مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

“من ما حضر عند شاته جابت تيس”

توقيع قلم

أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي

المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 32 .. ص 114

رابط العدد 32 : اضغط هنا

ولد هذا المثل من رحم ثقافة مهنة رعي الماشية عند العرب بصيغ مختلفة، لكنها أحيانًا تتقارب في الدلالة حد الاتفاق، من ذلك قولهم : “من ما حضر عند شاته ما جابت عرسة” (أنثى الماعز)، وقد ضمّنَّا في عنوان المقال الصيغة الحضرمية للمثل، والمعنى المباشر هو: من لم يكن حاضرًا لحظة ولادة شاته فإن الخبر المتوقع ميلاد ذكر (تيس)، وهو ضيف غير مُرحَّب به كثيرًا في الثقافة الرعوية التي ترى أنَّ الذكر ليس كالأنثى، وتحيل صيغة (ما جابت عرسة) إلى أن (بُشرى) ميلاد (الأنثى) هي الأمنية السعيدة المنتظرة التي تشغل البال، وليس (الذكر) على ما في التيس من قدرة استثنائية على التزاوج اليومي، بل يُضرَب به المثل عند ذكرهم لفحولة الرجال.

وإذا انتصر المثل في ظاهر معناه للأنوثة فإنه ضمنيًا يحمّل الرعاة جريمة الغش؛ وذلك بإخفائهم المواليد من (العرسات)، واستبدالها بأترابها من (التيوس) اللاتي ولدتْهُن الشياه، وهم القائمون على رعايتها، أو إذا اختلطْنَ بشياههم مدة من الزمن، ومن هنا جاء المثل بوصفه نصيحة دائمة، تدعو إلى الحيطة، والحذر، والمتابعة المباشرة للحقوق، والأملاك، والوقوف عليها، ودعمًا لهذا المنحى، ولإظهار سلامة النية، وحرصًا على متانة العلاقات بين الشركاء والخلطاء وضبطها، عزَّزت الثقافة الشعبية القائمين على مصالحهم بمقولات مرنة، مقبولة اجتماعيًّا، مثل: “مكِّنْ دارك ولا تخوِّنْ جارَك”.

يثير المثل مفارقة الموقف من الأنوثة والذكورة في الثقافة العربية – وفي البلدان (النائمة)، القريبة منها ثقافيًّا ففي حين الرعاة – بدوًا أوْ حضرًا – يحتفلون بالمواليد من الإناث من شياههم؛ بوصفها مكسبًا للخصوبة المستمرة والعطاء، نرى المشاعر أقل حماسة عند ولادة الإناث من أصلابهم؛ لاعتبارات متعددة، سنتجاوز ذكرها؛ لأنها خارجة عن سياق قصة بنية المثل، الذي نحاول تفكيكه.

وإذا تتبَّعْنا المثل بعيدًا عن مثاويه سنجده حاضرًا في الوعي الجمعي، وتبرز قُوَّتُه بوصفه نصيحة رادعة في المواقف التي تتعلق بالتفكك الأسري، لاسيما إذا بدر من عنصر في أسرة تصرفات مشينة أو خادشة، تَمَسُّ القِيَمَ المجتمعيَّة، وظهر فيها راعي الأسرة متساهلًا أو مغيّبًا، فيتحول نص المثل إلى صيغة لومٍ شديدةِ اللهجة، أو سُخْرِيَّةٍ لاذعة، أو شَمَاتَةٍ جارحة ضد (الراعي)، فالخلل هنا جَلَلٌ، يتجاوز بمسافات سحيقة تفكُّكَ عائلة الماشية، وخسارتها (لعرسة) حل مكانها (تيس).

وأحيانًا يحضر المثل بوصفه فكرة إيجابية من الموجّهات الاجتماعية المقبولة، وللتوضيح يمكن أن نضرب مثلًا في حالات النجاح التجاري، خاصَّةً عند صنف التجَّار الذين مهما كانت ثروتهم، وعدد الموظفين لديهم يظلون مسيطرين بشكل مباشر على منظومة الحركة التجارية، والمالية الجوهرية، فتتحوَّل دلالات المثل بالنص ذاته إلى صيغة مدحٍ وإعجابٍ من الآخَرِ إلى التاجر، أو في شكل نصيحة تأكيدية على نجاعة العمل بحكمة المثل غير المباشرة من التاجر إلى المقرَّبين له من أفراد أسرته، ولمن أراد من الناس معرفة أسرار نجاحه وصموده.

ملحوظة: كُنتُ هممْتُ أيضًا من داخل المثل أنْ أضرب مثلًا من ماضي حضرموت وحاضرها، فوجدْتُ غالبَ رُعَاة القوم يتشاجرون، فجلسْتُ تحت شجرة على استحياء أنتظرُ حتَّى يُصدِرَ الرِّعَاء…