دراسات
أكرم أحمد باشكيل
إن المكان والزمان لهما جناحا السرد المحلقان به في فضاءات الخيال المتدثر بهما الفعل الحكائي للسارد . ويحمل المكان بكل ما حواه من تفاصيل دقيقة لمكنون ما به من وجودية الإنسان وتفاصيل محتوياته تبعات البناء السردي عند الكاتب الراوي ويكون مرتكزاً من مرتكزاته التي لا تنفصل عنه طوال هذه الرحلة في الرواية أو القصة .
ولعل إبراز الكاتب الراوي لثنائية العلاقة الحميمية بين المكان والإنسان تبدو من الوهلة الأولى في سرد تفاصيلها الدقيقة لها معان جد مهمة في العمل السردي العام من خلال رصده للحياة وتطوراتها وبيئاتها على شكل أو نحو يجعل من فعل الخطاب شاهداً على تمثلات المشهد مكانياً .
من هنا تأتي رواية (صمت الأشرعة) للكاتب خالد سعيد الحمدي وهي توثق قرائياً الحالة المكانية بـكـل عـلائها بـيـن الإنسان (أيمن بطل الرواية) والمكان (مدينة المكلا) . ولعل العلامة الواصلة بين (صمت الأشرعة) والمدينة بكل أبعادها المكانية في جود (البحر ) لما تشير إليه (الأشرعة).
البحر وموج العواطف الهادر في أحزان سفينة صدئة
يتلقفك البحر منذ الوهلة الأولى وأنت على أعتاب الفصل الأول من هذه الرواية (صمت الأشرعة) بكل ما يحمله البحر من صخب وهدير وأضواء المدينة العاكس لها وينقلك الكاتب / الراوي بلغة ضميره المخاطب الى حالة التوحد اللامتناهي بين المحبوبة (شريفة) والمكان / البحر حيث يصرح بذلك علناً حين بدأ الرواية بقوله:
” أنا والبحر وشريفة والسفن والميناء المنسكبة أضواؤها على الأمواج المتكسرة في رؤوس الصخور اللامعة بدهشة وبهاء . هديرها يتعالى حدة وثمة موجة صغيرة تلقي بطرطشاتها ورذاذها على وجهينا بنعومة ورقة .. الزرقة والموج ووجه شريفة وأنفاسهما الدافئة يحتلان المكان ويحلقان في ليل من الشوق والألق . ” 1 – 9.
وفي غمرة النشوة من الغبطة والسرور مكانياً نراه يعود بنا للتأكيد على ذلك بقوله :
” أنا هنا وشريفة روحان يسافران في بحر من الحلم والمتعة وحولنا بعض العائلات المنتشرة على الكبس ٢ – ٩. ويقصد هنا بـ (الكبس) كما عرفه بكورنيش المكلا وهو هنا نراه يتحدث عنه بكل أريحية امتدادا لنشوته بالحبيبة والمكان معاً قائلاً :
” أتعلمين يا شريفة .. أن هذا المكان يثير في كثيراً من المتعة والأحاسيس الرائعة من هنا أرى ضياء ونور المكلا وسواحلها الدافئة، وأراك امرأة مثل مركب لم يمسسه البحر ولم يلتصق به الصدى، ولم تمسس أخشابه الرطوبة والملوحة ” ٣ – ١١.
الحديث عن البحر في ظلال هذه الغيمة من العواطف الجياشة المتدفقة مع تدفق وتدافع أمواج البحر المظللة له مع محبوبته شريفة تجعلها تتداعى له مع تداعي المناظر الجميلة بامتدادات البحر اللامتناهية بكل مناظره الخلابة يقلب معها صفحات التاريخ وأحداثه وما علق بالذاكرة منها فمنظر (السفينة الصدئة) يثير القلق عند حبيبته (شريفة) فتعلله
بقولها :
” نعم في ذلك اليوم النحس حين ارتطمت هذه السفينة البحرية وتحطمت كل أجزائها، كانت المكلا واقفة على الساحل تشهد تناثر أجزاء السفينة وحطامها وحين عدت إلى المنزل رأيت أبي وأخي أسعد يبكون بكاء شديداً، عرفت حينها أن روح أمي قد انتقلت الى بارئها . ٤ – ٠١٢
بدأت شريفة في شرح تداعيات حزنها بفراقها لأمها وأسباب موتها ومرض أبيها ومشاعرها منهما ومن هذه السفينة المحطمة الغارقة في البحر … يعتذر أيمن لحبيبته شريفة لما سببه لها من تذكار لأيامها الحزينة قائلاً : ” أعذريني لقد جئت بك إلى مكان أشعل آلامك وجروحك الغائرة .
