ترجمة
د. مراد محمد باعلوي
ميخائيل أناتوليفيتش راديونوف
متحف بطرس الأكبر الأنثروبولوجي والإثنوغرافي (كونستكاميرا) أكاديمية العلوم الروسية سانت بطرسبورغ، روسيا الإتحادية
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 52
رابط العدد 32 : اضغط هنا
الملخص:
تتناول هذه الدراسة تحول الهوية العرقية والطائفية لسكان حضرموت (جنوب الجزيرة العربية)، في سياق التحولات الاجتماعية، التي بدأها مسؤول الاستعمار البريطاني في ذلك الوقت هارولد إنجرامس عام ١٩٣٣م، واستمرت على أسس مختلفة، وصولًا إلى يومنا هذا. ولحل المشكلة البحثية المذكورة تم استخدام منشورات محدودة التوزيع لوثائق من الأرشيف البريطاني، ومن أرشيف اليمن الجنوبي، بالإضافة إلى مواد ميدانية جمعها كاتب المقال في حضرموت.
القسم الأول خصص لبناء هياكل السلطة الحديثة في السلطنتين الرئيسيتن في منطقة الدراسة، وهما السلطنة القعيطية والسلطنة الكثيرية، وعملية المصالحة بين القبائل المحلية عام ١٩٣٣-١٩٥٣م، والمعروف باسم “سلام إنجرامس”، وكان بالإمكان تسميته بـ”سلام الكاف”؛ تيمنًا باسم ممثل الطبقة الروحية الأرستقراطية (من آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم)، الذي أدَّى إلى جانب إنجرامس دورًا حاسمًا في عملية التفاوض وتحديث البلاد.
القسم الثاني يتناول تحليل تحول الهوية العرقية والطائفية لسكان حضرموت قبل رحيل البريطانيين، وبعد الحصول على الاستقلال، تحت تأثير الأفكار القومية العربية والاشتراكية والإسلامية. وتقدم هذه الدراسة وصفًا للمكونات الرئيسة للهوية الحضرمية، مع إيلاء اهتمام خاص لعنصرها العرقي والطائفي.
وفي الختام، يتم تقديم وصف موجز للأزمة اليمنية الحالية، والتي لا يقل فيها أهمية العامل الطائفي في المواجهة بين الشمال والجنوب عن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
الكلمات المفتاحية: الهوية العرقية والطائفية، جنوب الجزيرة العربية، حضرموت، هارولد إنجرامس، الأزمة اليمنية.
للاقتباس: راديونوف م. أ. تحول الهوية العرقية والطائفية لسكان حضرموت في القرنين العشرين والحادي والعشرين. كونستكاميرا. ٢٠٢٢. ٣(١٧): ١٣٤ – ١٤٤.
للوهلة الأولى، يعد الشعور بالهوية العرقية الثقافية صفةً من صفات الحضارم، أي سكان حضرموت (جنوب الجزيرة العربية)، ومن السهل نسبيًا وصفها وتفسيرها؛ لأنها بالفعل وعلى مدى ثلاثة آلاف سنة من وجودها كمجتمع تاريخي وثقافي احتفظت هذه المنطقة بأصالتها الجغرافية، التي أصبحت السمة الأساسية للتعرف على سكانها. إن التنوع الطبيعي من ساحل – هضاب – وديان – صحراء جعل حضرموت منطقة إعادة شحن (ترانزيت) رئيسة، حيث يتم تبادل السلع منذ زمن طويل بين دول حوض المحيط الهندي والجزيرة العربية (روديونوف ٢٠٢١: ٢٠٥-١٢١). ومن الصعب تتبع كيف تغيرت مكونات الهوية الحضرمية تحت تأثير التحولات الاجتماعية، وما هو الدور الذي يؤديه العامل الطائفي في ذلك. وهكذا، ارتبط المكون المكاني للهوية المحلية ارتباطًا وثيقًا بالعنصر الديني: فالطبيعية لها قدسيتها؛ إذ يعتبر الحضارم إرسال الأمطار الموسمية التي تعتمد عليها الزراعة المحلية بالكامل أهم رحمة من الله (الرحمة) (روديونوف ٢٠١٠). سوف نعرض كيف تم حل هذه المشكلة في عهد الحماية البريطانية، وبعد خروج البريطانيين من جنوب الجزيرة العربية.
“سلام إنجرامس” أم “سلام الكاف”؟
زاد اهتمام بريطانيا العظمى بجنوب الجزيرة العربية شرق عدن، بعد افتتاح قناة السويس في عام ١٨٦٩م. ولحاجة البريطانيين إلى حكام محليين ودودين وأقوياء على الطريق البحري السويس – بومباي، قام البريطانيون بدعم اليافعيين من آل القعيطي في الصراع من أجل السلطة في حضرموت، ويعد القعيطيون أحد المجموعات القبلية الثلاث، الذين جمع قادتهم ثرواتهم من الخدمة العسكرية في الهند مع نظام حيدر آباد. وبعد أن منحت بريطانيا قادة عائلة القعيطي مدينة المكلا الساحلية، وخصصت لهم منحًا مالية سنوية ليست كبيرة، أبرمت الإدارة البريطانية اتفاقيات صداقة معهم عامي ١٨٨٢م و١٨٨٨م. ووفقًا لهذه الاتفاقيات لم يكن بإمكان القعيطيين بيع ممتلكاتهم أو رهنها أو إعطاؤها إذن بالاستخدام بأي شكل من الأشكال، وبالتحديد – موانئ الشحر، المكلا، بروم والأراضي المجاورة، لها لأي شخص أو دولة أجنبية، باستثناء الحكومة البريطانية. هذه المطالب كانت من أجل التأكد من عدم تشكيل مركز قوة جديد في حضرموت عن طريق شراء المستوطنات. وهناك شرط آخر نص على السيطرة البريطانية الكاملة على علاقات القعيطيين مع الحكام المجاورين والدول الأجنبية. (روديونوف ٢٠٠٧: ٥٣ – ٦٠).
