المُطِلِّ على تريم، ويتحسَّرُ على حالة واديه الحبيب، الذي كان يمتدُّ أمام ناظريه، وقال إنه سيبذل كل ما في وسعه لإحضار حكومة بريطانيا لتقديم المساعدة. وقد عمل جاهدًا لمدة أربعة وعشرين عامًا من أجل قضية السلام، مُنفِـقًا بل مُفْرِطًا في الإنفاق من ثروته، ولا يألو جهدًا في هذا السبيل؛ غالبًا دون جدوى مع الأسف! وذلك لأن سلاحه الوحيد الذي كان يحارب به هو المال، ولا يستطيع المال وحدَهُ أن يشتري سلامًا دائمًا.
لمْ أعهدْ قط من السيد أبي بكر أن يتحدَّث بسوء عن الآخرين، ولعل أكبر نقاط ضعفه في التعامل مع الشأن العام أنه يُكِنُّ في نفسه دائمًا آمالًا أنَّ السيئيين من الناس سيغيرون ما في نفوسهم، وفكرته هذه لا تتغير أبدًا على الرغم من الخذلان، الذي تعرَّض له مرةً بعد مرة. إنه رجل شديد التديُّن بالمعنى الواسع للكلمة؛ لأنه لا يعد شخصًا متعصبًا، وأسلوبه الخاص في التديُّن هو مما ربما يُغرِي الآخرين بأن يقلِّدوه فيه. وهو ليس ممن يهتمُّون بالتفاصيل الشكليَّة، وبالرغم من أنه صارم في الالتزام بالصلوات المفروضة والصيام المقرر دينيًا، إذ إنه هو من يذكّرُ الناسَ عادةً بأوقات الصلاة، فإنه مع خشوعه في الصلاة لا يطيل فيها أكثر من اللازم؛ وفي الواقع، لقد سمعْتُ من غير واحد هذا الوصف، الذي عادةً ما يقال مصحوبًا بضحكة خافتة: “إن السيد أبا بكر ينتهي من صلواته بسرعة كبيرة، ولكن ذلك لا يهم، لأنه إنسان (مقبول) على أية حال”.
وزوجة السيد أبي بكر التي اقترن بها منذ ثمانية وعشرين عامًا تماثله في الطيبة والقبول عند الناس، وبالرغم من أن أهالي البلاد لا يرونها طبعًا، يُسِرُّ الرجال بعضُهم إلى بعض بأن “هناك شخصًا واحدًا آخر فقط كالسيد أبي بكر في حضرموت، ذلك هو زوجته”؛ لأن أثرها في الناس ينتشر بطريقة خفية. والسيد أبو بكر أكثر الرجال تواضعًا وأكرمهم، ومع أن صدقاته تعطى دون تباهٍ، فقد سارت بذكرها الرُّكبان، لدرجة أن الناس صاروا يطلقون عليه (حاتم الطائي حضرموت)، وأظن أن كل مَنْ سبق أن نزلوا في بيته سيقرون بأنه أحسنُ مَنْ يستضيف، وفي الوقت الذي يوفّر فيه غرفًا مريحة للغاية ومُعَدَّةً جيدًا ومُجَهَّزةً لضيوفه الأوروبيين بجميع وسائل الراحة الأوروبية، ينام هو على فراش يمدُّه على الأرض.
إنني حقًّا لا أعرف شخصًا في البلاد، لديه أكثرُ ممَّا لدى السيد أبي بكر من ثقة الناس الواسعة والمكتسبة بحق؛ لأن هذا الرجل يهتم بالمصلحة العامة فقط، وليس بمصلحته أو مصلحة أي فريق بعينه. وهو ينفق ماله بكثرة من أجل تعزيز السلام بين القعيطيين كما يفعل بين الكثيريين. وقد حاول أكثر من أي شخص آخر أن ينهي العداء الذي طال أمدُه بين القعيطيين والكثيريين، والذي لحسن الحظ يكاد الآن يعد شيئًا من الماضي. ولم يكن هناك بلا شك وسام مستحق عن جدارة أكثر من وسام الإمبراطورية البريطانية برتبة فارس، الذي حاز عليه السيد أبو بكر ضمن قائمة (التكريم للعام الجديد) الماضية.
والأشخاص الوحيدون الذين يعارضون السيد أبا بكر هم الذين يسعون إلى مصالحهم فقط بشكل واضح. وفي بلادٍ اعتادت على الركون إلى الكلمة المسموعة في أخبارها وآرائها، تكون للشائعات والأكاذيب نجاحاتها العابرة، ومع ذلك فإن الأكاذيب والقسوة لا تدوم كما يقول السيد أبي بكر.
