ذاكرة
حسن محمد البيتي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 110
رابط العدد 2 : اضغط هنا
كان دكان اليافعي في قريتنا معلما بارزا، يدور كل سكان قريتنا حوله جيئة وذهابا يشترون منه كل ما يحتاجون إليه من طعام وملابس وأدوات منزلية ولوازم الزراعة من معدات وبذور ومبيدات حشرية، بل وحتى مصائد الفئران والضباع التي تعبث أحيانا بمحاصيلهم الزراعية.
وأكثر من ذلك كنت تجد في دكان اليافعي ما تحتاج إليه المرأة إذا وضعت حملها من بخور ومساحيق كما يبيع اليافعي للناس أكفان الموتى من الكبار والصغار مع ما يتطلبه من عطور وقشور وقطن وباختصار فإنك كنت تجد في دكان اليافعي كل ما يحتاجه أهل القرية في حياتهم العادية وفي أفراحهم وأتراحهم على السواء .
واليافعي لا يبيع للناس فقط بل ويشتري منهم أيضاً ، يشتري منهم ما يفيض عن حاجاتهم من محصولهم من الحبوب والخضار والفواكه ويعيد بيعه للناس كما يشتري ما ينتجه الحرفيون من سكاكين ومقاليد خشبية وأثواب ، فقد كانت قريتنا يوجد بها عدد من الذين يعملون بالحدادة والنجارة والحياكة . كان الناس يعدّون اليافعي قارون زمانه ويرون أنه يملك مالا يشبه مال قارون . وهي نظرة يمكن تقديرها إذا علمنا أن كثيرا من الرجال وكل النساء لا يعرفون من هذا العالم غير قريتهم تلك ويظنون أنها – القرية – مركز الدنيا !
هكذا كنت وأنا صغير أنظر بإعجاب وانبهار كبير لما يضمه دكان اليافعي من بضائع كثيرة ومتنوعة ، وكنت أفتخر أن اليافعي يرحب بجدي رحمه الله عندما يأتي إليه ويجلسه على أحد الأكياس المرصوصة في الدكان ويتبادل معه الحديث قبل أن يشتري منه حاجته ويغادر ، وكنت بدوري أحرص على صحبة جدي لأن اليافعي كان دائماً يتحفني بقطعة من السكر أو حبة نعنع أبو عسل ، وكان من عادة جدي أنه يقول له : ( ما يحتاج هذا الفعل في كل مرة … المرة الجاية لن آتي به معي ) لكنه في الغالب يصطحبني معه ويكرر العبارة نفسها .
كان في القرية دكان آخر صغير هو دكان الحاج حسن لكنه لا يحتوي إلا على قليل من البضائع ، كان الاثنان يأتيان ببضاعتهما من المكلا لكن شتان بين القافلتين . ففي حين لا تزيد قافلة الحاج حسن عن خمسة جمال ينتظر بعدها شهرين حتى يأتي بقافلة أخرى ، كان اليافعي يأتي بقافلة تزيد على العشرين بعيراً وتتكرر حمولتها كل شهر تقريباً .
كان الفرق في أسعار البيع كبيراً أيضاً ، حيث كانت أرباح اليافعي ضعف أرباح الحاج ، ومع ذلك فإن الذين يشترون من اليافعي أضعاف الذين يشترون من الحاج حسن ، لأن اليافعي يبيع بالآجل ، أما الحاج حسن فلا يبيع إلا بالنقد يداً بيد قائلاً ومردداً : ( ما عندي نفس … من عنده فلوس يشتري ومن لا يجد فليصبر حتى يفرجها الله عليه … أو ليذهب إلى المرابي ) وكان اليافعي يسمع ذلك ويقول : ( الله يسامح الحاج حسن ، لست مرابياً والله شاهد ) .