حاولت السلطنة الكثيرية التي قطع عليها القعيطيون الوصول إلى البحر العربي إعادة الموانئ بمساعدة تركيا، لكنْ رد السلطان القعيطي والسلطات البريطانية كان بفرض حصار اقتصادي عليهم. وفي الثامن من يونيو ١٩١٨م وعند اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، تم في عدن إبرام اتفاقية بين السلطنة الكثيرية والسلطنة القعيطية، وبذلك انضم الكثيري إلى الاتفاق القعيطي- البريطاني المُوَقَّع في عام ١٨٨٨م. وتم تحديد حدود السلطنة الكثيرية والتأكيد على ثباتها، وطوى النسيان الخلافات السابقة بين الطرفين. تمتع السلطان الكثيري باستقلالية ذاتية كاملة داخل حدوده، في حين كانت العلاقات الخارجية جميعها تمر عن طريق المكلا وعدن. وتم الإعلان عن التجارة الحرة المطلقة، وحُلَّت جميع الخلافات بين أطراف الاتفاقية من قبل بريطانيا العظمى. وقد ورد الحكم الأساسي في المادة الأولى من الاتفاق: “اتفق السلطان القعيطي والي الشحر والمكلا والسلطان من آل عبد الله الكثيري على أن إقليم حضرموت هو إقليم موحَّد، وأن الإقليم المذكور يعتبر إحدى المحميات البريطانية من خلال سلطان الشحر والمكلا” (إنجرامس ١٩٣٦: ١٦٩ – ١٧٠: روديونوف ٢٠٠٧: ٥٨ – ٦١). وهكذا أصبحت حضرموت محمية لبريطانيا العظمى.
إن السعي لوحدة منطقتهم بطريقة غير مألوفة قد اقترن لدى الحضارم بالتفتت السياسي والصراع القبلي المستمر، وأسهم في ذلك التنظيم الاجتماعي المعقد – التسلسل الهرمي للطبقات الاجتماعية المتوارثة. الطبقة العليا تشكلت من الأرستقراطية الروحية، ممثلةً في (السادة، أو سلالة النبي محمد والشيوخ)، وكان سند هذه الطبقة وجوهرها القبائل، والطبقات الأقل كانت سكان المدن، الفلاحين، الحرفيين، العمال، الخدم والعبيد… إلخ (إنجرامس ١٩٣٦: ٣٦ – ٤٤: روديونوف ٢٠٠٧: ١٩ – ٢٩).
ولتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية كان من الضروري وضع حد للصراعات القائمة، وللقيام بذلك بدأ بجمع المعلومات ذات الصلة عن هذه المنطقة، التي لم تتم دراستها إلَّا قليلًا. وقد أنجز المسؤول الاستعماري هارولد إنجرامس المهمة بنجاح، التي أعدها بناءً على نتائج رحلة استمرت تسعة أشهر في العامين ١٩٣٤ – ١٩٣٥م، عُدَّ خلالها تقرير تفصيلي عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في حضرموت (إنجرامس ١٩٣٦). في العمل على التقرير شارك إنجرامس في الجانب التطبيقي منه زوجته دورين: فقد جمعت المعلومات الجغرافية، بالإضافة إلى إجراء استطلاعات للرأي بين النساء المحليات، وكتبت مذكرات ميدانية. وخلال رحلة العمل اكتشفت عائلة إنجرامس أن السلطات السلطانية لم تستطع في عدد من المستوطنات والمناطق القبلية أن تُحَصِّل الضرائب، وليس لها تأثير على إدارة هذه المناطق، على الرغم من أن جميع الحضارم كانوا يُعَدُّون رسميًا رعايا السلطان، ويسافرون إلى الخارج بجوازات قعيطية أو كثيرية، التي أعطيت في الفترة ١٩١٠ – ١٩١٩م (إنجرامس ١٩٣٦: ٢ – ٣، ٧).
تمكَّن المسؤول البريطاني إنجرامس من إبرام مصالحة عامة بين القبائل في عام ١٩٣٧. وبحلول وصوله كان قد تم بالفعل توقيع عدد من الاتفاقيات مع القبائل. وقد قسم هذه الوثائق إلى فئات “А”، والتي تنص على الولاء الكامل للسلطان، والفئة “В” – على الصداقة والتعاون على أساس المنفعة المتبادلة. وعندما تم التوقيع على جميع الوثائق، تبين أن في حضرموت هناك حوالي ألفي “حكومة” منفصلة، في حين لم تعترف بريطانيا العظمى إلا باثنتين منهم فقط (إنجرامس ١٩٩٣: ١٢: قعيطي ٢٠٠٩)[1].
