شخصيات
د. محمد سالم باحمدان
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 63
رابط العدد 32 : اضغط هنا
معركة نقاب باخميس وكريف بابكر (1374هـ/1955م):
قابلت البادية القوة العسكرية القعيطية، وجرى إطلاق النار، فأسفر عنه فرار البادية، وجرى تبادل إطلاق آخر للنار في كريف بابكر، فأسفر عن مقتل البدوي – سالم يسلم بافيّاض- وجرح آخرَيْنِ، في حين جرح ثلاثة جنود، أُرسلوا للعلاج في شبام(74) ، وانهمر الرصاص كثيرًا على القوات العسكرية لأن البدو كانوا على مرتفع، ولولا العناية الإلهية ثم تدخل سلاح الجو البريطاني لكانت الكارثة كبيرة. وإذا كان من جديد عن أمر هذه المعركة، فهو رأي قائد الشرطة المسلحة الذي رأى اللجوء إلى باب المفاوضات لا الخيار العسكري حَلًّا لهذهِ المشكلة، وقد رُفِض رأيه، ومع ذلك فقد كان مشاركًا في تلك المعارك(75). ونتيجة لفاعلية سلاح الطيران، فقد استسلمت قبيلة بارشيد، ووصل مقدَّمها إلى المكلا، لإعلان طاعته وطاعتها.
أما القوات القعيطية، فقد واصلت طريقها نحو الجنوب للاتصال بحامية (مولى مطر)، التي تعرَّضتْ مساء 27 /6 /1955م لعدوان البادية، وتم للقوات احتلال المرتفعات الجبلية، والقضاء على أحد البدو(76)، ثم وجَّهت الحكومة إنذارها إلى بادية دوعن في 3/ 7/ 1955م بالاستسلام، كما وجَّهت بيانها التضامني مع مواليها في 9 /7/ 1955م، وكذا بيانها إلى السموح في 2/ 7/ 1955م(77)، الذين وصل مقدَّمُهم إلى المكلا، لتقديم طاعته للسلطان. وخشية تفاقم الأوضاع وحدوث ما لا يحمد عقباه، تحرك وفد من دوعن ضم السادة: علوي المحضار، وعبدالله حامد البار، وعمر محمد العطاس، والشيخ/ حسين العمودي – منصب بضة – إلى المكلا، وفي عقبة الجحي التقوا بجيش قعيطي زاحفٍ على البادية، وطلب الوفد من الجيش تأجيل الزحف، وإمهالهم مدة يستطيعون فيها إقناع البادية، فوافق الجيش، شريطة أن يتم ذلك خلال (6) ساعات، وهو أمر مستحيل، فطلب الوفد مهلة (12) ساعة، ثم عاد وطلب (24) ساعة، وعندما رفض طلبهم، لم يسعْهم الأمر إلَّا أن يعودوا من حيث أتوا(78).
لقد بُذِلت محاولات عِدَّةٌ للاهتداء إلى الموقع الذي يدير منه المقدّم/ سعيد بانهيم عمليات المعركة القائمة بين رجاله من الثوار وبين قوات الحكومة المرابطة في المراكز الحصينة، ولكن تلك المحاولات لم تنجح(79).
وعرضت هذه المشكلة على مجلس الدولة، فقرر:
1- أن تنقل السيارات الحمول مرتين في الشهر أو نصفه، بحسب حاجات البلاد، ووجود الغذاءات في المكلا، وسير الحمول على الجمال.
2- اشتراط أن لا تحمّل هذه السيارات إلا المواد الغذائية المذكورة أدناه وبالنسب التي أمامها:
المادة | النسبة |
رز | 8 % |
سكر | 8 % |
لخم | 8 % |
سمن | 8 % |
سليط | 8 % |
قاز | 10% |
بضائع متنوعة | 10% |
3- وضع نظام إيصال وتنفيذ هذه العملية(80).
