تراثيات
سالم محمد بجود باراس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 124
رابط العدد 2 : اضغط هنا
هذا الشاعر الشعبي الذي بدأ مشواره الشعري منذ نعومة أظفاره، كان يحمل على الأكتاف، فتشرئب الأعناق ويلتف حوله الصغير والكبير، وتصمت الألسن، لأنه حكيم عصره، يكاد يكون الشاعر الوحيد الذي كسب القلوب، وله شعبية عريضة، فحاولت نفض التراب عن هذا الكنز المدفون فشاعرنا من مواليد قرية بريرة بوادي دوعن ۱۹۲۸م.
سنأخذ لمحات خاطفة ولآلئ مضيئة لهذا الشاعر الذي ذهبت معظم أقواله مثلاً، فلشعره عذوبة كالماء السلسبيل تغوص في أعماق مفرداته فتجد أجمل وأروع الصدف، وأكاد أجزم لمعرفتي بأشعاره أنه نابغة عصره، وداهية دهره، حكمة ودراية، فقد صقلت أقواله بقالب ذهبي ليس له مثيل لسهولة معانيه، واختيار مفرداته.
نبحر الآن في أعماق شعره ليكون القارئ الحكم والفيصل فيما ذهبت إليه .
المعلوم والمجهول:
والطير ذي يشرب على غلفول
يعرف طيور الأرض في الخليان
وإن كان شئ تركي من أسطنبول
با ينكروه العول و الغربان
هنا يعطي الشاعر درساً من الواقع فيقول أهل الأرض تعرف أهلها وحلانها، وأي شخص غريب لابد أن ينكره الصغير قبل الكبير.
(غلغول) اسم لموقع ماء.
(الخليان) المساحات الواسعة خارج المنازل ما تسمى الفضاء.
(العول) اسم لطائر يشبه الحمام.
ولازال الغريب غريب:
والذي قال هذا خوي لحمي ودمي
خوك من بو وأم أو خوك لا في الرضاعة
خوي لا ذي سبح نا وإياه في بطن أمي
شارك الروح أغلى من شريك البضاعة
إن كلت قوت كل وإن ما كلت قال سمي
ذي يحس ما تحسه في الشبع والمجاعة
وان نصح صدق با نصح له بقلبي وقمي
يخرج القوت من فمي وكبدي جواعة
عمق وتحليل رائع لهذا الغريب والحليم تكفيه الإشارة ورد مفحم لكل من دافع عن هذا الغريب تحت أي مسمى كان .
(سمي) بضم السين وتشديد الميم هو السم الناجع.
ومازال شاعرنا يحلق في سماء المعرفة وينثر الحكمة ويوزعها لذوي العقول السليمة، ويشرح لهم مقصوده، وهدفه شرحاً مفصلاً بأجمل الأشعار وينتقي حروفها مثل لوحة جميلة تسلب العقل
والإحساس لروعتها الخلابة.
طبائع البشر:
ما با يلتحق زين في عود القرض
لا ما لقى دخان با يلقي شرار
ولا في الغربان با تحصل بيض
حرام يحرم لو تدور له دوار
هنا يعطي الشاعر لكل لبيب وعاقل حكمة فيقول له: طبائع الناس تختلف فمنهم (الزين) الذي تركن إليه وتعتمد عليه لسجاياه ومعدنه الأصيل.
(ما با يلتحق) لن تجد لو بحثت وتقصيت. (لا ما لقي) غالباً ما تأتي لا بمعنى لو أو إلى وتأتي نافية وناهية حسب موقعها من الشعر الشعبي وهنا بمعنى لو ما أحدث دخان. (با تحصل) بتشديد الصاد مع الفتح بمعنى ستجد (أبيض) لونه شديد البياض.
(حرام) تعني هنا مستحيل. (يحرم) بضم الياء يعني مستحيل المستحيل ان تجد غراب أبيض.
(لو تدور له دوار) تدور بتشديد الواو مع الفتح أي لو تبحث عنه في مشارق الأرض
ومغاربها.
وكذلك هناك فرق شاسع وبون كبير بين الشخص الصالح والطالح .