تجب الإشارة إلى أن السيطرة السياسية على حضرموت تمركزت في عدن، والتي تم نقلها في عام ١٩٣٧م إلى الإدارة المباشرة من قبل وزير المستعمرات البريطاني، وتم تقسيم جميع دول جنوب الجزيرة العربية التابعة لبريطانيا إلى محميات عدن الغربية والشرقية. وفي العام نفسه أصبح إنجرامس أول مستشار بريطاني مقيم للسلطان القعيطي في جميع الأمور باستثناء المسائل المتعلقة بالدين والعادات والتقاليد. ومن عام ١٩٣٩م امتدت صلاحياته إلى السلطنة الكثيرية.
دخلت المصالحة العامة حيز التنفيذ في فبراير ١٩٣٧م ولمدة ثلاث سنوات، وفي العام ١٩٤٠م تم تجديدها لمدة خمس سنوات أخرى، ثم بعد ذلك جُددت لخمس سنوات أخرى، ومنذ العام ١٩٥٠م أصبحت حالة “السلم المدني” دائمة. ولدعم هذا السِلم تم تأسيس مجلس المصالحة. وبمساعدة من المختصين العسكريين البريطانيين تم إنشاء الجيش النظامي، وفي المدن أنشئت الشرطة البلدية، وللحفاظ على النظام في المناطق الريفية أنشئت قوات الدرك. وتم كذلك تشكيل فيلق بدوي على غرار النموذج الأردني، والذي كانت مهمته ضمان أمن الحدود والمناطق الحدودية.
يُعرف وقف الصراع في حضرموت وخارجها باسم “سلام إنجرامس”، على الرغم من ذلك وكما لاحظ المستعرب البريطاني بول دريش (رديش ٢٠٠٢:٤١٠)، أنه وعلى الأسس نفسها يمكن أن نطلق عليه “سلام الكاف” – نسبة إلى السيد أبي بكر الكاف (١٨٩٠ – ١٩٦٥)، الذي ولد في سنغافورة، وينحدر من أصول حضرمية من آل البيت، وقد بنى ثروته العائلية من خلال الأنشطة التجارية الناجحة، وأنفقها بسخاء على الإصلاحات في حضرموت. وكان الكاف مشاركًا بشكل نشط وفعّال في المفاوضات مع زعماء القبائل وغيرهم من القادة التقليديين في حضرموت، بالإضافة إلى تقديم معونة لبناء أول طريق للسيارات، يربط بين الساحل والوديان الداخلية، مما قوَّض الامتيازات التقليدية للقبائل لضمان تأمين تجارة القوافل.
كان السيد أبوبكر الكاف الموالي للإمبراطورية البريطانية وبكرامة المسلم الارستقراطي، كاد أن يرفض لقب فارس بعد أن علم أن المراسيم المهيبة تتضمن الركوع أمام ملكة بريطانيا، فالمسلم الحقيقي لا يركع إلا أمام الله، وللهروب من هذا الموقف تم العثور على مخرج: وفي الصورة التي التقطت في أبريل عام ١٩٥٤م أثناء زيارة إليزابيث الثانية إلى عدن، يمكن رؤية كيف تلمس الملكة كتف الكاف بسيفها، وهو مسند ركبته على مقعد خاص (دوكير ٢٠٠٣: ٤١). يذكر أن أبا بكر الكاف ولد في أرض المهجر ودفن في وطنه التاريخي – في عاصمة السلطنة الكثيرية سيئون.
تُظهر قصة حياة أبي بكر الكاف الدور المهم الذي تؤديه الشبكة الواسعة من الجاليات الحضرمية في الخارج لتعزيز الهوية الحضرمية (حضرموت وشتاتها ٢٠١٧)، مع الأخذ في الاعتبار أنه في عهد إنجرامس كان في كل عائلة حضرمية تقريبًا هناك شخص ما من الرجال يعمل في الخارج، ويحلمون بالعودة إلى وطنهم كأشخاص أثرياء.
بريطانيا ترحل: النتائج والخطط
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بوقتٍ قصير، وبالتحديد في أبريل ١٩٤٥م، قام هارولد إنجرامس بتجميع مذكرات الخدمة، حملت ختم “للاستخدام الرسمي فقط”، بعنوان “التطور السياسي في حضرموت”، والتي أصدرته زوجته دورين وابنتاهما ليلى في المجلد العاشر من مجلداتهما الست عشرة المجمّعة للمواد الأرشيفية عن اليمن.