وحاولت الحكومة تهدئة الأوضاع من خلال إجراء اللقاءات، وفتح باب المفاوضات مع بانهيم الذي طالب بوساطة جامعة الدول العربية(81)، وبالفعل عُقد لقاء بين الحكومة والبادية في منطقة حوفة – أيسر وادي دوعن – في (28- ذي الحجة -1374هـ) 17أغسطس1955م، اتَّـفَـقَ فيه الطرفان على عددٍ من الشروط، أهمُّها:
1- أخذ الحكومة أربعة رهائن من البادية (مراشدة، خامعة، عوابثة، سموح).
2- تنازل الحكومة عن الغرامة المفروضة على البادية، وغرامات الطرق.
3- إلزام البادية بدفع ثلثَيْنِ من مجموع منهوبات رعايا الدولة، ودفع أحد الثلثين الشيخ/ عبدالله سعيد بقشان، والآخر أحد المصلحين.
4- تقرَّر أن يكون الحمول من المكلا إلى الداخل على جمال البادية على النظام الذي ترتب في (مولى مطر) عام 1373هـ، وتقرَّر أن يكون الفصل (50) و( 60) روبية، والأسبقية للجمال في الحمول الخارج من المكلا إلى الداخل نصيفه (طن) ونصيفه (كيل) عند المقاصاة، وكل راحلة تأخذ حمولتها.
5- على أي فرد لديه شكاية أو مظلمة، الاتصال بنائب اللواء بالطرق الحكومية المعتادة، وفيما إذا لم يحدث الإنصاف، أو شعر بالحيف، فيتصل بوزير السلطنة، وهو الذي سيتولى بحث القضية أو القضايا بكل دقه(82)، وقد اسْتُـثْـنِـيَ من الحمول على الجمال بعض المواد لأهميتها.
وشرعت الحكومة بعد ذلك في إصلاح الخراب الحادث بالطريق الغربية، وبناء حصون في الجبل والرحاب، ثم استؤنفت حركة النقل، غير أن البادية غارت على منطقة (النقعة)(83)، من أجل ذلك دعا وزير السلطنة أكثر مقادمة البادية لمناقشة شؤون عامة مصالح البادية. فما كادوا يعودون إلى مثاويهم، حتى يفاجأُوا باعتراض مجموعة من بادية سيبان سبيل سيارة ديزل “تابعة لمشروع البمبات” متجهة إلى سيؤون، تحمل على متنها قِطَـعًا وأدواتِ المشروع، وأحدثوا بها سلبًا ونهبًا وتكسيرًا لصناديق الحديد، ثم تركوها(84)، فنتج عن ذلك أنْ ثارتْ ثائرة الحكومة، وتدخَّل سلاح الجو البريطاني ليهاجموا قبيلة بانهيم هجومًا موافقًا لحجم فترة الصراعات والعهود ونقضها، خاصة في هذه الفترة الحساسة والحرجة في تاريخ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وعادتْ مشكلة (منع السلاح) إلى الظهور من جديد؛ نتيجة لأحداث قطع السبل، واعتراض سبيل الحجاج الذاهبين لأداء فريضة الحج، ورافق تلك المشكلة الإشارة إلى أوضاع القضاء، لذلك أرسل مقادمة البادية خطابًا إلى سكرتير الدولة عنْ هذه المواضيع، فردّ نائب لواء دوعن على (مشكلة السلاح) بأنه تمّ تحديد مواقع أخرى لتضع البادية سلاحها فيه، وتشمل هذه المواقع:
1- الخارج من طريق وادي العين أنْ يضع سلاحه في مركز (شرج الشريف).
2- الخارج من طريق ليسر أنْ يضع سلاحه في مركز (حوفة).
3- الخارج من طريق الجحي أنْ يضع سلاحه في مركز (الجحي)، أما بخصوص القضاء فلم يكن ردّه مشجّعًا(85).
السفر إلى السعودية:
من المعروف أن بانهيم قد سافر إلى السعودية في عام (1376هـ) 1957م، وقد رافقه في هذه الرحلة المقدم/ سالم سعيد باضروس المرشدي، والشيخ/ عبيد سالم باجوه المرشدي، وسافروا إلى السعودية عبر الصحراء ممتطين الجمال، وفي الطريق قابلوا المقدم ابن يربوع مقدم قبيلة الصيعر، وغيره من المقادمة، ووصل بانهيم إلى السعودية، وقابل الملك/ سعود بن عبدالعزيز، الذي أهداه أكثر من (20) شرفة، أطلق عليها محليًا (أم مغر).