– أريد أن أنسى ولكن تلك السفينة فتحت مدافن الحزن في داخلي .
ولكن اعلمي بأننا محظوظون بأن لنا بحراً سينسينا عذاباتنا وكأباتنا وألامنا الموجعة .. بزرقته وأمواجه وشواطئه الممتدة إلى ما لانهاية .
– أيوه أيمن نعشق بحر المكلا كثيراً .
– إنه يشعرني بالأمان وينسيني اغترابي وخيبتي أشعر بالطمأنينة والدف، حينما أقف أمامه .
لذلك لا أخفي ولعي وتوقي له ، أرى فيه اللواذ من خوفي وهزائمي ، أنسى خلاله انكساراتي وخوفي ووادي القلق الذي يلاحق ذاكرتي وقد سافرت عنه وتركته يحترق بين أيد أكثر زيفاً ومراوغة اعلمي يا شروف إن للمدن روائح تلتصق بنا حين تغادرها إلى أمكنة أخرى تحملها معنا في ملابسنا ، في رائحة سجائرنا وفي كل مكان تطأ أقدامنا. لذلك أتي دائماً إلى هنا لأطوح بكل ما التصق بي داخل عمق البحر دون أن يراني أحد ، وأغتسل بمياهه فأعود طاهراً نقياً من كل ما علق… كل الذين هم الآن جالسون على البحر ينفضون غبارهم ومتاعبهم وهو رؤوف وكتوم ، يخفي بداخله أسرارهم وهمومهم الكثيرة . ” ٥ – ١٤ .
وفي غمرة هذه التصورات والرؤى المكانية عن البحر التي تقذفها حمم وجداناته نراه يقول عن المدن :
” والمدن كالنساء فثمة نساء تعشقها العين والقلب من اللقاء الأول وتمر بخيالك كطيف عابر ونساء أخريات تعشقهن طوال العمر وتتمنى ألا يغبن عن عينيك أبداً ” ٦ – ١٤.
المكلا و (جراحات باردة):
تشـغل الأمكنة في الفصل الثالث (جراحات باردة) من الرواية حيزاً كبيراً في وجدان وعقل الكاتب / الراوي حيث يصرح بذلك علنا بقوله:
“يحدث أحياناً أن نرغب في الاختلاء بأنفسنا في أمكنة نحبها ونموت فيها في عشق جدرانها وأتربتها وإن غبنا عنها يوماً فتبقى لها في دواخلنا لا تمحى أو تطمس آثارها ومعالمها ..” ٦ .
– كيف إذا كانت الأمكنة هذه بمثل مقام (المكلا ) الأثير لديه لاشك أن الحديث عند الكاتب الراوي بطعم ونكهة مميزة في مساءاتها الجميلة التي يكون للبحر معها مذاق خاص يصل إلى حد الروعة كما هي في قوله :
” روعة المكلا وأجوائها الدافئة لم تمنحني هذا المساء فرصة الذهاب الى فراشي رغم حاجتي الشديدة لأخذ قسط من الراحة بعد يوم مدهش برفقة شريفة على الكبس الممتد على ساحل المكلا بروعة ودهشة.. في حين بدت بعض البيوت شبه نائمة وانطفأت الأضواء بداخلها ولم يبق سوى إضاءة الكاشفات الكهربائية المتراصة على شوارع ومداخل البيوت الرئيسية وبعض الأزقة الفرعية داخل المدينة ، كل شي هادئ وقد بدا الجبل المطل على المنازل کوحش تخاله يلتهمها في المســـــاء ويقذفها عند الصباح فتعود الى صحوها ويقضتها من جديد ۷ – ۲۳.
المكلا .. حالها حال كثير من المدن يراها الكاتب / الراوي في رصد تطورها حين يقول :
” هكذا هي المدن تزحف نحو التطور والتمدن وإن بدت علامات تغير في تشكيل بنائها وصناعة نوافذها وأبوابها التي توحي وكأنها أتت من بيئة أخرى وتراث قادم من أرض ووطن بعيد . ٨ – ٢٤ .