والحق أن اليافعي يتدرج في احتساب الربح فهو – الربح – ضعف ربح الحاج حسن إذا كان الشراء نقداً أو ما في حكمه ثم يتضاعف إذا كان الأجل حتى يسمن التيس أو النعجة أو حتى ينضج محصول الفلاح أو إذا كان إلى موسم خريف النخل ، وهو الموسم الزراعي الأساسي لمعظم الناس ، وفي كل الأحوال يجب أن يحدد موعد السداد ، واليافعي متفق مع الحاكم وقائد الشرطة في القرية على أن كل من لم يسدد في الموعد المحدد فإنهم سيحبسونه حتى يدفع أو يدفع عنه أقرباؤه ، ومع أن موعد السداد المتفق عليه ليس مكتوباً أو موقعاً من الطرفين فإن اليافعي يطلب اليمين المغلظة من الذي ينكر ، وهو يعلم أن الناس البسطاء لا يمكن أن يحلفوا على الكذب ، هكذا كان يضمن اليافعي تسديد كل الدين من الناس، والناس بدورهم كانوا مضطرين للشراء من اليافعي على غلاء أسعاره لأن النقد لا يتوافر عندهم دائماً فيشترون من الحاج حسن ، وحتى لو توافر فلم يكونوا يجدون عند الحاج إلا القليل من البضائع التي يحتاجونها ولا مفر لهم – على بغضهم له – أن يشتروا من اليافعي .
الناس من سكان البادية والقرى المجاورة يشترون من اليافعي حيث كانوا يأتون على حميرهم وجمالهم فيبيعون ويشترون من قريتنا ويعودون محملين بالبضائع والديون .
وعلى عكس الزيادات في أسعار البيع كان اليافعي يبخس الناس عندما يشتري الحبوب والأدوات والأثواب من المزارعين والحرفيين وإذا حاول أحد منهم مساومته يقول له بحسم (إذا وجدت أحسن من أسعاري الله يفتح عليك ) وكان لا يبالي من أحاديث البائعين وهو يكيل حبوبهم الذين كانوا يتهكمون عليه فيقولون عنه إنه : ( مثل المنشار يأكل في الجيئة ويأكل في الذهاب ) فكان يكرر وكأنه يقرأ من القرآن (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) أَنا لا أغصبكم ، اذهبوا فبيعوا للحاج ! لكنه كان يعلم أن الحاج لا يستطيع الشراء من الجميع
بالنقد الذي يحتاج إليه الجميع .
وكان يداعب بعضهم قائلاً : ( لماذا لا تكونون مثل الحبيب سالم – يقصد جدي – فهو لا يشتري إلا بالنقد ويبيع فائض محصوله بنفسه لمن يحتاجه بالسعر الذي يناسبه ، تعلموا الشطارة بالفاليف ) .
على صغر سني كنت أتذكر بعض الحوادث التي تدور بين اليافعي وبين جدي ، كان جدي يحثه على طلب البركة التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث : ( بارك الله في امرئ اشترى سهلاً وباع سهلاً ) فكان يردد عليه بأنه لا يربح إلا القليل مقارنة بنفقاته ويبالغ في احتساب تكاليف النقل كما أنه يحرص أن يوفر للناس ما يحتاجونه حتى من الأشياء النادرة التي يحتاجونها في المناسبات فقط وأنه لو لم يوفرها هو لهم لوجدوا عند حاجتهم لها عناء كبيراً . ويتهم الناس بعدم تقدير الخدمات التي يقدمها لهم ، كان يقول لجدي : ( أنا إنسان حقاني يا حبيب سالم، أنت تعرفني أعطي كل واحد حقه ولا أحب أن يأخذ أي أحد حقي ) وكنت أحياناً أصدقه ، فقد كنت أراه يحسب لكل من يقدم له خدمة ابتداء من الرجل الذي ينوب عنه في الدكان عندما يتحرك ويغيب عدة أيام في المكلا لشراء بضاعة ويعود مع القافلة ، رغم أنه كان يشاع بين الناس أن اليافعي على ثقته بذلك الرجل لا يعطيه أجرته بعد العودة إلا بعد أن يحلفه اليمين المغلظة على أنه لم يخل ولم يتصرف إلا بإحسان !
وحتى بالنسبة لي فإنني في كثير من الأيام أحمل إليه من مزرعتنا بعض الخضار والفواكه هدية من جدي – أقلها قرون البسباس الأخضر أو الليمون الحامض الذي كان يحبه – وإذن فما كان يعطيني إياه من الحـلوى والسكر هو نوع من أنواع الرد بحسب مفهوم اليافعي ! لكن من هو اليافعي ؟ الحق أنني لم أعرف له اسماً غير اليافعي – كان كل الناس يقولون عنه اليافعي – دكان اليافعي – دار اليافعي – زوجة اليافعي – بقرة اليافعي – ابن اليافعي .