وبعد مضي عشرة أشهر، وفي ظل الأجواء المتوترة بين الحكومة والبادية، سرتْ إشاعةٌ تُـفِيدُ أنَّ بانهيم غادر السعودية، تصحبه قافلة من الجمال، ولا يدري أحد ماذا تحمل، لذا أرسلت الحكومة فرقةً من جنودها على السيارات إلى (هينن وقعوضة) لمتابعته(86)، غير أنه أفلت منها، ووصل إلى بلدته، وقام بتوزيع تلك الشرف على مقادمة سيبان وعقَّالها.
وعقدتْ معه الحكومة مؤتمر (شهورة) في عام (1378هـ) 1958م(87)، وتم في هذا الاجتماع إهداء حسن ابن المقدم بانهيم بندقية (شرفة) مع كمية من الذخائر من قبل قائد الشرطة المسلحة، ضمن سياسة الترغيب والاستمالة، وليس المقدم بانهيم كما أشار إلى ذلك الأستاذ الخنبشي.
وأخذت هذه القضية – استخدام الأسلحة – حيزًا كبيرًا، وأصبحت الشغل الشاغل للبادية، عندما تجدَّدت مرةً أخرى، لذلك أصدر السلطان/ عوض بن صالح القعيطي، وبالاتفاق مع مقادمة البادية منشورًا في عام (1380هـ) 1960م حدَّد فيه حالات إطلاق النار، وهي على النحو الآتي:
1- في أثناء المواسم من المزارع، وليس من البيوت لطرد الطيور والعول والقرود الضارة بالزراعة.
2- للقضاء على الحيوانات المفترسة، كالذئاب والضباع.
3- ليلة هلال رمضان، وليلة هلال عيد الفطر؛ لإشعار الناس بهذه المناسبات المباركة.
4- تجربة البنادق تحت إشراف الشرطة، وفي المحلات التي تحددها للبائع والمشتري لتجنّب الضرر بالناس.
5- في الزواجات شريطة إشعار الجهات الرسمية قبل الميعاد بأسبوع.
6- تجربة البنادق في أثناء زيارة قيدون تجرى في مكان تخصصه الشرطة في حالات بيع السلاح وشرائه بين القبائل الحضرمية لبعضهم البعض.
7- في حالة الحريق، وسقوط البيوت، ووصول السيل(88).
ونفضت البادية يدها مرة أخرى من ذلك الاتفاق، وبدأت التحضير لاجتماعات المعارضة ضد ذلك المنشور، وشمل التحضير بعض المقادمة الذين لم يكن لهم ارتباط بتاريخ الصراع بين الطرفين، مثل الحكم/ مسعد بن طناف برميدان الصيعري(89)، وكان بانهيم أكثر المقادمة جراءة، وذلك حينما بعث برسالة إلى وزير السلطنة في (جمادى الأولى1381هـ) نوفمبر1961م يخبره أن الجواب الذي كتبه للسلطان عوض بخصوص (منشور إطلاق النار) (أنه لاغٍ لا عمدة عليه)(90).
وعقدت قبيلتا سيبان والعوابثة اجتماعًا في 27رجب 1380هـ/14يناير1961م في (شرج حيح)، واتفقوا فيه على:
1- إرسال رسالة باسم مقادمة سيبان والعوابثة موجهة إلى السلطان/ عوض القعيطي، يشعرونه فيها أن المقادمة تنحوا عن التقدمة، وأنهم غير قادرين على تحمل تبعاتها، وتم التوقيع عليها من قبل أولئك المقادمة.
