دراسات
أ.د. أحمد سعيد عبيدون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 76
رابط العدد 32 : اضغط هنا
معنى الوعي في نظام اللغة:
التأمل في نظام معنى (وعى) في لسان العرب(1) يكشف عن سمتين أساسيتين هما:
ـ التركيب والجمع.
ـ الكلية والشمول.
أما الأولى فيدل الوعي فيها على شيئين متلازمين لا يتم أحدهما إلا بالآخر، وهما: الحفظ والفهم:
ـ (وعى الشيء والحديث حفظه وفهمه).
ـ (فلان أوعى من فلان؛ أي أحفظ وأفهم).
ـ وورد في الحديث “لا يعذب الله قلبا وعى القرآن”؛ أي عقله إيمانًا وعملًا.
ـ (ووعى الشيء جمعه بعد أنْ كان مفرقًا).
فالوعي إذن مرّكبٌ مجموعٌ من الحفظ والفهم، والإيمان والعمل.
وأما الثانية: الكلية والشمول: فتدل على تجمّع الشيء بكل مفرداته وجزئياته في بنية موحدة شاملة:
ـ (استوعى فلان من فلان حقه إذا أخذه كله).
ـ (وفي الحديث “فاستوعى حقه”؛ أي استوفاه له كما يقول ابن الأثير.
هذا الوعي إنما هو عمل يتجه نحو الإيجابية والبناء والإصلاح، فقد جاء فيه: (وعى العظم إذا انجبر بعد الكسر)؛ أي إن العضو ينجبر وينصلح ليعمل معًا مع بقية الأعضاء الأخرى في جسد واحد.
وإذا كان الوعاء لا قيمة له إلا بالموعى، والظرف بالمظروف، فإننا أمام شكل لا قيمة له إلا بالمحتوى والمضمون.
وإذا تأملنا العناصر والأشياء التي جرى حديث الوعي عنها لرأينا أربعة مواضيع، أو بنى وهي: (القرآن)، و(الحديث)، و(الشيء)، و(الحق).
ولا ننسى الخبرة التي تُكتسَب علمًا من مباشرة الإنسان موضوعه في الواقع، على ذلك يمكننا أن نخلص إلى تعريف أولي للوعي في نظام اللغة يمكننا البدء في ضوئه لمعاينة الوعي في الكتاب:
الوعي: عملية عقلية مركبة تتجه نحو الكلية، يتحد فيها الحفظ بالفهم، والإيمان بالعمل، والظرف بالمظروف، والوعاء بالموعى، والشكل بالمحتوى والمضمون، في بنية شاملة ننتقل فيها من الإفراد إلى الجمع، ومن الجزء إلى الكل، في اتجاه نحو الإيجابية والبناء والإصلاح، وفي خبرة واقعية نكتسبها من مباشرة مواضيع الحياة.
هذا الوعي بهذا المعنى هو أول ما يتلقاه الإنسان من معرفة في احتكاكه مع الحياة، وهو الذي ميّز الإنسان الحضرمي الذي كان في غالبه أميًّا، وقد أشار الكاتب إلى أمّيّة أبيه وأمه بقوله: ((وإن ميلادي في أجواء عام 1934 حينما كان والدي مبارك سليمان بامومن ووالدتي عيشة حيمد باشعيوث الأُمّيّان يعملان فلاحَيْنِ في هذه المزرعة))(2)، وهي أمية واعية وعالية المعرفة بهذا المعنى للوعي؛ إذ مثّل وعي الكاتب قاعدة أساسية، بنى عليها معارفه النظامية، التي تدرّج في أخذها فيما بعد في المدارس الابتدائية والوسطى والجامعية بين حضرموت وسوريا.
مركّب العنوان وفصول الكتاب:
يتكون الكتاب(3) من مقدمة وخمسة فصول، فضلًا عن العنوان وصورة الغلاف في الواجهة والخلفية، والصور والوثائق، وفي ضوء هذه المنهجية التي أفرزها نظام الوعي في اللغة، يمكن أن نتلمس في الكتاب طريقة اتصالها به، ابتداء من العنوان وانتهاء بالصور والوثائق، بحيث تبدو وحدات الكتاب بسقة من نخيل الفكر، الذي أطلعته التجربة الاجتماعية والمعرفية التي مر بها الكاتب. والحقيقة أن الكتاب ليس سيرة شخصية للكاتب بقدر ما هو مسيرة لأفكار، تفاعلت مع واقعها، ومثلت زبدة تفكير، وخلاصة تجربة، وبسقة خريف لعمر أثمر في هذه الحياة، وتساقط رُطبًا جنيًّا.