المذكرة كانت موجهة إلى المستشارين المقيمين المستقبليين، الذين يخططون للعمل في حضرموت، وإلى رؤسائهم في عدن ولندن. وقارن فيها إنجرامس بين الوضع في السلطنتين في العامين ١٩٣٤م و١٩٤٤م، مشيرًا في المقام الأول إلى نجاحات سلطنة القعيطي في توفير الأمن الداخلي، والمصالحة بين القبائل، وتحديث جهاز الدولة، والخدمات الاجتماعية (التعليم والرعاية الطبية)… إلخ. واكتملت الصورة بذكر المجاعة الشديدة التي اجتاحت البلاد بعد احتلال اليابانيين لسنغافورة وجزر الهند الشرقية الهولندية، ومصادرة ممتلكات المهاجرين الحضارم وأصولهم، الذين كانوا في زمن السِلم يقومون بتحويل حوالي ٦٠٠ ألف جنية إسترليني إلى الوطن. أسهم الجفاف الذي دام سبع سنوات في تفاقم الوضع في حضرموت وتردّيه، بالإضافة إلى فقدان نصف جمال النقل، مما وجَّه ضربة لتجارة القوافل من الساحل إلى الوديان الداخلية، وتضخم أسعار المواد الغذائية (إنجرامس ١٩٩٣: ٥ – ٨). وتلا ذلك رأي إنجرامس في خصوصيات حضرموت وسكانها، وهنا نقتبس ما قاله:
“طبيعة البلد تفسر طبيعة الناس. إن المساحات والجبال الخالية من النباتات والهضاب ولدت شعورًا لدى البدو شعورًا عميقًا بالحرية وعدم الرغبة بالتضحية والتنازل بها من أجل إرضاء أي شخص كان، لأن هذه ثروته الوحيدة. وفي أعماق وديان المناطق الداخلية يكون الأفق محددًا بجوانب يبلغ إرتفاعها ألف قدم، وهذا غرس في الناس شعورًا بالتفرد والاستثنائية التي نادرًا ما توجد في أي مكان آخر. وفي مدن وقرى هذه الوديان تكوّن شكل خاص جدًا من التدين. كما لا توجد هنا أخوة حرة في الإسلام، ولكن يوجد نظام طبقي: السادة، وقبائل حضرية تفتقر إلى الكثير من الفضائل المتأصلة في بدو الصحراء: مرابي الأموال من المهاجرين، القبائل اليافعية من الغرب (جنوب الجزيرة العربية. – م.ب.): كذلك أحفاد العبيد الأفارقة، وتجار المدن، والعمال عديمي الحقوق الذين يعيشون ظروفًا معيشية صعبة للغاية لدرجة أنهم هبطوا تقريبًا إلى مستوى الحيوانات، التي يتشاركون معها رفع المياة من الآبار. ويسيطر السادة على الحياة والفكر الاجتماعي في البلاد، على الرغم من أن بعضهم ممن اتصل بالأوربيين وأثثوا منازلهم بمزيد من الراحة، لا تقل عن الترف وقلة الذوق البربري للغرب، فإن التأثير الغربي يقتصر فقط على هذا، وقد استحقوا وصف “أعضاء الطائفة الأكثر تعصبًا في الجزيرة العربية”. هناك أكثر من ٢٠ ألف سيد في البلاد، وربما يشكلون مع أفراد عائلاتهم حوالي خمس السكان. وتعتبر حضرموت أرض ذات خصوصية ومقدسة، ففي هذه الأض يقع قبر النبي هود والكثير من الأولياء والصالحين”. (إنجرامس ١٩٩٣: ٩).
ونعطي الكلمة لإنجرامس نفسه الذي يصف على أساس تجربته الصفات الأخلاقية للحضارم وعلاقتهم بالدين.
“في هذا البلد يمكن أن تجد تناقضات جدًا غريبة – بدءًا من مظاهر الرفاهية المغالية والراحة إلى الفقر المدقع، ومن المستوى العالي من الثقافة إلى الوحشية الكاملة. والطبقات الفقيرة في المدن عادةً لديهم دخل كاف لتوفير الطعام لأنفسهم، لكن لا يمكنهم الربح والادخار، في حين يعيش البدو على حافة المجاعة. بالإضافة إلى ذلك توجد مستويات عالية من القيم الاخلاقية عند البدو، ولكن في المدن وبالذات الساحلية منها تنتشر الرذائل (مشائن) بشكل كبير، في حين أن السرقة كانت أمرًا نادر الحدوث. وينتشر الالتزام بالطقوس الدينية بين الحضر، ولكن “الأتقياء” بينهم قليل، فهم يبرزون كالمنارات. لا يلتزم البدو بالطقوس الرسمية إلا قليلًا (بعض القبائل نادرًا ما تصلي أو تصوم)، لكن معايير الشرف لديهم عالية، وهؤلاء الناس مسلمون بالفطرة، وتعلموا من خلال الدروس الصعبة الخضوع المطلق لإرادة الله. ويكون التعصب الديني أكثر وضوحًا لديهم حينما يكون ثأثير السادة أقوى. وفي مواقف أخرى يلاحظ لديهم قدر كبير من التسامح، وبالنسبة للبدو فإن الصفات الإنسانية أكثر أهمية من الانتماء الديني” (إنجرامس ١٩٩٣: ١٠).
إن الظروف المذكورة في الأجزاء المقتبسة، تعد مثالًا واضحًا لـ لورانس العرب، وقد حددت إلى حد كبير الأسلوب والطرق التي اختارها إنجرامس للعمل مع الحضارم.
“ونظرًا للصفات الاستثنائية للناس، كان علي دائمًا أن أتصرف كما لو كنت واحدًا منهم. بناءً على طلبهم ارتديت نفس الملابس التي كانوا يرتدونها: وبما أنه في حضرموت يمنع الاحتفاظ بالمشروبات الكحولية في المنزل، لذا ساد لدي قانون صارم، وخارج المنزل العائلي بنصف المسافة كنا نعيش دائمًا كما تعيش البلاد. أعتقد أنه وبفضل العيش وفقًا للعادات المحلية والعمل بشكل وثيق مع الناس تمكنا من إنجاز وتحقيق الكثير من الأشياء. ولهذا ما يتم بمبادرة مني لم يثر أي تساؤلات أو اعتراضات، لأنه لم يُنظر إليه على أنه فكرة لشخص غريب ينفذها لمصلحة حكومة أجنبية” (إنجرامس ١٩٩٣: ١٥).
كانت مسألة التقاليد والدين حساسة بشكل خاص بالنسبة للحضارم المسلمين- السنة الشوافع، وعلى الرغم من أنها لم تكن ضمن مجال اختصاص المستشار البريطاني المقيم رسميًا، لكنه لم يكن بإمكانه تجاهلها. وهذا ما كتبه إنجرامس في هذا الصدد في مذكراته.
