إطلالة على فعاليات الموروث الثقافي الشعبي المصاحبة لندوة شبام في عهد ازدهارها التجاري
كتابات
أحمد زين باحميد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 107
رابط العدد 32 : اضغط هنا
اشرأبَّت الأعناق نحو منصة انتصبت في واحدة من أكبر ساحات شبام التاريخ والحضارة والإنسان.. وازدحم المكان بالحضور شِيبًا وشبابًا وأطفالًا.. أكاديميين وباحثين ومثقفين.. رجالَ أعمال وطلابًا وبسطاء، جاء بهم الحنين والشوق لرؤية شبام العالية بعيون فاحصة في مجاهل التاريخ.. وإضبارات المراجع والوثائق.. للغوص في عهد ازدهار شبام التجاري.
ثلاث جلسات علمية، واثنا عشرة ورقة بحثية، قُدّمت في مدار يوم الأحد 25فبراير 2024م.
كانت أوراق الجلسة الأولى قد تحدَّثت عن البعد التجاري للمدينة، وعن القفان: تعريفه وتاريخه، وعن الاختلالات الأمنية وأثرها في مكانة شبام، وعن صناعة الخوص والحفاظ على استدامتها.
وتحدثت الأوراق في الجلسة الثانية قد تحدثت عن التجارة في الموروث الشعبي والرسائل الإخوانية الحبيب أبوبكر بن سميط أنموذجًا، وعن مهجر شبام، وعن العملة والتجارة في المدينة.
وكانت أوراق الجلسة الثالثة تحدثت عن السلع والبضائع، وتخطيط المنشآت المعمارية وتوظيفها، ونواخذة الحامي وتجَّارها وعلاقتهم بتجار شبام، وعن البيوت التجارية في شبام ودورها في الازدهار التجاري.
لكن أطفال رياض الأطفال ومِن ورائهم الإخراج والتصميم والألحان كانوا صورة مبهرة، خطفت الأبصار؛ إذ جاء كل مقطع من ألوان التراث بدقائق متعددة، لم تزد عن الخمس، مما أكسب المشهد حيوية ومتعة، وأبعده عن السآمة والرتابة.
(رغم الكآبة والمحن عشتَ عزيزًا يا وطن) كانت هذا المقطوعة الأولى تحية حب وعرفان لوطنٍ مكلومٍ، مزَّقتْهُ الحروبُ، وازداد الوجع في ربوعه فحضرت الدموع والأحزان، لكن العزة أنْ يظل بريق الأمل يتسع في عيون الصغار؛ لتشرق الشمس من جديد.
وكانت المقطوعة الثانية (أنا الشبامي)، لحنٌ من تراثٍ موغِلٍ في مجاهيل التاريخ، لكنه أُخرِج بأنامل عزفتْهُ بتقنيات العصر، وإيقاعات الحاضر، ورؤية المستقبل، فكان الحضور يحلّقون أعالي سقف الخيمة، التي انتصبت واتسعت.. يسافرون ولمَّا تزلْ أقدامُهم تلامس أرضية المكان.. يستذكرون ويتذكرون أزمانًا غابرة، لكن الحنين يأخذهم إليها رغم بُعدِ السنين.
لقد كتب الأستاذ خالد سعيد بن سند مدرس اللغة الإنجليزية، وكانت كلماتُه مستوحاة من عنوان الندوة وتاريخ المدينة، أمَّا اللحن فكان لحنًا تراثيًا، تم توزيعُه بصورة جمالية متقنة.
تقول الكلمات:
أنا الشبامي أسكن في برج عالي
عصر التجارة هو عصر ازدهاري
فن العمارة والحضارة صفاتي
والتعاون والوفاء من سماتي
والسلام هو من اسمى طباعي
والتجارة والنشاط الزراعي
أمَّا أنا فقد عادت ذكرياتي إلى ستينيات القرن العشرين، يوم كان أستاذي وأخي الأكبر الشيخ سالم بن زين باحميد مساعدًا للمأمور بمركز شبام حينها، في المديرية الشمالية (سيئون حاليًا) شبام الحزم والعزم، عادت ذكرياتي إلى واحدة من قصصها؛ إذ كان أحد الوجهاء سجينًا، والتمس إفراجًا مُؤقَّـتًا للعيد، لكن الشيخ سالم استشار قاضي المحكمة حينها القاضي ……. بن سميط، فأشار عليه بصدقٍ وتجرُّدٍ إلى تركه في محبسه والابتعاد عن الشبهة.. فراجع هذا السجينُ حساباتِه وعلم أنه هو من ارتكب أخطاء في حق الآخرين، وبعد نهاية سجنه وخروجه أعاد المظالم إلى أصحابها، واستسمح كل من حوله، فكانت سببًا في نجاته بعد أحداث السبعينيات التي شهدتْها شبام.. وبعد الوحدة كان لقاءٌ مصادفةً بينهما، فقدم الرجل خالص شكره للشيخ سالم على صنيعه معه وتركه في السجن؛ لأنه كان سببًا في نجاته بعد توفيق الله جل في علاه له.
وفي مقطوعات (الولادة)
هيلولوه ماوليدي باينام
هيلولوه باينام نوم الحمام
هيلولوه أمك راحت تزور
هيلولوه جابت لك باقة زهور
هيلولوه ابوك سافر الكويت
يبغا له راشن وبيت
هيلولوه واحفظ وليدي يالله
هيلولوه ويكبر وليدي يالله
أهازيج متوعة (مدخل السنة بركة والسيل على التكة)، وغيرها سألنا الأستاذ خالد جعفر بن سند: كيف استوحيت الكلمات واللحن؟!
وجاء شعر قديم من شعر المدارة
يالحصاه الكبيرة رنحي
قافلة باتعدِّي من شبام
باتعدِّي وأنا زدني قوي
بانجيب الجوهرة من راس هام
ورد عليه شاعر اخر
ياسارح طريق الاولي
سيل مروس بموزع شبام
شل نغسك قبل ما تحتشي
قبل ما تنتهي على بطحاء شبام
إيقاعات لعبة الشبواني العريقة، مع إضافات وترية، أكسبتْها أصالة التاريخ، وحداثة المعاصرة، فكانت براعة الأداء، وتناسق النغم، وقصر اللوحة، صورة مبهرة الإبداع، رائعة الإخراج، شاهدة على أنها خطفت الأبصار والأنظار من الحضور.
أما مقطوعة (الراعية)، والتي تقول:
يابن حمد.. يابن حمد
ردي الغنم ..ردي الغنم
لا تحسب انِّي راعية
بنت السلاطين الدول
فكانتْ صورة للراعيات، وظهورًا لتلك الفتاة، التي ترمز لعهد مؤثَّل بالمجد ومكلَّل بالغار.. ومتوَّج بعهد ازدهار.. ومضمَّخ بأنواع العطور والبخور.. لكنْ دورة الزمان دارتْ، وسنون خلتْ، وأحداث مارت.. فتغيَّرت في إثرها الأحوال والأمور، لكنَّ التاريخ لمْ يُنسَ، وظلَّتِ الفتاة الرمز تعرفُ أصولها المتجذّرة في شغاف قلبها، إنها لا تزال بنتَ السلاطين الدول، حتى وإن جار الزمان عليها.
رمزية شبام إنها شامة في كتب التاريخ، وقِبلة تتوجَّه إليها الأنظار، وخزانة تنبض بكنوز العمارة والحضارة وأصالة الإنسان.