اختيار العنوان (بسقة الخريف) ليس أمرًا سهلًا في اتصاله بفصول الكتاب، بل يمثل كل فصل منه خلاصة مميزة لمحتواه، وبسقة منتقاة من خريفه، والبسقة: هي تلك التمرات المقطوفات بعناية واختيار ـ والاختيار هنا تركيب منتقى ـ من طلع النخلة الناضج، يؤخذ منها لأول إدراك لها في السنة، ولعله أطيب ما فيها وألذ، وهذه (الأولوية) أساسية فيها ومميزة لها، وغير بعيد عن الفهم أن هذه البسقة ليست كثيرة؛ لأن المراد منها التعرف والتلذذ والإهداء، وليس الأكل المستمر والمشبع، وهي من جهة أخرى لا تنفك عن دلالة العلو والسمو والارتفاع، كونها باسقة تقع في أعلى النخلة(4)، وهي تحضر هنا بقوة ووضوح من كتاب الله الكريم في سمة النخل عامة في قوله تعالى: ((وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ))(5). وإذا كان معنى العلو والارتفاع واحدًا من معاني الجذر: بسق، فإن معنى الإثمار والنضج ليس بعيدًا عن الكلمة، فقد ورد في اللسان: معنى إدرار اللبن وجريانه في الناقة والشاة(6)، على ذلك تكون الفصول الخمسة المكتوبة بعناية في موضوعات مركبة متآزرة ومنتقاة (بسقةً فكرية)، يمكن أن ينتفع بها القارئ، ويتلذذ في مجالات: (المكونات المعرفية، والتربية والتعليم، والواقع الاجتماعي المعيش، والجانب السياسي، والصحافة)، وهي موضوعات مختارة ومميزة تمثل في وحدتها بسقة معرفية ينتفع بها القارئ، ولعلنا لا ننسى أن هذه البسقة لم تكن لتكون إلا بعد زمن طويل وعناية ليست سهلة، مما يعيدنا إلى النخلة التي يستغرق نموُّها، ثم الوصول إلى خريفها مُدَّة من الزمن طويلة، فضلًا عن العناية والتعهد والاهتمام، واختيار النخلة هنا ليس أمرًا هيّنًا؛ فهي من جهة الشجرة الأولى المهمة في الوادي، والأساسية لقوت الناس، وهي من جهة أخرى قريبة جدًا من الإنسان الحضرمي روحيًّا، كيف لا وهي جزء من نسبه، فترابها هو عَينُهُ التراب الذي خُلِقَ منه أبونا آدم كما جاء في الحديث، ((أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طين آدم))(7). من هنا كان حضور النخلة أمرًا فيه من العمق والاتصال بواقع الحضرمي وحياته وروحه الشيء الكثير؛ بحيث تمثل رمزًا غنيًّا للإنسان الحضرمي في وعيه وتفرده في الحياة. ويتكامل العنوان الفرعي: (نفحات حضرمية) مع العنوان الرئيس ليضيف إلى البسقة بُعدًا آخر في التميز والاختيار، (فالنفحات) هبات ونسمات من الريح الطيبة والزكية الرائحة، تتميز بالرقة واللطف، وتستثير حاسَّة الذوق، والإحساس نازعة نحو البرودة مقابل (اللفحات) المتميزة بالحرارة (8)، ولعلنا نرى هذا الحرص على النفحات، وعلى البرودة فيها في سياق فصل الصيف وحضور اللفحات، فإنه إنما يأتي من طبيعة الرطب الفكري المختلف، الذي تآزرت على صناعته حضرموت في حرارتها وسوريا في برودتها، بحيث يكون غذاء مُركَّبًا، فيه خصائص أفضل ما في البلدين.