“كمسيحي، في البداية واجهت صعوبة في أن أكون مقبوًلا في المجتمع من الناس، الذين يعتقدون أنه من المستحيل تقريبًا بالنسبة لهم التعود على فكرة وجود عرب مسيحيين. وفي أنحاء مختلفة من البلاد دائمًا ما كنت أسمع اعتراضًا على أن توقيع المعاهدات والتي بموجبها يتم جلب المستشارين الأجانب إلى البلاد ذلك يعني ظهور المبشرين وبناء الكنائس. لقد كنت أجيب دائمًا على أولئك المشككين في أنه لن يُجبَروا على قبول المبشرين، علاوة على ذلك، هذه الكيانات الحكومية الجديدة سيتم الاعتراف بها من قبل الدول العربية الإسلامية، وأنا نفسي كعضو في الحكومة العربية الإسلامية شعرت بأنني ملزم بدعم دين الدولة. شخصيًا وعلى الرغم من أنني لا أستطيع التباهي بالقول بأن لدي ميول خاص تجاه الدين، إلا أنني وجدت الإلهام العملي في العقيدة التي نشأت عليها، ومع ذلك وجدت نفسي في موقف اضطررت فيه إلى التعامل مع أشخاص من ديانات أخرى، شعرت أنه من المهم للغاية مساعدتهم وتشجيعهم على العيش وفقًا لأسمى مبادئ دينهم، حيث إن الروح الدينية الحية أمر حيوي للمضي قدمًا. إن حضرموت، كما قلت تميل بشكل مؤسف نحو الشكلية المفرطة، وكثيرًا ما وجدت الدعم في جلب أفكار إلى الواجهة حول ضرورة العمل والعيش وفق روح الدين. هذا الأسلوب في التعليم استخدم في العمل مع القوات العسكرية وكذلك مع الأطفال في المدارس الجديدة، وخاصة في مدارس الاطفال في القرى والمدارس البدوية للبنين والبنات. لدى مساعدي في الجانب التعليمي شخص مرشح للعب دور مدرس يشرح للطلاب الروح العامة للدين، في حين يترك للمدرسين الآخرين على سبيل المثال شرح شعائر الصلاة وأحكام الصيام. وبمرور الوقت اتفق الجميع على أن مكانة الدين في شؤون البلاد تتعزز ولا تضعف” (إنجرامس ١٩٩٣: ١٥- ١٦).
ومع ذلك، على الرغم من دعم سياسة إنجرامس من قبل سلاطين القعيطي والسادة من آل الكاف والسقاف والمحضار، لكنه لم يستطع أن لا يرى مدى عدم الثقة الذي استقبل به ظهور البريطانيين من قبل الكثير من الحضارم، وخاصةً أعضاء المجتمع المناهضين للسادة الإرشاد. انتشرت القصائد والأغاني والنكت في جميع أنحاء البلاد، والتي تصور تكتيكات الأجانب – كناس متنكرين، ذئاب بملابس بشرية. واحدة من هذه النكت يقدمها إنجرامس في مذكراته.
“لقد تحدثت قبل فترة مع العديد من الأشخاص المهمين في المكلا حول المساعدة التي تقدمها حكومة صاحب الجلالة. وأعربوا عن امتنانهم، لكن كانت لديهم شكوك فيما إذا كان ذلك سيؤدي إلى زيادة السيطرة وما إذا كان سيتحول إلى استعمار بريطاني كما يسمونه. قال أحدهم – يأتي البريطاني إليك ويقول: “أود البقاء في منزلك ومساعدتك، لن أزعجك، أريد فقط صداقتك، ومع ذلك سأدفع”. وبعد فترة يقول: “أود أن أعلق قبعتي هنا، فهي لن تزعجك”. ثم يضيف: “والمعطف أيضًا”. وانضم شخص آخر للحديث وقال: “… ثم سيظهر سروالة ولن يستطيع المغادرة”. وبعد بضعة أشهر عندما دعا محافظ عدن لاجتماع في حضرموت وتحدث إلى المجتمعين حول المساعدات السخية للغاية التي تقدمها حكومة صاحب الجلالة لمكافحة المجاعة، وفي خطاب الرد بعد أن أعرب عن الامتنان، طُلب منه تأكيدات بأن لا يكون وراء هذا الكرم إلا الصداقة فقط. أعطى المحافظ بكل سهولة هذه التأكيدات، لكن الحقيقة هي أن عرب جنوب شبة الجزيرة العربية يعرفون جيدًا ما يعنيه التغلغل السلمي للإنجليز في أماكن مثل زنجبار في الماضي، وهم حذرون منا حتى عندما نقدم لهم العطايا” (إنجرامس ١٩٩٣: ١٥ – ١٦).
وفي الجزء الأخير من الوثيقة يقدم الكاتب عددًا من الاستنتاجات والتنبؤات، وأهم ما يتعلق بموضوعنا هو ما يلي: “(١) توجد في الشرق الأوسط مناطق متخلفة، حيث لأسباب مناخية، مثل حالة التربة، طبيعة السكان والنظام السياسي لا يمكن أن تكون هناك إدارة إستعمارية بالمعنى المعتاد للكلمة <…>. (٢) أفضل طريقة للتعامل مع هذه المناطق هي تنظيم نظام للسيطرة السياسية الناعمة أو التوصيات التي لا تعتبر حكمًا مباشرًا ولا غير مباشر ولا تُعد في الوقت نفسه عدم مشاركة كاملة فيه. (٣) من المستحيل أن تتوقع من الناس التصرف بمسؤولية إذا لم يتم منحهم المسؤولية الكاملة. وفي البلدان المعقدة مثل حضرموت، حيث الموارد الاقتصادية محدودة للغاية، فإن الأمل الوحيد للخلاص يكمن في ضمان استعداد الناس لتدبير أمرهم بأنفسهم” (إنجرامس ١٩٩٣: ٢٠ – ٢١).