واستنادًا على ما تقدم سترون أنه ليس هناك من هو أفضل من السيد أبي بكر لأناقش معه احتمالات السلام، وقد اقترح أن نذهب إلى سيئون لنجمع معًا أولئك الذين يتوقع منهم أنْ يقدموا لنا العون. وقبل أن نتحرك قصدني زائرٌ مهم، وهو “علي بن حبريش”، الزعيم الأعلى للحموم، الذي أتى مع بعض أتباعه ليقابلني في انفراد في تريم.
والحموم قبيلة كبيرة تضم ما يزيد على 7000 محارب، وقد كانوا في صراع مع القعيطي منذ زمن بعيد. وليس هناك شك في أن الحكومة القعيطية في الساحل قد عانت منهم كثيرًا، ولكن لا شك أيضًا في أن هذه القبيلة تم التعامل معها بشكل غير حكيم وغير سياسي. فقبل ثمانية عشر عامًا، فكر مستشارو السلطان أن الطريقة الأفضل لتسوية مسألة الحموم هي أن يدعى جميع زعماء الحموم إلى لقاء في الشحر ويقتلوا هناك. وقد تم تنفيذ هذه الخطة، وكان والد علي بن حبريش، الذي خلفه ابنه، أحد الذين قتلوا. وبعد ذلك اليوم لم تطأ قدما علي بن حبريش الشحر، رغم أن الحكومة القعيطية كانت من وقت لآخر تشتري منه هدنة لمدة عام بسعر ألفي ريال ماريا تيريزا في السنة. وكان هذا خلاصة حديثه: “لا أريد الحكومة القعيطية، فهم قد أساؤوا إلي، ويحسب القعيطيون أننا بدو همجيون، يجب أن نعامل مثل الحيوانات. إنهم يمنعوننا من كسب عيشنا عن طريق نقل البضائع من الساحل إلى الداخل، فنحن لا نستطيع دخول الشحر. ولا أريد الحكومة الكثيرية؛ فالسلطان الكثيري لا يملك القوة لمساعدتي. ولا أريد الحكومة الإنجليزية؛ لأنني لا أعرف عنهم سوى حقيقة أنهم أصدقاء القعيطي، وأنهم سيقفون معه ضدي، ولم يفعلوا شيئًا من أجلي. لقد سمعت عن حكومة جديدة تدعى إنجرامس تسعى من أجل السلام في حضرموت. هل ستوفر لي أنت الحماية حتى يكون لدي ميناء خاص بي في بلادي، نستطيع من خلاله أن نكسب رزقنا؟ إن كنتَ لن تفعل فعليَّ أن ألجأ إلى حكومة أخرى”.
أخبرُته أنني لست في وضع يخوّلني لأن أَعِدَهُ بشيء، ومع ذلك إذا استجد أي أمر فإنني سأبذل كل ما بوسعي لأساعد في إحداث تسوية مرضية، وعادلة أيضًا، سواءً أكانت تصب في مصلحته أم في غير مصلحته.
واقترح السيد أبو بكر أن الأشخاص الذين يجب أن ندفعهم إلى الانضمام إلينا، والذين لم يكونوا موجودين معنا في تلك اللحظة، هما السلطان علي بن صلاح، حاكم شبام، ممثلًا للقعيطيين، والشيخ سالم بن جعفر الكثيري الذي كان صديقًا للقعيطيين والكثيريين معًا، وكان حريصًا على إبرام المعاهدة القعيطية الكثيرية. وعلى هذا الأساس انطلقتُ إلى رحلة قصيرة، وذهبت بادئ ذي بدء لمقابلة العوامر، وهم القبيلة التي قتلت البدو الكثيريين الأربعة على الطريق.
عندما وصلتُ إلى موضعٍ يبعدُ حوالي نصف ميل من منزل الشيخ في تاربة، وحيث أقصى ما يمكن لسيارتي أن تصل، أوصيت أحد الأولاد أنْ يتقدَّمني كي يطلب من الشيخ أن يأتي لمقابلتي. ولم أكد أبلغ نصف المسافة مشيًا حتى رأيتُ الرجل المُسِنَّ مع مشايخ آخرين وحشد من أتباعهم قادمين لمقابلتي. وبدأوا الحديث بقولهم: إنهم سوف يسلّمون أسلحتهم إذا كنتُ أنا سآتي وأكون حاكمًا عليهم.
