شخصيات
شكري نصر مرسال
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 72
رابط العدد 32 : اضغط هنا
وصل البار عمر الى الشقيقة الكويت، وقد أرسله والده الأديب حسين بن محمد البار إلى أخيه وصديقه العزيز المفكر الأديب الشاعر الأستاذ علي عقيل بن يحيى، ومعروف عن علي عقيل، أنه بيت عامر بالعلم وسمو الفكر، وهامَة أدبية، ومنارة علمية، استضاء بأنوار معارفه الكثيرون من عِـلية القوم، كما أن الرجل كان عضوًا بالقيادة القطرية لحزب البعث، وقياديًا سياسيًا محنَّكًا، حظي بتقدير واحترام كبيرين من جانب النخب العربية التي هي الشخصية القومية التي كانت تحكم في سوريا ضمن خمسة أشخاص في مرحلة مضت من مراحل التاريخ السياسي بالجمهورية السورية، والذي تولى في دولة الكويت الشقيقة قبل مرحلة سوريا أمر هذا الطالب الطموح مذلّلًا له جُل الصعاب لإنجاز مرحلة التعليم الثانوي، فحظي الطالب الأديب عمر حسين البار باستقبالٍ حفي، وبرعاية كريمة؛ إذ بأم عينيه تسكن آمال وأحلام يستشرف إنجازها بقوة وحرارة، وكانت الكويت يومَها ترحّب بالعقول، وتحتضن المتفوقين من الطلبة العرب، فأقام مسكنه بدولة الكويت في ( بيت الطالب الحضرمي)، الخاص باستقبال الطلبة القادمين من حضرموت، فالسيد الجليل علي عقيل بن يحيى هو من أنشأ هذا البيت الحضرمي مع السيد محمد بن عمر الكاف. وشبيهةً لها رعاية وتقديرًا وثناءً حصل عليه عمر البار من جانب إدارة ثانوية الشويخ بالشقيقة الكويت. ومثله اعترافًا صريحًا من قبل فريق طاقمها التدريسي بذكاء هذا الطالب الحضرمي ونبوغه واجتهاده المتميز، مما مكنه في آخر المطاف من طي مرحلة الثانوية وإنجازها بدرجات الامتياز ما جعله الأول على الدفعة، في حين حصد المركز الثاني زميله من الصف الدراسي نفسه بثانوية الشويخ الأستاذ حسين الكرمي، صاحب برنامج (قول على قول)، الذي يداع في الزمن الماضي من لندن من إذاعة البي بي سي في تلك الأيام، فحصل الأديب عمر البار في حينها على تكريم من أمير دولة الكويت سالم العبدالله الصباح، ووُضِعَ اسمه في إحدى الواجهات البارزة بثانوية الشويخ، إذ لا يزال رسمًا حيًّا على جدرانها إلى اعوام قريبة من حياة الشخصية الأدبية والقضائية عمر بن حسين البار. الأمر الذي سعد به الأستاذ الكبير علي عقيل بن يحيى وسُـرَّ بذكاء هذا الطالب المبتعث إليه، عندما شاهد عبقريته تسير باتجاه الطول والعرض، متناغمة مثل جريان شلالات مياه المزن، فأعجب بعقلية عمر البار التي عدَّها الأستاذ علي عقيل ظاهرة فريدة في مخرجاتها الذهنية، وملهمة منسجمة طموحًا مع تطلعاته، ومتساوية في كثير مع عقليته، التي كانت لها بالغ الأثر إذ ألقتْ بظلالها لاحقًا على تشكيل قناعات حياتية مهمة من حياة عمر البار.