ويقدم إنجرامس أيضًا بعض التنبؤات، أو كما يسميها هو “استنتاجات عامة”: “إن جنوب غرب شبة الجزيرة العربية – مملكة اليمن ومحمية عدن – جزء لا يتجزأ من العالم العربي، ولكنها وجنوب شرق شبة الجزيرة العربية متخلفتان كثيرًا مقارنةً بدول الشمال العربي. ومع ذلك، يجب عليهم عاجلًا أم آجلًا أن يلتحقوا بالركب ويشكلوا الصورة الشاملة للوحدة العربية، وأعتقد أن أساليب التطور السياسي في حضرموت، والتي تستطيع ونأمل كذلك أن تؤدي إلى تشكيل اتحاد فيدرالي لدولة حضرموت، وفي نهاية المطاف ستجعل هذه المنطقة أكثر جاهزية ورغبة للتوافق مع مخطط الوحدة العربية. وإن عدن بالإضافة إلى كونها حصنًا إمبراطوريًا ومركزًا للتجارة، فقد لعبت في الماضي دورًا تعليميًا في هذه المنطقة، وإذا ما استمرت عدن في التطور كمركز ثقافي فإنها ستساعد أيضًا اليمن والمحميات على المضي قُدُمًا على طريق الوحدة العربية” (إنجرامس ١٩٩٣: ٢٢).
بالنسبة لإنجرامس، فإنه كان واضحًا الشعور بالتفرد والتميز الذي يشعر به الحضارم (حضرموت وشتاتها ٢٠١٧: بيتوريس ٢٠١٧). هذا الشعور – هو نتيجة تراكم كافة مكونات الهوية الثقافية، مما حول سكان المنطقة إلى مجتمع خاص. لكن التغيرات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الحضرمي لم تسر كما خطط لها في لندن، عندما خرجت بريطانيا من عدن وجنوب شبه الجزيرة العربية “بلا مجد، ولكن أيضًا بدون كارثة” (خروج بريطانيا من عدن والجنوب العربي ٢٠٢٠).
إحصائيات وديناميكية الهوية الحضرمية
كان للأحداث في داخل البلاد وخارجها تأثيرها الحاد على الوعي الذاتي لسكان حضرموت، وبالتالي قُدمت محددات للهوية التقليدية كالآتي:
١) بحسب الأصل والطبقة الاجتماعية.
٢) بحسب الجينات (حضرمية).
٣) بحسب اللغة (التحدث باللغة العربية).
٤) بحسب الدين (مسلم – سني – شافعي).
ولفترة طويلة أرجع سكان حضرموت مفهوم “اليمنيين” في الغالب إلى أولئك الذين يسكنون الجبال في الشمال الغربي. وقد استخدم مصطلح “عربي” كمرادف لمفهوم “الشخص الكامل الذي يستطيع الشرح بلغة سليمة”. وللانتشار الواسع والقبول لأفكار القومية العربية، كانت هناك حاجة إلى مجموعة كاملة من الأحداث السياسية الخارجية، وأهمها كانت الثورة المناهضة للملكية عام ١٩٥٢م في مصر، والتي ألهبت مشاعر الاحتجاج في جنوب شبه الجزيرة العربية. في حين أثارت الإطاحة بالملكية في شمال اليمن عام ١٩٦٢م مسألة الكفاح المسلح في الجنوب.
أصبحت قضية الوطن اليمني الموحد موضع نقاش ساخن ليس في صنعاء وعدن فحسب، ولكن أيضًا في المدن الساحلية في حضرموت والمناطق الداخلية. وكانت الخطط البريطانية لإنشاء اتحاد فدرالي للجنوب العربي، والذي سيشمل جميع كيانات الدولة الـ ٢٥ في المحميات الغربية والشرقية لم تلقَ دعمًا من السلطات والمجتمع في سلطنتي القعيطي والكثيري.
ومع بداية إنهاء الطبقية في المجتمع (روديونوف ٢٠٢١) جذبت الأحداث الثورية الشباب المتطرف من جميع الطبقات (خاصة الطبقات العليا والأدنى). بعد ذلك تمت الإطاحة بآخر سلطان حاكم من سلالة القعيطي غالب بن عوض بعد فترة وجيزة من الرحيل المتعجل للبريطانيين في ١٦ من سبتمبر ١٩٦٧م، وفي الثاني من أكتوبر من العام نفسه تم عزل السلطان حسين بن علي الكســادي.
وإليكم بعض التواريخ الأخرى: في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م تم إعلان جمهورية اليمن الجنوبي الشعبية، وأعيد تسميتها في العام ١٩٧٠م، إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، واتحدت في ٢٢ من مايو ١٩٩٠م مع الجمهورية العربية اليمنية تحت مسمى الجمهورية اليمنية، والتي تشهد منذ العام ٢٠١١م أزمة اجتماعية سياسية حادة. وحضرموت تابعة للجمهورية اليمنية مهما كان اسمها كإحدى المحافظات.