2- إرسال رسالة أخرى باسم بادية سيبان والعوابثة موجهة إلى السلطان عوض، وتضم هذه الرسالة موقف البادية الرافض لمنشور الحكومة الذي عَـدُّوه مخالفًا لأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، وللمكاتبات التي بين الحكومة والبادية، ومخالفًا أيضًا للسوالف والعوائد، وطالبت بإلغاء هذا المنشور، أما المسألة الأخرى التي تضمَّنتْها الرسالة هي عدم اعتراف البادية بكلٍ من المجلس السلطاني ومجلس الدولة اللَّذَيْنِ اعتبرتهما البادية سببًا في المشاكل التي حدثتْ بينها.
3- ألَّا تتجاوز السيارات في أثناء مرورها الطريق المحدَّد لها على الإطلاق، بعد ذلك استأنفت البادية بقية مفاوضاتها في (القارة الحمراء)(91)، وواضح جدًا في تلك الاجتماعات تغيُّب أطراف أخرى من البادية ذات ثقل.
ورد السلطان برسالة استنكار واستغراب، كتبها بخط يده إلى مقادمة البادية في 18رمضان1380هـ/15- 3- 1960م(92)، ثم تلا ذلك قيام نائب لواء المكلا في (شوال1381هـ) إبريل 1961م بتجريد حملة عسكرية مدعّمة بالجنود المسلَّحين والدبابات على قبائل سيبان والعوابثة وآل العمودي، الغرض منها إخضاعهم لقرار السلطنة، القاضي بنزع السلاح(93)، وبدأت تلوح في الأفق بوادر عودة الصدامات، فتحرَّك نائب دوعن بمعيَّة كاتب محكمتها وبعض الجنود للقائهم، وذلك في أثناء اجتماعات مجلس الدولة والسلطان عقب الرسائل المتبادلة بين السلطان ونائب دوعن وبانهيم(94).
ووافق مجلس الدولة في ذلك العام على إطلاق النيران بشروط، هي:
1- زيارة قيدون.
2- التوجه إلى بضه للقنيص.
3- استقبال صدقات العمودي.
ولم تُكَلَّل الاجتماعات بالنجاح، أو حتى محاولة الوصول إلى أي اتفاق تسوية، من أجل ذلك عُقِد اجتماع دعتْ إليه الحكومة، وبخاصة قبيلة سيبان في العام نفسه في منطقة (بين الجبال)، حضره من جانب الحكومة عدد من المسؤولين، من بينهم نائب دوعن، ومن مقادمة البادية: سالم الجويد باسلوم، وسالم بحمد باقديم، وسالم مبارك بارشيد، وسعيد بانهيم مقدم المراشدة، وهدف الاجتماع إلى تسوية الخلافات بين البادية والحكومة، وقد حمل الوفد الحكومي هذه الشروط:
1- تقديم المتهم الذي قام بنهب السيارة التي كانت في منطقة الركبة بوادي حيرة.
2- إلغاء قرارات كل من اجتماعي (السويرقة وشرج حيح) اللَّذَيْنِ عقدتهما القبائل، وبشكل خاص قرارات عدم الاعتراف بمجلسي الدولة والسلطان، والتنازل عن قرار التخلي عن التقدمة.
3- التحقيق في كل قضايا النهب والسطو التي حدثت خلال الفترة الماضية(95).
وطلب المقادمة فترة زمنية تقدّر بشهر، كي يتمكنوا خلالها من إبلاغ بقية مقادمة القبائل الأخرى التي حضرت لقاء (السويرقة وشرج حيح)؛ لأن هذه القرارات والاتفاقات ليست من صنعهم فقط، بل اشترك الجميع فيها، ولابد من العودة إليهم، وفي هذه اللحظة حدث تحوُّلٌ خطير في موقف المقدم بانهيم، إذ أعلن أمام الجميع:
1- أنه موافق على كل الشروط التي حملها وفد السلطة.
2- أنه مستعد هو وقبيلة المراشدة لتنفيذ ذلك على أنْ يُـقَدَّم أي شخص من قبيلة المراشدة، قام بالسطو والنهب.
3- سحب اعترافه لقرارات مؤتمر (السويرقة وحيح).
4- تأييده للحكومة والتزامه بقراراتها(96).