ومن عجائب عبقرية الأديب القاضي عمر بن حسين البار أثناء وجوده للدراسة بأرض الكويت، أنَّ الشقيقة الكويت كانت تعلن عن إقامة مسابقات أدبية كبيرة في كتابة أدب القصة والرواية والشعر، وكانت أصول الفعالية الأدبية مقتصرة بمشاركة يحضرها فطاحلة من أدباء العالم العربي ممن يمثّـلون بلدانهم. وكان حينها الطالب البار مهتمًا بجوانب الأنشطة الأدبية، ومتابعًا للحلقات والندوات الثقافية التي تقام هنا وهناك، وكانت قريحته الشعرية تشهد نُمُوًّا أدبيًّا في مقربة منه، فتسارع إلى ذهنه أن يتقدم مشاركًا نِـدًّا في هذه المسابقات، فرفع برسالة إلى إدارة مدرسته بثانوية الشويخ، مفادُها أن شرح خلالها رغبته بالمشاركة في هذه الاحتفاليّة الأدبية الكبرى، فتعجَّب الجميع كل العجب لمطلب هذا الطالب الحضرمي، وفي محاولات متعددة من إدارة مدرسته بإقناعه وعدوله عن المشاركة؛ كون عناوين الدعوة للمسابقة خصصت حصريًا لنموذج مختار من صفوة الأدباء، وأمام رغبته الجامحة وثقته بنفسه واستبساله في تحقيق أمنيته رفعت مدرسة الشويخ النموذجية بخطابٍ عاجلٍ إلى القائمين على لجنة المسابقة تدعوهم إلى استيعاب إحدى طلبتها النجباء في قيد المشاركين، وحينها كانت الكويت أرضًا وإنسانًا تشهد حراكًا نهضويًا ثقافيًا في كل الصُّعُد والمستويات الحياتية.
أتت الموافقة فعليًا بإدراج اسم الطالب عمر البار في سجلّ الرُّوَّاد المشاركين، فأُبلِغَ الطالب النجيب بالنبأ، فتمطَّى سرورًا بقبوله، فذهب ينشد مفاخرةً رائعة الأديب با كثير الخالدة.. وإن ثقَّفتَ يومًا حضرميًا لجاك آية في النابغينا.. فما كان من هذا الطالب الحضرمي النابغة إلا أن يعد نفسه جيدًا إعداد المحارب المقبل، والتي سيكون لنا في رحاب أسطرها بقية وسعة نذوق من جمال تفاصيلها بعضًا منها، ومن رحيق ثمار أزهارها كثيرًا.
مضت الأيام والليالي وقد قضاها ابن البار بين رباط وعتاد وعدة، وجيء ذات يوم بصباح هذه الواقعة الأدبية شبيهة في كثير من ملامحها الفرائحية بأعياد الأمم … فأقبل الطالب الأديب عمر البار واقفًا يجول في ساحة النِزال، شاهرًا على الحاضرين سيف فصاحته، وصهيل خيله، متبخترًا بارتفاعِ حوافره يرجُّ المكان زُهُـوًّا… فكانت المفاجأة أن حصد الأديب عمر البار المركز الأول، وحجز لنفسه أوائل المقاعد، متفوقًا على كبار الأدباء المشاركين، وكُرّم في الحفل فارسًا في كتابة القصة، ووقفَ مُكرِّمًا لهذا الطالب المهاب ذهولًا كلُّ من كان موجودًا في قاعة الاحتفالية، وكرَّمته أيضًا مدرسته ثانوية الشويخ تكريمًا يليق باعتلاء إحدى طلبتها مقام العرش الأدبي.
فأشغل الطالب عمر البار الدنيا، وصار هناك حديث الناس كطائر العنقاء، مُسجِّلًا في سنوات تحصيله العلمي رقمًا قياسيًا، كُتِب متفرّدًا بلغة التفوُّق، وكان في الحقبة نفسها متمكّنًا من اللغة الإنجليزية نُطقًا وكتابة، حتى إنه مُنِح العمل مُحَاسِبًا لمدة عام في إحدى البنوك الأجنبية بدولة الكويت الشقيقة، وكذا فصولًا أربعة من عامٍ آخر مضاها مدرِّسًا في مودية بأبين بين صفوف الإعدادية والثانوية بمدرسة دثينة، وكان مدرّسًا معه في دثينة حينها زميلُه الرئيس الأسبق علي ناصر محمد، ليعود بعدها البار ابن البار من ممرَّاتها إلى مسقط رأسه حضرموت، مُطلِـقًـا العنانَ لجمال خطِّه، ويترك لحرية قلمه السيَّال ينسابُ حروفًا متناغمة على مصفوفة صحيفة الرائد، المملوكة لوالده الأديب والصحفي حسين بن محمد البار؛ ليعمل بها وفي صفحاتها سكرتيرًا صحفيًا رائدًا، وذلك بعد إتمامه دراسته الثانوية العامة بدولة الكويت الشقيقة.