ويجسد ما تقدم من سمات غلاف الكتاب الذي تحضر في واجهته ثلاث نخلات موجودات في حقل أخضر مُحمَّلات بالثمر الكثير، وإذا كانت البسقة تمثل خلاصة الفكر فإن النخلة ترمز بعمق إلى قدرة الإنسان الحضرمي على الإنتاج والاخضرار، وأن يقدم للناس ما يمكن أن ينفعهم، ويطور حياتهم، في ظل اتصاله بالله، وهو ما تمثله (منارة المسجد)، الذي يمتد في خلفية الصورة المواجهة إلى صفحة الغلاف الخلفية ليجاور (القصر)، وليعطي انطباعًا باستمرار منهج الله لبناء الحياة وإدامتها، والتمتع بها بمنهج الله وفي جواره. هذه القراءة أو التأويل ليس إسقاطًا على الكتاب من خارجه، بقدر ما هو جزء من بناء علاقاته وطريقة تكوينه، وبذلك يصرح الكاتب في المقدمة القصيرة التي كتبها للكتاب، فهو يتجاوز الاتّسام الشخصي لتطور حياته إلى الانطباق على الوطن، كما يتجاوز الدلالات الظاهرة للسطور والصور إلى ما وراءها، مما يميز الفرد الحضرمي حين يقول: ((لم تكن تلك النفحات دالة ومعبرة عن مكنون شخصيتي المتطورة حسب، بل هي وصف لحال الوطن أرضًا وشعبًا وماضيًا وحاضرًا؛ ولهذا سيستنبط القارئ الكريم من بين السطور وفي ما وراء الصور معلومة تاريخية أو جغرافية، أو دلالة ثقافية أو حضارية، أو رؤية اجتماعية، أو موقفًا وطنيًا أو إنسانيًا))(9)، هكذا إذن نقف على مركّبات مختلفة تتجه نحو الكلية والشمول والتجاوز في بنية الوعي: (مركب البسقة)، و(الحرارة والبرودة)، و(حضرموت وسوريا)، و(المسجد والقصر).
مركب المالك والوكيل:
في تأمل المكونات في الفصل الأول سنجد سمات التركيب والكلية والشمولية والأولوية التي هي سمات الوعي بارزة ومميزة لمسيرة الكاتب، فالسيد محضار الكاف لم يكن سيدًا مالكًا كالسادة المُلَّاك الآخرين، فقد تميز بصفات من الوعي متجاوزة لا نجدها عند غيره، منها كما يقول الكاتب إن ((له مكرمة ويد بيضاء في تحديث الزراعة وإنعاش الفلاحين الفقراء من أبناء حضرموت))(10)، كما نقل حياة الفلاحين لأول مرة من الاعتماد في أعمال الري على الإنسان والحيوان عن طريق (السناوة) إلى أعمال الري بالآلة بإدخاله المضخَّات في أعمال الري(11). من ناحية أخرى كان والد الكاتب (وكيلًا) لهذا السيد في شؤونه الزراعية؛ إذ مثّل هذا التركيب الجديد (المالك ـ الوكيل) علاقة جديدة ومختلفة في مجتمع، يقوم أفراده الفقراء على (التبعية)، واستنادًا إلى هذا التركيب، العلامة المميزة بين (المالك والوكيل) استطاع الأب الوكيل أن يُدخل ابنه الكتّاب (علمة باحرمي)، ومن ثم (مدرسة الأُخُوَّة والمعاونة)؛ بل قام المالك بتشجيع وكيله على أن يكمل ابنه دراسته فأرسله في أول بعثة تعليمية ترسلها جمعية الأخوة والمعاونة إلى سوريا في أواخر عام 1974م، حصل فيها الابن على شهادة البكالوريوس في العلوم الطبيعية، وبذلك تضاف تركيبة جديدة متجاوزة من (حضرموت(تريم) وسوريا) (في تركيبة أوسع وأشمل، وبالعودة إلى الصور في آخر الكتاب نتعرف على هذه (الكوكبة) من الشباب، التي اختيرت وأرسلت إلى سوريا للدراسة وهم على الترتيب: (علي عقيل بن يحيى رئيس البعثة، ومحمد عمر الكاف، وكرامة مبارك سليمان، وعقيل محمد بن يحيى، وعبد الرحمن حسين بن يحيى)، وبالتأمل في الصورة نرى الكاتب واسطة العقد بينهم، على يمينه اثنان من السادة وعلى يساره اثنان، وهم في الحقيقة يمثلون (تركيبة) وبسقة من الشباب في مجموع كلي متوائم لخدمة حضرموت ونهضتها.
وفي ختام هذا الفصل يذكر الكاتب عند عودته من سوريا كثيرًا من المناصب والوظائف التي تقلدها في حضرموت وعدن.
ـ مدرس في وسطى غيل باوزير.
ـ مدير ثانوية المكلا.
ـ عميد كلية المعلمين الوسطى.
ـ رئيس جمعية العمال بتريم.
ـ كاتب بصحيفة (الرائد و الفكر).
ـ مدير التعليم الإعدادي في وزارة التربية.