تركتُ السيد أبا بكر في سيئون، وواصلت طريقي إلى شبام، وهناك رحَّب السلطان علي بن صلاح بالمقترحات. ومن شبام انطلقتُ إلى حريضة، وحينما كنت مارًّا بديار البُقري، التي هي مركز لقبيلة نهد في الطريق إلى هناك، خرج أهالي المنطقة وقالوا بصراحة: إنهم لا يميلون إلى الحكومة البريطانية؛ لأنها تركتْهم في حالة قتال مستمر. وضّحتُ لهم مهمَّتي لصُنع السلام، وقُلتُ لهم: إن الحكومة مهتمَّةٌ الآن بإحلال السلام في البلاد. وعندما كنت في طريق العودة في اليوم التالي طلبوا مني الدخول، واصطحبوني إلى سطح أحد البيوت العالية، وأشاروا لي إلى المنطقة، وقالوا لي: إنني إنْ وافقتُ على المجيء لأحكمها فسيمنحونني البيت المجاور، الذي له الارتفاع نفسه، لأسكن فيه.
ناقشنا المواضيع نفسها تقريبًا في حريضة، ولكن حريضة كانتْ تقعُ في وادي عمد المكروب، حيث غالبية أهله في شقاقٍ بعضهم مع بعض، ولم تكن الآمال عالية بأن تعالج الأمور. وعُدتُ إلى سيئون عن طريق العقدة، حيث أقنعتُ الشيخ سالم جعفر بأن يصحبني. وليلة وصولنا أقام السلطان مأدُبةَ عشاءٍ كبيرة، عقدْنا بعدها واحدًا من أكثر مؤتمرات السلام أهميةً وفائدةً وسطَ جوِّ الحماس الجديد. وقد أسفرتْ ثلاثة اجتماعات عن وضعنا لوثيقةٍ، تمَّ فيها التوصية بهدنةٍ، مُدَّتُها ثلاث سنوات، وتشكيلُ مجلسِ صُلحِ حضرموت للتحقيق في دعاوى القبائل فيما بينها. وبعد التوقيع على المسوَّدة بشكل أوليٍّ حوَّلَ أعضاء المؤتمر مجرى الحديث إلى ماهية الإعلان الذي يجب إصداره، وأخبرتُهم أنَّ حضرموت لا تحتاجُ أن تتعلم من جنيف ومن المستشارين الأوروبيين في مسائلَ كهذه. وبدأ البيان الصحفي بالقول إنه “من المعلوم أنه قد عُقد اجتماع” … إلخ، وإنه قد تمَّت التوصية بهُدنةٍ مُدَّتُها ثلاث سنوات.
ونظرًا لعدم وجود جرائد في سيئون فقد نُشر البيان من خلال قراءته على مجموعةٍ صغيرةٍ في قصر السلطان الصيفي، ثم نُسخ، فأرسل إلى البلدات والقبائل.
كانت ردود الفعل الأولى إيجابية بشكل عام، ولكن كانت هناك الكثير من الشكوك فيما إذا كانت الحكومة ستبذل حقًا ما بوسعها لتقدّمَ المساعدة في حالة حدوث أي شيء. ولم يكن هذا الشَّكُّ مستغربًا بالنظر إلى أن التواصل حتى الآن كان عادةً يقتصر، كما قال السلطان، على الزيارات القصيرة، وكان الحديث يكاد ينحصر في “السلام عليكم”، و”في أمان الله”. وجاء أحد الانطباعات يقول إنه إذا “سقطت قنبلة واحدة على جبل في حضرموت” سيتأكد الناس بأن السلام سيؤمّن.
وفي هذه الأثناء وصلت أنباء أن الضابط بيتش، الذي كان مسافرًا إلى حضرموت ليساعد في العمل في إنشاء الطرق، تعرض لإطلاق نار من قبل آل بن يماني آل جابر، وهم الجماعة الذين تسبَّبوا في تأخيرنا. وهؤلاء الجماعة كانوا قد اكتسبوا سمعة سيئة للغاية في تعطيل القوافل والسيارات المسافرة. وقبل ست سنوات أطلقوا النار على أحد السادة وهو في سيارته، وفي شهر رمضان هذا الذي جرت فيه المشاورات نهبوا قافلتين متجهتين إلى الوادي، وأحضروا المنهوبات معهم إلى قريتهم رِسِب.