وفي عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ولمكافحة النزعة الانفصالية، جرت محاولة للتخلي عن الأسماء التاريخية للمحافظات وتم استبدالها بالأرقام من واحد إلى ستة. وهكذا ظلت حضرموت لعدة سنوات تسمى رسميًا المحافظة الخامسة، والحضارم هم سكان المحافظة الخامسة. وبدلًا من الاتحاد حصل سكان الجنوب العربي على دولة مركزية وعاصمتها عدن، وبدلًا من الإسلام – ماركسية لينينية بشعارات العدالة الاجتماعية، مناهضة الاستعمار، التضامن الطبقي، الأممية والإلحاد. إذا كان الشعاران الأول والثاني قد حظيا بتأييد واسع النطاق، فإن بقية الشعارات سببت ارتباكًا بين الكثيرين، وغالبًا ما ارتبط ذلك بصعوبات ترجمة المصطلحات الماركسية إلى اللغة العربية. وهكذا استبدلت الحكومة الجديدة مسمى الطبقات الاجتماعية غير متساوية الحقوق بكلمة “العمال”، ولهذا السبب انتشر الشعار “ياعمال العالم اتحدوا”. لم يكن واضحًا للجميع: “لماذا يجب أن يتحد العبيد؟”. إلا أن إدخال أيديولوجيا جديدة لم يصاحبها قطيعة كاملة مع التقاليد الثقافية لحضرموت. وقد تم الحفاظ على بعض الشعائر الاسلامية في الحياة اليومية واختفى بعضها، مع الحفاظ على المبادئ الإسلامية الأساسية.
الطقوس الدينية في حضرموت كما هو الحال في المناطق الشافعية الأخرى في اليمن تقع بشدة تحت تأثير التصوف الإسلامي – الصوفية، التي أنشئت مدرستها الخاصة هنا – الطريقة العلوية. وتؤكد على دور حضرموت في نشر الإيمان بإله واحد، بدءًا بأنبياء ما قبل الإسلام وانتهاءً بممثلي السادة من آل باعلوي وغيرهم من الصالحين، الذين ينبغي أن يكونوا بمثابة المعيار الأخلاقي لكل مسلم.
تأسست الطريقة العلوية على تعاليم وممارسات المدارس الصوفية الشاذلية (شمال أفريقيا) والقادرية (العراق)، وهي ترشد المسلمين نحو تحسين الصفات الشخصية التي يشجعها الكتاب والسنة. وتنص الطريقة على زيارة قبور الصالحين أثناء الزيارات الدينية، وقراءة القصائد (ربما مقصود بالقصائد أذكار أو أناشيد) عن أعمالهم الصالحة التي قدموها للمجتمع، وقدراتهم الخارقة على تحقيق الكرامات التي منحت لهم أثناء الحياة، واحتفاظهم بالتأثير بفضل الله حتى بعد الموت. إن أهمية الزيارات في حضرموت، التي تغطي أراضيها شبكة كثيفة من الشواهد الدينية المقدسة، تتجاوز الحدود المحلية بكثير. وقد حظيت التقاليد الصوفية – الشافعية في حضرموت باعتراف دولي واسع النطاق. وإن دورها في أسلمة جنوب شرق آسيا جعل من حضرموت مركزًا ثقافيًا إسلاميًا مهمًا عابرًا للحدود الوطنية (كنيش ٢٠٠١). الحضارم واثقون من أن نصف المسلمين على هذا الكوكب يدينون بارتباطهم بالإسلام للمهاجرين من حضرموت.
أدى توحيد الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عام ١٩٩٠م، إلى زيادة التعاطف عند الجنوبيين مع الأحزاب التي تستخدم الأجندة الإسلامية. ومع ذلك، فإن النشوة الأولية سرعان ما تحولت إلى خيبة أمل متزايدة بالنظر لنتائج الاتحاد مع الجمهورية العربية اليمنية. وأصبحت فصائل الحراك السلمي الجنوبي سلطة قوية في الجنوب، والتي تبوَّأ فيها أبناء حضرموت غالبية المناصب القيادية.
وعلى خلفية هذه العمليات، أثار إطلاق المشروع الديني الكبير من قبل القائد الكاريزمي الروحي السيد عمر بن حفيظ من آل بن الشيخ أبي بكر حماسًا كبيرًا لدى سكان المحافظة. وفي العامين ١٩٩٣م – ١٩٩٤م افتتح في تريم مدرسة دينية، والتي تحولت عام ١٩٩٧م إلى مركز تعليمي دولي حديث تحت مسمى “دار المصطفى”. ومن أُسُسِ هذا المنهج إحياء التقاليد الحضرمية الشافعية الصوفية، وكان بين الطلاب الأجانب عدد من الأوربيين، الذين أسهموا في نشر محاضرات الحبيب عمر ومواعظه عبر الإنترنت مع ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.
السلفيون الراديكاليون (أنصار “الإسلام السلفي” الذي تروج له المملكة العربية السعودية) يسمون الصوفيين بعباد القبور، ومروِّجي الخرافات، ويدينونهم لاتباعهم الطريقة العلوية بوصفها مظهرًا من مظاهر “الأعمال العائلية”، والتي من خلالها يُخضع رؤساء العائلات الأعضاء من غير السادة في المجتمع لإرادتهم، مما يجبرهم على المشاركة في طقوس عفا عليها الزمن (كنيش ٢٠١٨: ٢١٨). وحتى في أوقات السلم كانت الهجمات على المقدسات الصوفية في تريم ومدن أخرى في حضرموت تتطلب الحراسة والحماية. وتواصل دار المصطفى في تريم تقاليد المدرسة الشافعية – الصوفية الأصيلة، حيث تحاول محاربة الموجة القوية من السلفية والجهادية المتطرفة (المحظورة في روسيا من أنصار “الحرب المقدسة”)، والمتمثلة في حضرموت بعدد من التنظيمات المتطرفة – من “أنصار الشريعة” إلى “أبناء حضرموت” (الاسم الذي استخدمه تنظيم القاعدة عند سيطرته على ساحل حضرموت في ٢ أبريل ٢٠١٥م).