وكان هذا الموقف، وفي هذا الظرف بالذات كان تعبيرًا عن رؤية خاصة للمقدم بانهيم للمستقبل، خاصة أن مطالب البادية الاقتصادية تحوَّلتْ إلى مطالب سياسية، وليس هناك شك في أنَّ عواقب ذلك الصراع السياسي قد تؤدِّي إلى تجدُّد المصادمات مع الحكومة القعيطية، التي تملك من القوة وطول النفس شيئًا كبيرًا، والخلاصة لقد أصاب بانهيم في حين أخطأ بقية المقادمة في أمر التمادي في حلبة الصراع، ولا يُـلَامُ بانهيم، وهو الذي شهد استسلام (نوّح) وبعض سيبان، وهو الذي عانى الأمرَّيْنِ، حتى لقاءاته بالحكومة كان يحرص عليها أن تتم خارج المكلا(97).
واستمر بانهيم ضمن مجلس قيادة سيبان، ولم يؤثِّـر ذلك الانسحاب في شخصه، أو يضعف من قدراته، “ففي عام (1385هـ)1965م، عقد لقاء عام لأفراد التحالف السيباني في منطقة (بين الجبال)، ولقد كان مُنصِتًا بكل ما يملك من حواس لحوارات القوم، فكلٌ يشرح ظروف المرحلة، ويدعو للخروج عن المألوف، والتمرُّد على الطغيان الإنجلو-سلاطيني(98). وكان من بين المتحدِّثين شاب أطال الحديث، وأكثر من المقترحات، وأطنب في وصف حزبه، وإخلاصه للقضية، ثم دعا إلى وجوب تأييده، والانضمام إليه.
ولم يُطِقِ الزعيم السيباني سماع أقاويل المتحدِّثِ الشاب، فأمره مقاطعًا بحزم بوجوب الصمت، فرد الفتى في جرأة الشباب وحماسهم، أنا ابنك يا عم سعيد، وواحد من عيالك المخلصين، فكيف تأمرني بالصمت؟
فرد عليه الشيخ بهدوء، أعرفك وأعرف مَنْ تكون، دعني أحدثك بحديث الجمّالة، أنا جمّال كما تعلم، أقود قافلتي على الطرقات والمسالك محمَّلة بين المدن بالبضائع، فنحن الجمّالة لا نعطي قيادة القطار (القافلة) إلا للثلب (كبار السن) من الجمال ولا نسلمها للحشوان. لأن الحاشي إذا قاد القطير، با يخبخب بها في العقاب والحسر، وبايوديها للهلاك … وصمت الشيخ، وفطن الشاب إلى ما يقصده زعيمه، فمال إلى الركون”(99).
وبدأت البادية – في الأخير – تخوض غمار التجربة، إذ أقبلت على شراء السيارات – وإن كان في نطاق ضيق – وتسلّم دفة الصراع المقادمة في أن الدولة قامت بنزع السلاح من القبائل، التي تحركت للوقوف أمام هذا الحدث، بعد أن حلّت المسألة مع الحكومة.
4- المرحلة الرابعة (عهد الجبهة القومية):
عقدت البادية اجتماعًا لها في يوم (21- 6- 1387هـ) 26/ 9/ 1967م؛ وذلك لمناقشة تداعيات سقوط الدولة القعيطية، وكان هناك توجُّهٌ عامٌّ لدى كل قبيلة على انفراد بحكم المناطق التي تملكها، وقد صادف مرور الأستاذ/ سالم أحمد باصريح، الذي كان مُـتَّجِـهًا لِـتَـوِّهِ إلى المكلا، لمباشرة أعماله، وقد وقفَ للسلام على المقدم بانهيم، وطلب منه المقدم البقاء لفترة وجيزة، كي يطلعه على أمر مهم، وبالفعل دار اجتماع بينهما، وفي الاجتماع أفضى المقدم بانهيم بمخاوفه من الجديد المجهول، وطلب من باصريح أن يخبر القيادة في المكلا برغبة البادية في التعامل مع النظام الجديد، على أن يوفّر هذا النظام (4 – 5) سيارات، مُهِمَّـتُـهَا نـقلُ قيادة البادية مع حراسة تابعة لها، وأن يسمح لهم بالدخول إلى المكلا بالسلاح، وقد عرض الأستاذ باصريح الموضوع على القيادة، التي وافقتْ على ذلك، وبالفعل أرسل الأستاذ/ سعيد عمر العكبري تلك السيارات إلى البادية، وعقد الاجتماع في المنتزه السلطاني بديس المكلا، وفي هذا الاجتماع طرحت البادية على النظام الجديد رغبتَها في التعامل معه، على أن لا يتدخل في عاداتها وتقاليدها، وأن يلتزم بكل الاتفاقيات التي وقَّـعَـتْـها الباديةُ مع النظام القعيطي(100)، ولا توجد أي إشارة – حتى الآن – تدل على رفض جانب الجبهة القومية، مثل تلك الشروط، ولعله كان من مصلحة النظام الجديد كسب صوت البادية.