في أواخر العام سبعين القريب من مشارف ميلاد العام إحدى وسبعون وتسعمئة بعد الألفة الأولى يعود أستاذ القانون عمر بن حسين البار الى بلده الكبير قادما إليه من الجمهورية العربية السورية وقد أنهى في بعض أروقتها الأكاديمية مرحلته الجامعية متخصصا في علم الشريعة والقانون , عاد القاضي عمر وفي مقلتيه تتمدد امالا واحلاما لوطنه , وعلى رأسه يحمل صندوق قوانين مكتبته الفكرية من حصاد السنين وتعب الليالي والأيام , فاستوعبته وزارة العدل حال وصوله ضمن نخبتها العدلية من المتميزين في شهر مارس من مطلع العام اعلاه وذلك في أول تاريخ يكتب لتعيينه في السلك الوظيفي.
وفي رحاب القضاء من خلال وزارة العدل مكث القاضي عمر البار يمارس مهامه العدلية، مسخّرًا اجتهاداته العلمية، مُسهِمًا جَادًّا في صياغة الكثير من القوانين وتعديلها، فكان له دور كبير وجَلِيٌّ مُسبَقًا من خلال قرار جمهوري وليد شهر أغسطس عام واحد وسبعين دعاه رئيسًا للجنة قضائية كُلّفَتْ بطرح صياغة مشروع قانون العقوبات وإجراءاته، يعمل على جمع مقترحات سريعة في سبيل إدخال تعديلات، لا سيما فيما يتعلق بسلطات الضبط القضائي وإجراءاتها والنيابة وعلاقتها بغيرها من الدوائر. إضافة إلى مساعيه الدؤوبة في مسألة تعريب بعض من منظومة القوانين البريطانية، التي لم تعرّب، وظل العمل بها إلى ما بعد الاستقلال بصيغتها القديمة، أضف إلى هذا وذاك تدخلات الرجل القانونية في معالجة قوانين أخرى مبنية على نظام الاتحاد السوفيتي وتصحيحها في مسعى منه ليكون مجموع هذه القوانين متوافقة مع هدي الشريعة.
ونتيجة لبعض الخلافات مع الآخرين كنتاج لعملية دعوات أطلقها عمر البار في عملية التصحيح لبعض القوانين فرض عليه أن يكتب بشجاعة منتقدًا معارضيه في هذه القوانين ورافضًا طريقتهم، من خلال عمود خاص به في صحيفة 14 أكتوبر الموسوم (بالمشجب). ودون شك كانت تأتيه الكثير من الردود في الصحيفة نفسها من بعض الأشخاص المحسوبين على بعض الأجنحة مقابل ما يخطه قلم الذين كانوا يصفون فيها البار بالرجل الرجعي البرجوازي.
وفي الفترات المتلاحقة من عام اثنين وسبعين عُيِّنَ القاضي البار في الحادي عشر من مارس بقرار جمهوري رئيسًا لمحكمة كريتر، ومثله في أكتوبر من العام نفسه صدر به قرار جمهوري آخر دعاه ليكون رئيسًا لمحكمة الشيخ عثمان.
