كتابات
د. رزق سعدالله بخيت الجابري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 102
رابط العدد 2 : اضغط هنا
حضارة حضرموت قديمة تضرب جذورها في تربة التاريخ الحضاري وحسب الشواهد الأثرية والنقوش التي عثر عليها في المستقرات الحضرمية القديمة تظهر أن نشوء تلك الحضارة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. وقد قامت الحضارة الحضرمية على أساس العمليات التجارية والزراعية لمنتجات من الحبوب والتمور كمنتجات زراعية واللبان كمنتج من النباتات البرية التي مازالت تنمو في حضرموت وهي بحاجة إلى تنميتها إلى جانب غيرها من النباتات ذات القيمة الاقتصادية والطبية، لتكون مورداً اقتصادياً .
إن معطيات تاريخ حضرموت تبين أن تلك المنتجات الزراعية أو المنتجة من النباتات البرية كان لها مكانة مهمة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية الحضرمية، ليس هذا فحسب بل امتدت تلك المكانة إلى حضارات أخرى عاصرت حضارة حضرموت ومنها الحضارة اليونانية . يعزز ذلك قول استرابون : أن وادي حضرموت كان منتجاً لكثير من النباتات العطرية والتمر واللبان والتوابل والقرفة. إن كثافة الإنتاج الزراعي الذي يفيض عن حاجة الطلب الحضرمي يسوق في الخارج في كل من شرق البحر المتوسط و في الخليج العربي وغيرها من بلدان العالم هذه الحقيقة تؤكدها المأثورات الشعبية يقول الشاعر:
ذهب إلى الشحر ودع عمان إن لم تجد تمرا تجد لبان
إن تنوع المنتجات الزراعية ووفرتها في ظل تخلف تكنولوجيا الإنتاج وبدائيتها لا يمكن أن يحدث إلا من خلال ذهنية حصيفة سخرت كل قدراتها وإمكاناتها في خدمة اقتصادهم وخاصة الزراعة وهذا ما تظهره الحكايات والقصص والأشعار الشعبية الحضرمية وتشكل موروثاً ثقافياً يتطلب تجميعه قبل اندثاره. هناك مثل يقول: الحاجة أم الاختراع : الجفاف المستديم في حضرموت وما نتج عنه من نقص في المحصول الزراعي أو انقطاع للأمطار أدى إلى حدوث هزات في إنتاج الغذاء وتراجع إنتاج اللبان ونجم عنها مجاعات متكررة . الأمطار مهمة لاقتصاديات حضرموت الزراعية بعد أن دخلت في جفاف مستديم ويرفع من تلك الأهمية عدم وجود أنهار جارية جعل الحضارمة يحرصون على الحفاظ على كل قطرة ماء، وهذا حرك أذهانهم وجعلهم يدخلون في عصف ذهني المجابهة هذه المشكلة. ولأن سقوط الأمطار يتزامن مع فصل الصيف الحار وهذا يقلل من القيمة الفعلية للأمطار لارتفاع التبخر والتبخر النتح . لهذا فقد كان أول الإنتاج الفكري لحل الإشكال هو التنبوء بالأمطار الساقطة بهدف إعلان النفير والتعامل مع هذه الأمطار، ولعل في أشعار الحكيم (بو عامر) خير مثال للتدليل على الثقافة الحضرمية الزراعية في ذلك الزمن. وقد أثبت علم الأرصاد الحديث صحة ذلك الموروث، يقول فيها:
يقول بوعامر بشير الصيف يصبح في السماء بقعة طحال والنسنسة والنود والندوة تقع وقت الضحى .. هذا الموروث الشعري يقدم معلومات وافية حول فصل الصيف وأيامه فيما إذا كان ممطراً أو مسبتاً وبالتالي استمرار الجفاف ووقوع محل زراعي. وحسب قول الحكيم (بو عامر ) تكون تباشير خير الصيف ويومه الممطر من الصباح الباكر عندما تكون السماء شبه مغبرة والتي سماها الحكيم الحضرمي (بوعامر) بقع الطحال وهي في الواقع حبوب اللقاح وذرات الغبار التي تكون نواة تكاثف إذ يتجمع حولها بخار الماء العالق في الجو كما تشير الدراسات المناخية، فكثرة حبوب اللقاح وذرات الغبار مؤشر على أن الصيف سيكون فصلاً مطيراً. وفي الشطر الثاني من قول (بو عامر) يبدأ فيه بالنسنسة وهي الرياح خفيفة السرعة التي يطلق عليها في حضرموت الصباء التي تهب قبل شروق الشمس وهي رياح باردة خفيفة السرعة محملة ببخار الماء كونها قادمة من بحر العرب بحكم تغير منظومة الضغط الجوي بين اليابس الذي يكون في حالة ضغط منخفض والماء المسيطر علية الضغط المرتفع وهي في الحقيقة الرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي اكتشفها عرب جنوب الجزيرة العربية (العمانيون والحضارم)، واستثمرها الحضارمة في السفر الشراعي والتجارة البحرية إلى الهند وشرق وجنوب شرق آسيا وشرق أفريقية .
أما النود الذي ذكره (بو عامر) هي الرياح الخفيفة السرعة بمعنى رياح ليست بالسريعة وليست بالبطيئة وبالرغم من أن النود مؤشر على الأمطار فإن له أكثر من أهمية في وادي حضرموت الحار في هذا الفصل حيث يسهم في تخفيف الحرارة المرتفعة وبالتالي زيادة تجديد النشاط البشري وبذل جهد أكثر في إعداد الأرض وتهيئتها للزراعة المطرية إلى جانب ذلك فانه يستثمر في فصل الحبوب من شوائبها وبالحضرمي (الذلاحة).
هذه الرياح الهابة (النود) هي رياح أفق تتحول إلى تيارات هوائية صاعدة بعد ساعات من شروق الشمس (النسنسة – النود) بسبب خلخلة الهواء في طبقات الجو الملامسة لسطح الأرض. هذه التيارات الهوائية الصاعدة تؤدي وظيفتين الأولى نشر الرطوبة في الغلاف الجوي الملامس لسطح الأرض والتي وصفها (بو عامر) بالندوة التي تقع وقت الضحى .
المتتبع للأمطار الصيفية في وادي حضرموت يلاحظ أن خلال المدة الزمنية من الساعة ( ١٠ صباحاً إلى – ١٢ ظهراً ) ترتفع الرطوبة والحرارة ويسود الرهو (سكون في الهواء) وهو ما يفسر علمياً بانخفاض مستوى التكاثف التصاعدي إلى أدني نقطة من سطح الأرض ويعني ذلك توافر ظروف مثلى لنشوء السحب الممطرة أما الوظيفة الثانية للتيارات الصاعدة فهي تلقيح السحب .
الدراسة التي قام بها (برجن) حول الأمطار توصل إلى نتيجة في غاية الأهمية صاغها في نظريته الشهيرة حملت اسمه ومنطوقها إن الأمطار لا يمكن أن تحدث إلا بتوافر هذه الشروط التي ذكرها الحكيم (بو عامر) وهي جزء من الموروث الثقافي الزراعي الشفهي ينبغي توثيقه قبل اندثاره ومن هذه النافذة الثقافية التي انفتحت مؤخراً أتوجه بدعوة إلى كل الحضارم أن يقفوا إلى جانب مركز دراسات حضرموت لكي يظهر ماضي حضرموت للاستفادة منه؛ لأن الماضي مفتاح الحاضر، والحاضر يصنع المستقبل .
د. رزق سعد الله الجابري .. أستاذ جغرافية السكان المشارك. – جامعة حضرموت