وابن اليافعي هذا في مثل سني وقد دخلنا المدرسة معاً وهكذا عرفت عند تسجيل الأسماء من قبل المعلم أن اسمه : (محسن سالم السامعي) . سالم السامعي – اليافعي – هو أحد العسكر الذين عملوا مع السلطان القعيطي وتوزعوا في مدن وقرى حضرموت وقد أعجبته قريتنا فاستقر بها وتخلى عن العسكرة ثم تزوج من إحدى بنات القرية وأنجب منها ابنا وحيداً هو (محسن) زميلي في المدرسة ، كان محسن طفلاً ثم شاباً ودوداً هادئ الطبع ، وعلى رغم أنه ينعم بمستوى معيشي أفضل منا فقد كان نحيلاً ضعيف البنية متعرضاً للأمراض المختلفة بصورة دائمة ، وكان والده يعيد ذلك للسحرة والحاسدين في القرية ويدفع الكثير مقابل الأحجبة والتعاويذ.
عاشت قريتنا نحو عقدين من الزمان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي تدور حياتها ويدور اقتصادها بصورة محورية حول اليافعي ودكانه ، حتى وصل من المهجر أحد شباب القرية الذي تلقى شيئاً من العلوم في المدارس ، وقد هاله حجم الأرباح وفروق الأسعار التي يحتسبها اليافعي ، فشن عليه حملة تحريضية وحث الناس على مقاطعته وبين لهم أنه بإمكانهم أن يأتوا بحاجتهم بأنفسهم وذهب في طليعة أول مجموعة إلى المكلا حاملين معهم القليل من النقود وبعض البضائع من التمور وأعمال الخوص التي تعملها نساء القرية وعدد من الضأن والماعز وابتاعوا بأثمانها ما يحتاجونه من أشياء .
الذين لم يستطيعوا الذهاب بعثوا مع أصحاب الرحلة بعض ما يملكونه فباعوه للهم واشتروا بثمنه ما وصوهم به ، وكانت عودة القافلة يوماً احتفالياً في حياة القرية – كان اليافعي يسخر منهم ويهدد الذين قادوا الحملة قائلاً : ( أنا وأنتم والزمن طويل ) ولكن ذلك الشاب تمادى في التحدي واتفق مع أحد التجار في المكلا على أن يبيع للناس بالدين ووضع عنده مبلغاً من المال كان قد أرسله معه أبوه ليشتري به مالاً ونخلاً في القرية ، لكن في موجة من الأربحية عدل عن شراء المال ووضع المال الذي أتى به ضماناً لأهل القـ رية عند التاجر في المكلا وكتب لأهله في المهجر أنه لا ضير من تأجيل شراء المال والنخل حتى يتحسن وضع القرية الاقتصادي.
أخيراً وجد اليافعي نفسه في مأزق حقيقي ، وقل المبتاعون منه ، بل وتلفت بعض بضائعه وكثر الشامتون فيه ، وأصبح لا يطيق التهكم ولا حتى المداعبة الساخرة احتد طبعه ، وسمعته يشتكي عند جدي ويتهم الجميع ينكران الجميل، وصحونا ذات يوم على اليافعي وهو يبيع عدداً من الحاجات بأقل الأسعار وعرض على جدي شراء عدد من أكياس الحبوب على أن يسدد منها بعد عام وبعد أيام قليلة أقفل الدكان وأخذ أسرته وانتقل إلى المكلا حيث فتح له متجراً واستأجر له سكناً هناك ، فرح بعض الناس لذهاب اليافعي وخشي آخرون من ألا تجد القرية والقرى المجاورة من يقدم لهم من الخدمات ما كان يقوم به اليافعي ، وبالفعل بدأ الناس يتحسسون الضيق القادم والحاج حسن لا تطيع أن يوفر كل لوازمهم وبعض الحرفيين اضطروا للذهاب بأنفسهم لبيع بضائعهم في المكلا لكنهم اكتشفوا أنهم أنفقوا في الرحلة الشيء الكثير، أكثر مما كان يقتطعه اليافعي منهم ، وعاد والد الشاب بنفسه من المهجر وسوى أمور ابنه المالية واستشاط الشاب غضباً من تصرف والده وغادر القرية عائداً إلى المهجر حانقاً متبرماً وتبعه والده بعد أن أتم شراء المال والنخل وأوكل العمل فيه لأحد أقربائه وتركوا القرية في حيرة من أمرها .