استمر عمر البار القاضي والمحامي في ممارسة مهامّه في المسالك القضائية ناقدًا مواصلًا لكثير من الإجراءات الشاردة والمغردة خارج سرب النظم والقوانين، مستقلًا دون أن يتأثر بمقاييس الآخرين. لقد ارتأى لنفسه موقفًا وطنيًا بعيدًا عن وصايا التجمعات القبلية والحزبية إلى أن غادر وزارة العدل متجهًا إلى بلده حضرموت؛ ليظل بها معتكفًا تحديدًا في منطقة دوعن مسقط رأسه، التي دام بها فترةً قُدّرَتْ بالعام، وذاك بين عامي ثلاثة وأربعة وسبعين، ومن ثم قُدّر له بعد ذلك ليعود إلى عدن العاصمة في عام ستة وسبعين بعد دعوات واتصالات مكثفة من رأس الدولة، وكان ذلك في عهد صديقه الرئيس الراحل سالم ربيع علي، الذي عرض على أستاذ القانون أن يتبوأ وزارة العدل، ولكن الأخير أبى إلا أن يكون بعيدًا عن السلطة وزخرفها، ولذلك ظل سالمين الرئيس يُكِنُّ حقيقة التقدير وجميل العرفان لسماحة القاضي عمر بن حسين البار، معترفًا له بقدرات الرجل المستفادة، وسعة عقليته كمرجعية في علم القانون، وفقيهًا قضائيًا، وكان سماحته حينها سكرتيرًا للجنة الوحدة التشريعية والقضائية.
وخلال الفترة التي عاد فيها إلى العاصمة عدن بعد مرحلة الاعتكاف افتتح القاضي البار هناك مكتبًا للمحاماة، فلمع اسمُه وصيته وذاعت شهرته، فحقق به نجاحًا كبيرًا، وكان مكتبه للمحاماة في شَقَّةٍ لإحدى العمائر بالمعلا، وأخرى من الشقق بعمارة (كولمبو) قد اتخذها مسكنًا، وكلتا العمارتين بالمعلا، وفي خط السير نفسه، وظل المستشار القضائي عمر البار في ممارسة مهنة المحاماة، التي مضت به مخلصًا صادقا بكل معاني الرحمة والرأفة في نصرة المظلومين إلى أن غادر عدن إلى صنعاء في عام تسعة وسبعين على وجه التقريب بصفته سكرتيرًا عاما للجنة الوحدة التشريعية والقضائية.
وكان ذهاب فريق اللجنة إلى صنعاء يأتي ضمن برتوكول برنامج معتمد بين البلدين؛ لمناقشة مستقبل خطوات مشروع الوحدة، فحينها كانت قمة صنعاء فانتهز القاضي البار فرصة مشاركته باعتباره سكرتيرًا عامًّا للجنة الوحدة، وعند اكتمال عمل لجان البلدين رفض القاضي عمر البار الرجوع مع الوفد، وفضَّل البقاء في صنعاء والمكوث بها لدواعٍ خاصة بسماحته، ومن ثم عودة جميع أعضاء اللجنة إلى عدن، ولكن هذه المرة دون عودة مستشار القانون، الذي لم يكن موجودًا ساعتها في صالة المغادرة إلى عدن.
عاش بعدَها الحبيب عمر البار في صنعاء شخصية مُرحَّبًا بها، ومحلَّ قبولٍ من قبل سلطاتها الحكومية، رافضًا أن يسند إلية أي منصب حكومي ولو كان في مجال القضاء، معتزلًا ممارسة السياسة والممكن من فنونها. وجنح مجدِّدًا العملَ إلى مهنته مهنة المحاماة، وافتتح مكتبه، فلمع من جديد نجمُ البار، فأصبح أستاذ القانون المستشار عمر البار محاميًا لكبار الشركات المحلية والأجنبية والسفارات والبيوت التجارية.
لقد كان الأستاذ الكبير عمر حسين البار في صنعاء بمثابة محطة ترانزيت لأهله القادمين من حضرموت وعدن، ومعرّفًا لهم عند الجهات المعنية بالعاصمة صنعاء، ودليلًا لهم في نيل حاجاتهم، سواءً كان في مسألة الضمان والتوصية بهم لمن رغب الإقامة في صنعاء، أو لمن أراد منهم السفر إلى دول الخليج.