أوراق مكلاوية ….المتحف الحي
كتابات
عوض سالم ربيع
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 104
رابط العدد 32 : اضغط هنا
التأريخ ليس سجلًّا للعظماء، بل للبسطاء ولأولئك الذين لا يملكون إلا جهدهم …. والتأريخ ذو شعب ثلاث: اللهث خلف المصادر… السماع والمشافهة… العيش وسط الحدث. وفي النهاية هو استقصاء أو صحافة استقصائية…
والبروفسور عبدالله سعيد الجعيدي رجل من غمار الناس قبل أن يكون عضوًا في اتحاد المؤرّخين العرب أو أستاذًا جامعيًّا… كغيره عاش وسط مدينة المكلا… أنصتَ إلى زخَّات بحرها وعبق رائحة صياديَّتها… وثغاء أغنامها… ووقوقة دجاجها…
وللبحر مكان ومكانة في سويداء الجعيدي؛ فهو مُغرَمٌ صبابةً به، لهذا أهدى للبحر كتابًا هو (أوراق مكلاوية) ممَّا حدا بالدكتور سعيد الجريري الذي دبَّج مقدمة الكتاب أن يتساءل: لِمَ لَمْ تُهدِ كتابك لأحد من بني البشر؟ فأجاب ابن جسار: لكلِّ شخصٍ الحُرِّيَّةُ في الإهداء…
مِنْ هنا ظلَّ البحر أحد المتلازمات في حياة الجعيدي، طِفلًا حين حدَّثتْهُ أُمُّه ذات نهارٍ أنها كانت تسمعُ صوتَ المؤذِّن العتيق محمد بن أحمد التميمي، مؤذِّن مسجدِ مشهور بالمكلا، مما يدلُّ على أن الأخير قضى غالب أشطار حياته ستين عامًا مؤذّنًا في هذا المسجد، الذي تزامنت مئويته في عام 2009م ممَّا يؤهِّله لأن تضعه اليونسكو ضمنَ قائمة اهتماماتها…
وبالعودة إلى التميمي – رحمه الله – الذي تجاوز المئة وزاد عشرًا، فإنَّه مؤذّن عتيقٌ، صعد منارة مشهور 45 رقدة (درجة) صعودًا وهبوطًا طيلة 30 عامًا بدون كهرباء، ومثلُها مؤذّنًا بالكهرباء فتلك 60 سنة كاملة، مما يؤهله لأن يضعه جينس في قائمة أرقامه القياسية، والرجل المؤذن كان قد قدم من دَمُّون تريم بوادي حضرموت، وعمل أجيرًا في البناء أيام السلطنة القعيطيه…
لكن ثمة من يوازي الشيخ التميمي في العتاقة التأريخية كخيِّر (بتشديد الياء) رائد الإعلام الاجتماعي في وسط المكلا في السبعينيات إذا جاز لنا التعبير، والأخير مِمَّن قدموا من وادي حضرموت زمن المجاعة في أربعينيات القرن الفارط… والرجل ذو صوت جهوري، وتلك صفة لأي منادٍ… يا ضام ضام الشاه… مناديًا سكان الحي في الأفراح والأحزان، إذْ لم تك ثمة إذاعة موجودة. كذلك العم محمد بضم الميمين، الذي شاهده الفتى عبد الله الجعيدي حاملًا بالوناته…
كان الأطفال ذوي أمانة، فالرجل ضرير، وهم يناولونه العانة والعانتين من غير أن يبخسوا من ثمنه شيئًا… تلك كانت أقاصيص المكلا الممتدة من جابية حطبينة إلى مطراق صل ع النبي إلى حصاة 20، تفاصيل صغيرة التقطها بحذاقة شيخنا الدكتور ابن جسار ضمن أوراقه المكلَّاوية، حين كان الأدب والحشمة يحتّمان على المرء أن يفسح الطريق لامرأة مارَّة في المطراق (الطريق) الضيّق (بتشديد الياء) في ضياء النهار، فضلًا عن عن الغدرة (الظُّلمة)؛ لأن النسيج الاجتماعي الراقي والمهذب والمذهب قائم في كل المدن الحضرمية لم يكن في المكلا فحسب…
فالعلاقات بين السكان بين بيوتها المتقاربة حد التلاصق، تجعل امرأتَيْنِ تتصافحان من نافذتين متقابلتين، يفصلُهما المطراق الضيق، وحمار بِلَّصْقَع… هذه الجزئيات الصغيرة جمعَها أشتاتًا ابن جسار في أوراق مكلاوية بهيجة من صحف ومجلات مختلفة، كان قد كتبها في سنين مختلفة من حياته المديدة إن شاء الله، وكان قد هاتفَه ذاتَ عام الدكتور محمد عبد الكريم عكاشة بأنه يروم هو الآخر أن يبهج نفسه بالكتابة عن مدينة البحر المكلا حين كان عكاشة ساكنًا ومُتيَّمًا بها ذات عام…
ولكنْ لماذا هذا الحالة من الانحياز حين كتب الجعيدي عن المكلا دون الديس والشرج، فقد قال لي ضمن حوار إذاعي أجريْتُه معه لإذاعة المكلا في 2012م: إنَّ ثمة فاصلًا مائيًّا بين ضِفَّتَي العيقة بين المكلا والشرج، كان ثمة تنازعٌ طفولي بين الضِفَّتَيْنِ، تنازعٌ فيه البراءة والعفوية، لكن عاد لي فقال: إنه لو تسنَّى له كتابة جزء ثان من أوراقه المكلاويَّة لكان للشرج والديس النصيب الأوفر…
إنَّ (أوراق مكلاويَّة) فيها من البساطة التأريخية ما يستهوي الجامعيَّ، وربَّةَ البيت، وبائع الخضار، أنْ يُمسِكُوا بدِفَّـتَي الكتاب لقراءة تلك الوجوه المكلاوية التي مرَّت بسفح الجبل… من بصعر مناديًا وصول البواخر إلى خيِّر (بتشديد الياء) إلى العم محمد بضم الميمين بائع البالونات… وأولئك النسوء اللائي يعلفْنَ أغنامهن بجوار جابية (بِرْكَة ماء) حطبينة، التي لا تزال الذاكرة الجمعية يشدُّها الحنين إليها؛ فهذه الجابية عاصرت سلطنة ودولة…
لقد وقر في ذهني أن ابن جسار يكتب تأريخًا عن رجال الصف الثاني كما في كتابه عن بن مخارش نائب السلطان القعيطي في الديس الشرقية، وليصحح لي المعلومة شيخي البروفسور الجعيدي إنْ أنا مسَّني الخطأ… ولكنْ لماذا رجال الصف الثاني دون الأول… في اعتقادي أن أرباب الصف الثاني هم المُلهَمُون لرجال الصف الأول، فالفكرة الذكيَّةُ تأتي بعد تنفيذ الفكرة الغبيَّة بثوانٍ… الجعيدي لم يكتبْ عن عِليَةِ القوم من صُنَّاع القرار، وهم أحقُّ بالكتابة طبعًا؛ فلهم مالهم، وعليهم ما عليهم ولكل امرئ ما نوى… لكنه كان وَفِيًّا لخيّر، وللمؤذن التميمي، وحتى العجماوات… حمار بلصقع.