كنت، بطلب من السلطان صالح في المكلا، قد قدّمت طلبًا إلى الحكومة للاستعانة بالضابط بيتش لمساعدة السلطان في مسح الطرق، وعندما انتهى من هذه المهمة كان في طريقه لكي يقوم بتثبيت خطوط العرض والطول لمدن حضرموت، ومن ثم ليساعد في عمل مسح من أجل إكمال طريق الكاف. وقد وقعت الحادثة في الليل، إذ أطلق حينها قُطَّاع الطرق طلقة أُولى ظنَّها مَنْ في السيارة ناتجة عن اشتعال المحرك، ثُمَّ تَمَّ الإطلاق في المرة الثانية على كشافات السيارة. أما الرصاصة التي أطلقت بشكل مباشر على السيارة من على بعد بضعة أمتار فمرَّتْ خلال مبرّد المحرك وعمود المقود، وأصيب السائق والرجل الذي كان معه في الأمام بجروح طفيفة. وكالعادة كان الجُناة يسعون وراء المال. وقضى الضابط بيتش ومرافقوه الليلة في ضيافة بعض المشايخ الطيبين في حصن حرو، ثم واصلوا رحلتهم إلى تريم.
سادت حضرموت كلها حالة منفعلة من الترقُّب المكبوت حيال ما إذا كانت الحكومة ستفعل شيئًا. وجاءت رسائل من الكثيري والعوامر ومن بن عبدات نفسه ومن آخرين فَحْواها أن تدابير السلام لن تنجح إلا إذا اتُخِذ إجراء لمواجهة الجُناة. وقد كتبْتُ تقريرًا عن الحادث وبعثْتُه مع رسولٍ إلى الساحل؛ لكي يتمَّ تحويله إلى عدن. وأخيرا جاءت الطائرات لتعود بنا إلى عدن لمناقشة الموضوع. وجاء أناس من كل الفئات لتوديعنا، ومن بين آخر ما قِيل لي هو أنني يجب أن أقنع الحكومة بضرورة التدخل في شؤون حضرموت بسياسة حازمة. وأخبرتُهم جميعًا أنني على علم بأن الحكومة مهتمَّة بصدقٍ بتأمين السلام، ولكن الذين يساعدون أنفسهم فقط هم الذين يستفيدون من مساعدة الآخرين. وقد وعد السلطان الكثيري بأن يمنح كل المساعدة التي بإمكانه تقديمها إذا تدخلت الحكومة، وهذا غالبًا يقتصر على منع القبيلة المعتدية من دخول المدن التابعة له. كان السيد أبو بكر هو الوحيد الذي يعتقد أن الحكومة مهتمة بالسلام، وقد قال لي: “إن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع حضرموت مثل الطريقة التي تغازل بها المرأة الرجل. تريد الدخول في علاقة، ولكنها تخشى الوقوع في مشكلة”.
وفي المكلا أتى السلطان صالح إلى مدرج هبوط فوة لاستقبالي، ووعد بالمساعدة هو أيضًا قائلًا: إنه سيتعاون معنا، وإنه أيضًا سيمنع الجُناة من دخول الشحر والمكلا. وكانت القبائل كلُّها على الموقف نفسه، وتعهَّدتْ بألا تساعدهم أو تسمح لهم باللجوء إلى ديارها. ووجدْتُ في عدن أنَّ الحكومة قرَّرتْ تقديم المساعدة، وصدر الأمر بضرورة استدعاء الجُناة أمامي أنا والسلطان ومعاقبتهم إنْ ثبتت إدانتهم.
عُدت جوًا إلى حضرموت في 2 يناير مُستَعِدًّا بجهاز لاسلكي، وبالتشاور مع السلطان أرسلنا الاستدعاءات بالشكل المتعارف عليه، مُبيِّنين التُّهَمَ الموجَّهة ضدَّ الجُناة، وأمرناهم بالمثول أمام المحكمة في يوم 15 يناير. وحضر (عُقّال) آل بن يماني مع بعض القبيليين التابعين لهم في اليوم المحدَّد، وقُمْنا أنا والسلطان بمحاكمتهم في قاعة الجمهور الكبيرة بالقصر، التي تمَّ إعدادها بمثابة محكمة عدل. وأقيمت الدعوى القضائية بشكل علنيٍّ وَسْطَ مراسيمَ معتبرةٍ، التي عُدَّتْ بشكلٍ عامٍ مُبهِرَةً. واستُدعِي الشهود واحدًا تلو الآخر، فاستجوبهم المتهمون. كانت القضية ثابتة بدرجة كبيرة جدًا ضد آل بن يماني، وعلى هذا الأساس تمَّتْ إدانتهم. وحُكِم عليهم بدفع غرامة قدرها 10 جمال، و30 بندقية، و100 معزة مع ضعف المبلغ الذي نهبوه، والذي كان 30 ريال ماريا تيريزا. وحُكِم عليهم أيضًا بأن يسلِّموا رهينتين من كل العوائل المتورِّطة، على أن يحتفظ بهم السلطان الكثيري في سيئون طالما تطلَّب الأمر، ويتمُّ تغييرهم حسب رغبة الفخيذة شريطة أن تكون الرهائن البديلة مستوفية للصفات المطلوبة.