واستطاع المقدم بانهيم بهذا الاتفاق، احتواء مشكلة انفجار صراع قبلي بالمنطقة، واحتواء أي ضغائن قد يحويها صدر النظام الجديد عليه والبادية من بعده، وكانت لمثل هذه السياسة نتائج إيجابية في المستقبل – وهو ما ستأتي عليه السطور اللاحقة -.
وتعرّض الشيخ/ سليمان سعيد بقشان للسجن، مع مجموعة من أبناء حضرموت، حيث جرى تجميع المعتقلين في منتصف عام 1393هـ/1973م في (سجن البقرين) بالمكلا، ثم تَـمَّ نقلُهم في العام نفسه إلى معتقل (فتح) بعدن، مُكَــبَّلين بالقيود على متن طائرة عسكرية، وهناك أُودِع في زنزانة مظلمة، زُجَّ فيها بثمانية معتقلين(101)، وهناك تضاربٌ عن أسباب الاعتقال، وليست المسألة هنا مفتوحة لباب الرجم بالغيب، أو التكهُّنات، فالمسألة هنا تتعلَّق بقامة اجتماعية رفيعة المستوى، كان لها الحق في أن تنال نصيبها من التكريم والتقدير، لا السجن والتنكيل.
وسعى المقدم بانهيم إلى حل هذه المشكلة، في أجواء بالغة الحساسية في تلك الفترة، وصعوبة التخاطب مع السلطة، إلا أن الرجل كان أقوى من ذلك، حيث توجَّه إلى (صِيف) عاصمة مديرية دوعن، وقابل المأمور/ أحمد الحامد، غير أن الأخير لم يُـفِدْهُ بشيء، فتوجه إلى المكلا عاصمة المحافظة، وقابل الأستاذ/ صالح منصر السييلي، ولم تثمر هذه المقابلة عن شيء يذكر، لذلك أعلن أنه سوف يتوجه إلى عدن، وهنا أثار بعض أقاربه؛ إذ إنَّ ذلك يعني مغامرة، قد لا يعود منها سالـمًا، فقال: كلمته المشهورة (الشمس قدها بالحَطَق)، في إشارة صريحة منه إلى أنه قد تعدَّى السنَّ المقرَّرة له، وأن الأجل بات قريبًا، فلا يضرُّه ذلك، وكانت هذه الزيارة هي أول زيارة له إلى عدن، وسعى بطريقته البسيطة، للبحث عن كيفية اللقاء بالرئيس/سالم علي ربيع (سالمين)، وقد بدأ لمن قابل المقدّم بانهيم أنه يحلم، ولم يُخفِ البعضُ شُعُورَه بصعوبة المهمة، ولكن في الأخير حدث استنفار، ونجحت المساعي في ترتيب لقاء بين الزعيمين(102)، الزعيم الجمهوري/سالم علي ربيع، والزعيم القبلي المقدم/ سعيد بانهيم، وكان اللقاء بسيطًا بساطة الزعيمين أنفسهما، وكانت حضرموت حاضرة في ذلك اللقاء؛ إذ إنَّ سالمين كان أحد العسكريين الذين درسوا وتدرَّبوا وعاشوا في حضرموت، وبالتحديد في المدرسة الحربية، وكان موضوع اللقاء يتعلق بأحد أبناء حضرموت، ودار الاجتماع، حيث عرض بانهيم قضية الشيخ/ سليمان بقشان، وقدم مطلبين، هما:
1- إطلاق سراح الشيخ/ سليمان سعيد بقشان.