لعل الكاتب / الراوي هنا أراد أن يسجل انتقاده لملامح التطور الذي رافق عمران المدينة المكلا وهو ما يبـ عدها عن الحفاظ على نمط بنائها المعماري القديم العاكس لتراثها المعماري الأصيل وهويتها وهو يؤكد ذلك عندما يقارن البناء الجديد ببيت حبيبته شريفة بقوله :
“بيت شريفة مازال محتفظاً بأثر تلك الأيدي التي شكلته من الجير والكلس الأبيض ونوافذ صنعت من الخشب الأحمر وماتزال تحتفظ بروعتها وجمالها الأسر . ذلك شدني الى غرفتي الواقعة في حي السلام بالقرب من منزل شريفة ولا يفصل بيننا سوى مقهى عوض صالح الذي اقتعد فيه كثيراً ويأخذني الوقت وأنا ألوك الأخبار بصحبة أصدقائي الباحثين عن النسيان والمتاهات البعيدة هذا الحي المنفتح عن الدنيا والزاحف نحو الحداثة بسرعة ودهاء . ٩ – ٢٤ .
إن الكاتب / الراوي هنا يسجل شهادته على حال المدينة المكلا في لحظة الكتابة ولم يتوقف عند رصد حالة الحي وهو جزء من المدينة فقط ولكن تجاوزه الى حال ساكنيه ( الباحثين عن النسيان والمتاهات البعيدة ) وهو بذات القدر يرصد حالة المهاجرين إليها وتأثيرات وجودهم بها وهي جد مهمة وتعطي بعداً آخر أكثر لتغيرات المدينة المكلا فضلاً عن حياة حيه الذي يسكن فيه فنراه يرصد بعين فاحصة راوياً عن شريفة / حبيبته وهي من سكان الحي الأصليين قائلاً :
قالت لي شريفة ذات يوم ….. لقد أتى كثير من البشر وسكنوا بيتنا واحتلوا الأماكن والأبنية وتعمقوا في الجبل ولم يتركوا لنا شيئاً من الأرض كي نبني عليها منازل جديدة ، وقد نراهم يوماً ينشئون منازل وأبنية حديثة داخل المقابر فلا نجد حينها مساحة ضيقة ندفن فيها أمواتنا الراحلين ١٠ – ٢٤ .
العلامة الفارقة في هذا الرصد هي مستوى التغير في طبيعة المدينة وما “… زمن مهترئ يمر مسرعاً وأرض يغيب فيها الجميع في متاهات ومفازات تستدرج نحو هوة لا يشعر بها ولا يدرك مضايقها المريرة … فنمر مسرعين بحثاً عن قبس يرشدنا إلى نهاية تلك المضايق ليخرجنا إلى النور دون إصابات وخسائر، وحين نصل تلوح لنا من بعيد بعد أن تنسحب من أمامنا لتتركنا نصارع أقدارنا بعبث وسذاجة وتشبث مستميت بالحياة.. ١١ – ٢٥ .
والسؤال الذي يطرحه القارئ هنا ما هو (الزمن المهترئ) الذي قصده الكاتب / الراوي هنا ؟ وهو بلا شك متعلق ومتصل بزمن الرواية عموماً.. وهو ما أشار إليه الكاتب / الراوي إشارة عابرة في. نقاشات (العم عوض حين يقول : ” العم عوض يتذكر دائماً ويتحدث فيما قبل عام ١٩٩٠ م ويقول… – كنا أسعد الخلق ولا نحتاج شيئا ١٢ – ٣٣
كل ذلك وما يحدث للمدينة المكلا بصيغته الاستنكارية ترصده الذاكرة ولا يمر عليها مرور الكرام وتأكيداً عليه نراه يقول:
” هذه الأرض ذاكرتها حادة جداً فمن المستحيل أن تنسى روحاً مرت على ترابها دون أن تحتفظ به وبذكرياته المندثرة فيها …١٢ – ٢٥ .
هذا النقد اللاذع البالغ حدته لجلد الذات مداه في عدم التضحية و تشبث مستميت بالحياة في وضع مزري وزمن مهترئ يرسم به معالم صورة قاتمة لكن مع كل ذلك ثمة صورة مغايرة لهذا الواقع يرسمها لحيه الساكن فيه بقوله: ” حياة أسرة ورجال لا يعرفون سوى الدعابة والفكاهة … لا ينم ولا يغتب أحد أحداً … نحاكي الواقع ومتاعبه.. نحكي همومنا اليومية بـ صدق وتواضع وارتقاء… لقد غرس في قلوب هؤلاء جيل أتى قبلهم فنون الحديث والصدق والحب والوفاء.. مقهى عوض صالح يجمعنا عند المساء.. وتطل علينا بعض منازل حي السلام ،فتنعكس أضواؤها على وجوه المارة والذين يقـتعدون المقهى وبعض الأمكنة الأخرى ، تكسب المكان والوجوه بياضاً ونوراً يشع ولا ينطفئ ١٤ – ٣٣ .