سُلِّمت إلى الفخيذة نسخةٌ من الحكم الصادر ضدَّهم، وفُرِض عليهم تسديدُ الغرامة بحلول 28 يناير. وبعد الإجراءات الرسمية التقيْتُ بهم في جوٍّ أكثر مسالمة، وحثثْتُهم على الالتزام بالدفع، وعندما غادروا سيئون كنا نميلُ إلى احتمال أنهم سيدفعون، وتم إشعارهم في الحكم أنه سيتم استعمال الطيران إذا لم يخضعوا لبنود الحكم. وبُعِثَتِ الرسائل إلى كل الجهات موضحةً ما حدث، ولكن الصعوبة الحقيقية كانت تتمثَّل في تذكير الناس بأن الحكومة البريطانية تعني ما تقوله، وأنَّ قراراتِها ليستْ مثلَ التهديدات الفارغة التي اعتادوا عليها.
في الأسبوعين التاليين بُعثت الرسائل وأُرسل الرُّسُل بانتظام إلى آل بن يماني، وكذلك إلى القبيليين والسادة أصحاب النفوذ الذين – حسب ما كان يعتقد – سيساعدونهم على إدراك ما سيواجهونه. وأمضيْتُ أنا وقتًا طويلًا أسافرُ جيئةً وذهوبًا إلى القرى المختلفة؛ لأحث الجميع واحدًا واحدًا على السلام.
وفي اجتماعٍ لمجلس السلام في قصر سيئون في 18 يناير اتُّخِذ قرارٌ بأنْ تتمَّ دعوة الدفعة الأولى من القبائل الكثيرية للاجتماع في حوطة آل أحمد بن زين في 24 يناير، وأن يطلب منهم قبول هُدنَةٍ مُدَّتُها ثلاث سنوات، ابتداءً من شهر ذي الحجة عام 1355ه (12 من فبراير، 1937). لم يكن الاجتماع الأول هذا مُرضِيًا تمامًا، وعلى الرغم من توقيع أغلبية الفخائذ الممثلة، امتنع عددٌ منها عن التوقيع. ولم يكن الأمر فقط أنَّ الناس لم يكونوا واثقين من أن السلام سيستمر، ولكن بن عبدات كان لا يزال معارضًا.
كان عمر عبيد بن عبدات هو حاكم الغرفة، وخصومته معروفة في نطاق واسع. وهو رجل عجوز قميء وغريب الهيئة، وإحدى عينيه كبيرة وجاحظة، والأخرى نصف مغمضة، وأنفه غريب الشكل، وحنكه مشقوق. ويقال عنه في السر: إنه “جِنِّيُّ الغُرفة”، ولكنه كان في العلن رجلًا مَخُوْفًا؛ لأن أخاه صالحًا الذي يُقِيم في جاوة كان يملكُ أموالًا طائلة، كانت تُستَعمَلُ في حضرموت للإنفاق على قوة ثابتة من العبيد ولشراء الأنصار، مما جعل منه مُعضَلَة يُحسَبُ لها حساب، ولذلك كان من الأهمية بمكان أنْ ينضمَّ إلى عملية الصلح. ولكنه كان في شخصه قزمًا طيِّبَ القلب، ويمكنني أن أقول: إنه الآن واحدٌ من أفضل أصدقائي، ويستخدم كل نفوذه من أجل قضية السلام، ولكنْ كان من الصعب جدًا عليه اتخاذُ قرارٍ بشأن السلام؛ لأنه، كعدد من الزعماء الآخرين، كان يخشى أنه بحلول السلام ستنقطع الموارد المالية الآتية من جاوة.
يتبع..