2- السماح للشيخ سليمان بمغادرة البلاد.
ووافق الرئيس/سالم ربيع، على مطلبي بانهيم، وصدرت الأوامر بذلك، وأفرج عن الشيخ سليمان، بعد مضي ما يقارب ستة أشهر، والسؤال المطروح هنا، مَنْ كان يجرؤ على الكلام والإقدام والقيام بمثل هذا العمل؟
الجدير ذكره أن الدكتور/ محمد أبوبكر حميد، كان قد أشار إلى قضية إطلاق سراح الشيخ/ سليمان بقشان، بأنها جاءت بمساعٍ من الملك فيصل، حيث تدخل الأستاذ/ أحمد السقاف الشاعر والبرلماني والسفير الكويتي، لدى السلطات حتى تمّ الإفراج عنه(103).
والحقيقة أن المعلومة جديدة، ولم أقف عليها من قبل، ولا يعلم بها الكثير ممن كانوا قريبين من بانهيم، ولكن قد يعلم بها بعض المقربين من آل بقشان إن كانت صحيحة، وعمومًا فإن هذا الرأي أو ذاك لا يلغي جهود مثل هؤلاء المخلصين، كما أنه في الوقت نفسه يدل على تقديرهم، واحترامهم للشيخ سليمان بقشان.
وتوفي المقدم/ سعيد بن سالم بانهيم في عام1395هـ/ 1975م، ودفن في منطقة بين الجبال، أي بعد مضي عامين على هذه الأحداث العاصفة، وصدقت نبوءته عندما قال: “الشمس قدها بالحَطَقْ”.
الخاتمة:
أشارت الدراسة إلى الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت العصر الذي ولد فيه بانهيم، وتعرّضت لـجذوره ونشأته، وكيفية وصوله إلى قيادة الزي السيباني (مجلس البوة).
وبينت الدراسة الأدوار التي قام بها بانهيم مع النظامين السياسيين اللذين عاصرهما (القعيطي وحكومة الجبهة القومية)؛ ليس هذا فحسب؛ بل تطرّقت الدراسة إلى تقييم مواقف بانهيم من خلال وضعه في الميزان مبيّنة ما له وما عليه.
ويمكن القول إن المقدم/ سعيد بانهيم لم يكن صانعًا لكل لتلك الصراعات، وإنما كان يتفاعل معها عندما تفرض عليه، أو تواجهه عفو الخاطر. ولذلك فإن دراسة سيرته لا تقع إلا ضمن ذلك الإطار التاريخي الذي ولد فيهِ وعاش.
ويمكن القول إن الصراعات التي حدثت كانت نتيجة من نتائج التطورات العالمية الجديدة من ناحية، وانعكاسًا لشكل العلاقة بين النظام القبلي القديم ونظام الدولة الحديث من ناحية ثانية، والمشاكل والصراعات الداخلية، أو التي ألقى المهجر بظلالها على حضرموت من ناحية ثالثة، وبما أن تلك الصراعات قد أثارت – ولا زالت – التباين في الآراء والأفكار، فإن سيرة المقدم بانهيم هي الأخرى سينالها جزءٌ من ذلك التباين والاختلاف، على الرغم من أسبقية هذه الدراسة.
وحتى يتأتى تحقيق ذلك، فإن هذه الدراسة تخلص إلى نتائج عدَّة، منها: جمع المعلومات والوثائق والمخطوطات الخاصة بتلك المرحلة عن أحداثها ورجالها في حَـدٍّ سواء، وجمع أشعار المقدم بانهيم وتوثيقها وغيره من الشعراء، وإخضاعها لدراسة علمية لعلّها تسهم في فتح نوافذ في شخصية الرجل وغيره من الذين عاصروا تلك المرحلة، فتفتح ما انغلق بابه من معلومات والإحاطة بملابسات القضايا الساخنة، كما تخلص الدراسة إلى إقامة عدد من الدراسات العلمية عن الكثير من الشخصيات الحضرمية، التي أدَّتْ دورًا مهمًّا في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر.