وصاح الناعي ذات يوم معلناً وفاة أحد وجهاء القرية ، وفطن الناس إلى أنهم بحاجة إلى كفن ولوازمه . لم يكن يوجد شيء في القرية فأرسلوا اثنين من الشباب إلى القرية المجاورة لعلهم يجدون عندهم كفناً لميتهم ، وأسرع الشابان يحثان الخطى ، فإكرام الميت دفنه . كان الناس يقدرون قطع المسافة سيراً على الأقدام في نحو ساعتين ، لكن توقعوا أن الشابين سيحتاجان إلى الساعة ونصف الساعة وعلى ذلك فتوقعوا عودتهم بعد ثلاث ساعات ، إذا ستكون العودة بعد العصر بقليل ، لكن المجتمعين بدأوا يقلقون عندما الوقت بعد العصر وأخذت الشمس تدلف نحو المغيب ولم يصل الشابان بعد وازداد القلق في منزل الميت حيث اجتمع الناس حول المتوفى يقرؤون القرآن حسب عادتهم في مثل هذا الحال ، وقرب المغرب ولم يصل الشابان ورأى الناس ألا مفر من إرسال شابين آخرين وراءهما فربما وقع للأولين مكروه في الطريق ، لكن قبل تحرك الآخرين قدم من القرية المجاورة رجل مع حماره وأخبر الناس أن الشابين لم يجدوا كفنا في تلك القرية المجاورة وقرروا التوجه إلى قرية أبعد لعلمهم بوجود شيخ يحتفظ دائماً بكفن يعطيه لمن يحتاجه على أن يشتري بدلاً عنه في أقرب وقت ممكن ، هكذا عاد الناس لاحتساب الوقت مقدرين أن الشابين سيعودان في نحو الساعة الثامنة مساء أو التاسعة على أكثر تقدير، وبما أن طريق القرية الأخرى المختصر إلى قريتنا يأتي من جهة أخرى عبر الجبل المطل على القرية فقد تعلقت عيون الجميع في الجبل علهم يرون ضوءاً يبشرهم بقدوم الشابين ، وأخيراً قبس الضوء رآه أحدهم أولاً ثم توضح الضوء يمشي منحدراً في الجبل وهكذا أصبح في حكم اليقين وصول الشابين في نحو نصف ساعة ، ونقل الميت من المنزل إلى المسجد للتطهير والصلاة عليه وبدأ معلم المسجد يهيئ المنشل ، وبالفعل كما توقع الناس لقد وصل الشابان لكن بدون الكفن . ذلك أن ميتاً آخر في تلك القرية قد سبقهم إليه ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . رددها الناس في كل مكان ، لا مفر من الدفن الجثة لن تحتمل إلى الصباح ولا أمل في الحصول على كفن ، المكلا على مسافة يومين على الأقل ذهاباً ومثلها في العودة .
وتحدث إمام المسجد للناس وقال لهم : إنه لا بأس عند الضرورة أن نلف الميت في أي ثوب ، الشرط فقط هو الطهارة والستر ثم لا ينفع الإنسان في القبر إلا عمله وإلا ما قدمه من خير ، لكن آخرين من أقرباء الميت بكوا خصوصاً من النساء اللواتي ازداد صراخهن وعويلهن مما دفع أهلهم إلى زجرهن وتنبيههن أن ذلك حرام وغير جائز شرعاً ، بعضهم همس بأن الميت الوجيه كان من أقوى المحرضين ضد اليافعي ، وجادل أناس في ضرورة أن تكون الثياب بيضاء على الأقل وإن لم تكن جديدة، ولم يكن ذلك بالمتيسر في ذلك الزمان ، أخيراً لم يجد الناس وأهل الميت بداً من تكفينه ودفنه وهكذا عدنا من المقبرة الهزيع الأخير من الليل بعد إجراء مراسم الدفن سمعنا صوت امرأة يخترق صمت وهدوء الليل وهو يصيح : ( يا حسرتنا على اليافعي ! ) .
خواطر من أوراق الأستاذ علي عبد الله البيتي – رحمه الله – تنشر لأول مرة .