وبعد الاستيلاء على المكلا في ربيع عام ٢٠١٥م، وسيطر الجهاديون عليها وعلى ساحل بحر العرب بأكمله تقريبًا لمدة عام كامل، حاولوا خلال هذه الفترة تحسين سمعتهم عن طريق الاهتمام بالاحتياجات الاجتماعية للسكان، ومعاقبة اللصوص، والاستمرار بالتوازي بالاستيلاء على المساجد الصوفية وتصفية مراكزها المقدسة أو إغلاقها. وحاولوا تبرير قمعهم بضرورة وقف الفوضى وحماية السكان من “الشماليين الحوثيين الموالين لإيران”.
وفي أبريل ٢٠١٦م، أجبر الجناح الإماراتي للتحالف العربي (رابطة الدول العربية لحل الأزمة اليمنية) الجهاديين على الفرار من المدن، الأمر الذي تطلب الاستيلاء الفوري لملء فراغ السلطة في هذا الجزء من حضرموت. ودفع التهديد المستمر للإرهاب النخب السياسية المحلية إلى عقد مؤتمر حضرموت في المكلا في أبريل ٢٠١٧م، بمشاركة نواب من كافة مديريات المحافظة. وأعلن المؤتمر سياسة الحكم الذاتي لمنع عودة “أبناء حضرموت” من معسكراتهم في المناطق الصحراوية.
وفي عام ٢٠١٨م، انحاز مؤتمر حضرموت إلى المجلس الانتقالي الجنوبي، وفي إثره بدأ الجناح السعودي للتحالف العربي في زيادة وجوده في حضرموت الداخل، ودخلت حضرموت الساحل في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي لـ الجناح الإماراتي للتحالف. وفي تلك الفترة واجه محافظ المحافظة حينذاك اللواء الركن فرج البحسني صعوبة في أداء دور الوسيط بين الأطراف المتنافسة.
إن انتقال التنافس السياسي للتحالف العربي في الجنوب إلى المستوى الطائفي ينعكس أيضًا حتى في أفكارهم عن الهوية الثقافية للجنوبيين والشماليين. ويدعم الجناح المعتدل من السلفية مفهوم الهوية الجنوبية، ويتهم السلفيين المتطرفين، أو “السلفيين الوهابيين”، بالسعي للحفاظ على الهيمنة الشمالية في الجنوب ونشر التطرف الديني فيه، وهو ما يتعارض مع التقاليد الاجتماعية والثقافية الأصيلة للجنوب.
وفي سياق تفاقم الصراع السياسي في الجنوب بشكل عام وفي حضرموت باعتبارها المحافظة المهمة فيه، تتزايد بشكل خاص أهمية الديناميكيات الاجتماعية والثقافية في منطقة الصراع. وتعتمد نتيجة الصراع على أي من الأطراف المتنافسة، المملكة العربية السعودية أو المجلس الانتقالي الجنوبي، قادر على كسب المزيد من الثقة لدى الزعماء الدينيين من أصحاب التقاليد الشافعية الصوفية في حضرموت. لكنَّ هناك احتمالًا لسيناريو آخر أيضًا – بمشاركة المعارضة الشافعية الصوفية. إذا نظرت النخب الروحية في حضرموت إلى تصرفات الأطراف المتنافسة إلى أنها شكل من أشكال إنشاء جناح سلفي موحد يهدد مستقبلهم، فإن الوضع في المجال الطائفي للجنوب سيحتفظ بإمكانية الانفجار.
ومهما كان الأمر، فإننا نرى أن المكون الطائفي للهوية العرقية والطائفية الحضرمية طوال القرنين العشرين والحادي والعشرين قد خضع لاختلافات واضحة في ثلاثة مستويات للمكون العرقي ( منذ ١٩٧٠م “حضرمي – يمني – عربي”)، وفي أيامنا هذه بشكل متزايد يتم استبدال الحلقة الثانية بـ “مواطن من جنوب الجزيرة العربية”، كما هو الحال في عهد إنجرامس.
وتعني الهوية العرقية الطائفية أيضًا أن لدى حامليها ذاكرة ثقافية مشتركة، ومن سماتها إضفاء المثالية على الماضي. هناك حنين إلى الشعارات والإصلاحات الاجتماعية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ويتم تذكر عائلة إنجرامس بإعجاب – هارولد ودورين وليلى، والنكت عن العهد البريطاني أصبحت خالية من سخرية الماضي.
بكم هذه السمكة؟ – تسأل المرآة العجوز في السوق. – يجيب البائع: “ألف ريال”. – في عهد البريطانيين سعرها شلن! – تقول السيدة العجوز. – “أعيدي لنا الإنجليز، وسأعطيها لك مجانًا!” – يجيب البائع.
references
[1] عن ثقافة الوثائق المنظمة للحياة الاجتماعية والخاصة للحضارم، انظر: (روديونوف، شونيغ ٢٠١١)