وتخلص الدراسة إلى أن الحكومة البريطانية تتحمل وزرًا كبيرًا؛ وذلك لسياستها القائمة على المحافظة على مصالحها في المنطقة، فحرَمتْ وحرّمت على البلاد الإصلاحات ومشاريع التنمية الحقيقية، واستثمرت مثل ذلك الصراع في ملءِ خزائنها نتيجة تسخير مصانع المجهود الحربي في هذا الصراع.
وختامًا أشكر كلَّ مَنْ أمدَّني بأي معلومة أو وثيقة عن بانهيم، وقد أوردتُ أسماءَهم في هوامش البحث، و‘إني شكور لكل من لم يمدني بشيء عن بانهيم، وكان البحث بين يديه أو أيديهم في شقه أو قسمه الأول أن يخرج في هيئة ووضعيةٍ ربما كانت أفضل، وقد أظهر/ أظهروا حماسة كبيرة، فلهم جزيل الشكر والامتنان على محبتهم الصادقة لبانهيم.
____________________
الهوامش:
74) صحيفة النهضة، العدد:(257)، ص1، 4؛ صحيفة الأخبار، العدد:(48) 30- 6- 1955م، ص 8.
75) العقيد/ علي محمد اليزيدي، مقابلة شخصية، المكلا،20/ 1/ 2003م، وهو من الضباط الذين لهم معرفة بأخبار يافع.
76) صحيفة الأخبار، العدد: (48)، ص8؛ صحيفة القلم العدني، العدد: (92) 22- 6- 55م ص1، والعدد: (93)29- 6- 1955م، ص1.
77) صحيفة الأخبار، العدد:(50) 31- 7- 1955م، ص9.
78) صحيفة النهضة، العدد: (258)7- 7- 1955م، ص8.
79) صحيفة النهضة، العدد: (259)، ص5.
80) صحيفة الأخبار، العدد: (49) 5- 7- 1955م، ص2.
81) صحيفة النهضة، العدد: (263) 18- 8- 1955م، ص1.
82) من وثائق المقدم.
83) صحيفة الأخبار، العدد: (51) 15- 8- 1955م، ص5؛ صحيفة النهضة، العدد: (258)، ص8.
84) صحيفة الأخبار، العدد: (54) 3- 9- 1955م، ص5، والعدد: (55) 15- 10- 1955م، ص7.
85) من وثائق المقدم.
86) صحيفة الفكر، العدد: (63) 10- 10- 1957م، ص1.
87) الخنبشي، الانتفاضات، ص162.
88) من وثائق المقدم.
89) من وثائق المقدم.
90) من وثائق المقدم.
91) الخنبشي، الانتفاضات، ص134.
92) صحيفة الطليعة، العدد: (122) 26- 10- 1961م، ص1.
93) صحيفة الأيام، العدد: (829) 13- 4- 1961م، ص1.
94) صحيفة الأيام، العدد: (837) 27- 4- 1961م، ص1.
95) صحيفة الطليعة، العدد: (98) 4- 5- 1961م ص1.
96) الخنبشي، الانتفاضات، ص135- 136.
97) الأستاذ/ محمد علي يسر، والقاضي/ عبدالله محمد باحويرث، مقابلات شخصية.
98) للباحث تحفّظ من الإشارة إلى وصف النظام السلطاني القعيطي بالطاغي وإنما التزم أمانة النقل فوجب التنبيه.
99) صحيفة حضرموت الثقافية، العدد: (4) 1 -7- 1428هـ /16- 7- 2007م، ص14، و(بايخبخب) معناها يجري بسرعة.
100) الأستاذ/ سالم أحمد باصريح، مقابلة شخصية، المكلا،30/ يوليو 2007م.
101) نشرة شعاع الأمل، العدد: (45) فبراير2005، ص7.
102) باصريح، مقابلة شخصية.
103) نشرة شعاع الأمل، العدد: (51) سبتمبر 2005، ص13.