سوء الظن:
قبلكم ناس تهموني وبطني خلية
كن مول العسل تظهر بشدقه علامة
من تهمني وعاتبني وبطني خلية
حسبه الله في الدنيا ويوم القيامة
يا لك من حكيم تزلزل بكلماتك القلوب وتزيل الأدران وتزيح الشكوك وسوء الظن وتكشف القناع ، وتناقش التهمة بعقلانية وحكمة فتقول : لماذا التهمة ؟!!” والحال كما هو لم يتغير ويتبدل الواقع ، فمازلت ذلك الرجل الفقير المتواضع الذي يكسب قوته بعرق جبينه ، فلم أسرق ولم أعتلي المناصب ولم أمتدح بشعري من لم يستحق لكي أحضى بماله وهلم جراً. (كن) بفتح الكاف بمعنى لكن.
(مول العسل) صاحب العسل.
(بشدقه) الشدق بمعنى الشفاه.
(العلامة) أثار العسل على شفتيه.
الحجة بالحجة والبيئة ظاهرة فمن أكل مثلاً عسلاً، فلابد أن ترى علامات العسل بشفتيه ظاهرة للعيان، وكذلك ستجدون آثار النعمة ظاهرة للجميع من بناء القصور وملابس فخمة، وسيارة فارهة، ولكن التهمة داحضة وباطلة والحساب يوم القيامة لو أصريتم على إلصاق التهمة بي بدون دليل أو برهان.
هنا الشاعر يضرب هذا المثل لكل شيء في
الحياة فلابد من الدليل والبرهان لكل تهمة أياً كانت، فلم تعد للشكوك والظنون محلاً للقبول والتسليم بها، بل لابد من التحقيق والتمحيص والتيقن ، وذلك عند الحاجة فقط، وليس تتبع عورات الناس والبحث والتنقيب عن عيوبهم، فهذا في العرف والشرع باطل وحرام ولا يجوز بأي حال من الأحوال.
حكم وأمثال:
يا لبنادم على دنياك غرب وشرق
حيث لا حيث ما ينفعك عمك وخالك
لا تلوم على الحطاب وعلى المفلق
قبل تنظر فعال الناس عائن فعالك
ذي يحتقك لا جبته لغيرك يحنق
والحنق ذي بلا عمدة يشابه ظلالك
والمغرب يغرب والمشرق يشرق
خف واستخف والعافية رأس مالك .
(يا لبنادم على دنياك) أي يا بني آدم أسع لرزقك واجتهد.
(غرب وشرق) بتشديد الراء في كلتا الكلمتين هنا كناية عن التحرك في كل الجهات لكسب لقمة العيش.
(حيث لا حيث) أي في كل مكان ليس هناك سقف محدود أو جهة معروفة.
(لا تلوم) بتشديد الواو مع الفتح، أي لا تعاتب (الحطاب) بتشديد الطاء الذي يجلب الحطب.
(المفلق) بفتح الميم والفاء وتشديد اللام مع الكسر هو الشخص الذي يقطع الخشب
قطع صغيرة بفأسه.
(عائن) انظر ودقق في أفعالك وطبائعك.
(ذي يحنقك) بتشديد النون الحنق هو الغضب من فعل ما. الا جبته لغيرك يحنق ) لا جبته بمعنى إذا صدر عنك هذا الكلام الفاحش أو المسيء وغير اللائق. (يحنق) بتشديد النون مع الفتح هو الزعل وشدة الغضب.
(بلا عمدة) بضم العين أي بدون قصد.
(المغرب يغرب والمشرق يشرق) كل هذه الكلمات بتشديد الراء مع الفتح.
وقد ذهب البيت الأخير من القصيدة مثلاً بين الناس (خف واستخف والعافية رأس مالك) أي لا تركن للدنيا أكثر من اللازم وتجعلها همك وشغلك بل توسط في الأم، فالصحة تكمن فيمن عرفت نفسه عن الدنيا وزينتها وتعد الصحة رأس مال وليس الدراهم الزائلة.
هكذا يعلمنا الشاعر دروس وحكم متنوعة في الحياة ، وكل يوم يتحفنا بشيء جديد وحكمة لم نكن نعلمها فيصبها في قالب ذهبي، ويضعنا أمام الواقع لكي نستفيد وننهل من خبراته وتجاربه، فهو الشيخ الحكيم والأب الرحيم، فهو كالبحر الذي يرمي إلينا جواهره وخيراته .