ـ مدير للتعليم العام.
ـ مساعد نائب وزير التربية والتعليم.
غير أن التأمل في طبيعة هذه الوظائف يكشف لنا عن سمة أساسية فيها، وهي (سمة الأوليّة) وهي السمة البارزة في البسقة، والمتجاوزة في الوعي، فقد كانت هذه الوظائف باكورة بسقة اجتماعية لنهضة تعليمية، يقودها الكاتب لو كانت استمرت وقدر لها الحياة، وقد نص الكاتب على هذه الأولية بوعي في الكتاب حين يقول:
ـ ((توظفت مدرّسًا في وسطى غيل باوزير، وهي أول مدرسة وسطى حكومية، أنشئت في مدينة غيل باوزير في ساحل حضرموت، التابعة للسلطنة القعيطية، وذلك عام 1944م))(12).
ـ ((وهي المدرسة المتوسطة الوحيدة في حضرموت حين عُيّنت مدرسا فيها))(13).
ـ ((وفي عام 1962 عُيّنت مديرًا لأول ثانوية في حضرموت وهي ثانوية المكلا))(14).
ولا يخفى تزامن الأولية هذه مع اندلاع ثورة 26 سبتمبر وإسقاط النظام الإمامي وإعلان الجمهورية العربية اليمنية كما يقول(15)، كما ترتبط هذه الأولية بمقاومة الكاتب لبعض التصرفات والأوضاع السيئة، كمحاولة وضعه في منزلة أدنى من قدراته، وقد أهلته مقاومته هذه ورفضه إلى تجاوز هذه العراقيل وحيازة وضع جديد، يتناسب مع قدراته وطموحاته، حدث ذلك كما يقول: ((عندما انتقلت من حضرموت إلى عدن رافضا منصب ناظر المعارف أكون فيه مأمورا لا آمرا، وقد عُيّنت مديرا للتعليم الإعدادي في وزارة التربية والتعليم المشكّلة بعد الاستقلال منذ عام 1970))(16).
لا تنفصل هذه السمات المميزة للبسقة عن تفكيره ووعيه حتى في تسميته لأولاده، التي يختم بها هذا الفصل، ففي اختياره لأسمائهم دلالة واضحة على استحضار هذه السمات، مما يدل على حضورها الذهني في تفكيره، وسعيه الدؤوب إلى تحقيقها في الواقع، فيها من هذه السمات العلو والسمو من جهة، والهناء والسعادة، وتحقيق الأماني من جهة أخرى: فاثنتان من بناته أسماء وسامية، والأخريات منى وهناء وسلوى، وابنه الوحيد هاني.
هكذا تظل هذه السمات مميزة لفكر كرامة سليمان وأساسية في إنتاجه: التركيب، والكلية، والشمول، والأولية، والتجاوز، ولّدت مركبات وعي جديدة في عناصر البسقة؛ بوصفها وعيًا متجاوزًا، بين وعيه والتعليم النظامي، والحرارة والبرودة، وحضرموت وسوريا، والمسجد والقصر، والمالك والوكيل، والنخبة الحضرمية المنتقاة للدراسة في الخارج. كل ذلك مثّل بسقة فكرية تميزه وتجعله رائدًا للفكر الاجتماعي في حضرموت وفي اليمن لولا أنهم قطعوا الماء عن نخلته وتركوها تذهب ببطء نحو اليباس!
*ورقة مقدمة للندوة التي أقامها مركز وادي حضرموت للدراسات والنشر، بعنوان: الأستاذ كرامة مبارك سليمان بامؤمن، حياته وجهوده التربوية والفكرية.
1) ينظر لسان العرب مادة: وعى.
2) بسقة الخريف: 3.
3) بسقة الخريف، نفحات يمانية من حضرموت، كرامة مبارك سليمان
4) ينظر لسان العرب مادة: بسق.
5) سورة ق: 10.
6) ينظر لسان العرب مادة: بسق.
7) يذكر علماء الحديث أنه حديث ضعيف، والاستشهاد به هنا من باب صلة الإنسان الحضرمي بالنخلة وقربه منها.
8) ينظر لسان العرب مادة: نفح.
9) بسقة الخريف: 1.
10) المصدر السابق3.
11) ينظر السابق الصفحة نفسها.
12) السابق الصفحة نفسها.
13) السابق الصفحة نفسها.
14) السابق الصفحة نفسها.
15) ينظر السابق الصفحة نفسها.
16) السابق: 5.