إبداعات
صالح سعيد بحرق
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 139
رابط العدد 2 : اضغط هنا
منذ أن يهجم الليل على قريتنا، في مساء فاتر انتظر قدومها. فبعد أن أعود إلى الحجرة الباردة وأطرح الأوراق المليئة بهذياني انتظر قدومها لا يحدث أن تأتي إلا متشحة بسواد الليل وخوفه المركون في الزوايا.. إنا لا انتظر شيئا منها بيد أنها تصفي إلى حكاياتي وتلتحف بسماء الخوف التي تظللني.
أعددت أبريق الشاي وانتزعته من بين أكياس بلاستيكية عتيقة للخبز وأشعلت السخان الكهربائي وانتظرت غليان الماء، لم أتحرك إلا قليلاً باتجاه رواية زوربا على المنضدة فتحتها لأقرا فيها فصلا أعجبني، لقد كان زوربا يهبني دوما قناعات يأسه إن لا فائدة من الليل مادام لا يأتي بدفء الأحبة ، ورحت أقرأ قليلاً وأرنو إلى السقف وكان المساء يزحف ببطء تاركاً أرديته الثقيلة ممتدة في الغرفة وهي تسعى نحوي وتراقب سكوني واضطرابي وخوفي من المجهول فاصرخ في وجهها واقـ ف مذعوراً ساحباً الغطاء عن جسدي النحيف موجهاً إرادتي صوب عتمة مضيئة عند الباب تهمس لي بان اقترب .. إنها هي جاءت لتستمع إلى حكاياتي
في مساء فاتر مليء بالتوجسات.
وعكفت على النظر إلى تلك العتمة ورحت أحكي لها عن التماعات الأمس وأشواق السنين وكنت أجد متسعاً إلى الإفضاء إليها بسر الطريق البعيدة والليل والخوف. كنت غالبا ما أتمنى الشيء ولا أجده وأتوق إليه ولا أتحصل عليه كنت أصل إلى مرحلة قريبة من آخذه ثم يطير مني بعيدا واعرف إنها كانت ستكون لي ولكن الليل حجبها في سواده فلم اعثر لها إلا على ارتجاجات قوية في ذاكرتي .
وعالجت غليون التدخين بشـيء من الألفة.. قابلت التبغ وشممته… كان رديئاً جداً فمنذ شهور لم أتناول أي تبغ مستورد ورحت أدخن بشراهة متقطعة وكنت أبصر على الباب
وجوها مسائية تحييني وتمضي إلى داخل الردهة وتتلاشى والمساء يتساقط علي مانحاً جسمي نتوءات زائدة ترتسم على محياي وتتسرب إلى روحي فقاعاتها الملونة.
وعنت لي فكرة أن أتسلق جدار الوهم العالق بي وأن أتذكر طيفها لعله يطفئ رتابة هذا المساء وفتوره ولم يكن لدي من نوازع التذكار إلا صورتها التي أهدتني إياها في حفل إنهاء العام وما أن نظرت فيها حتى انسربت الذكريات لكن المساء الذي يحتويني يرمي بي في أتون ذكريات أخرى فاستسـ سلم للوهم وللمساء الفاتر.
وبدأت أطرافي تبرد وأحسست بلزوجة فادحة تنهمر على وعيي فقمت قليلاً وأطللت من النافذة الخشبية الوحيدة وأنا أحمل نصف إغماضة وبدت لي المدينة في الأسفل تساق إلى مساء فاتر يهوي بها في لجة السكون ولكم ضجرت من العمارات الإسمنتية الواقفة بشموخ كاذب وأحسست أنها تسلبني إرادة ما على صنع قرار آخر لحياتي فقد كنت أبغي الشيء ولا أتناوله وأرنو إلى نواحيه فلا أرومها وما من شيء يزعجني أكثر من المدينة إنها ترهب خطواتي في الليل وتطوقني بالوهم والقلق والفتور وتسرق فراشات النور التي ترقص أمام شاشة فرحي . أذكر أن أبي أخذني في طفولتي إلى المدينة وفيها رأت عيني لأول مرة بهجة مغايرة للريف وأشخاصاً يمرون مسرعين إلى غايتهم وعمارات شاهقة لكنني أحسست للتو بالغربة فيها والضياع ولم أكن أهفو إلى شيء أكثر من سرعة التخلص منها والوصول إلى قريتي وعندما اشترى والدي المذياع سررت به وغنيت في سري بلحن تحبه أمي. هأنذا الآن أقف قبالة شخوص المدينة إنها في هذا المساء تكاد تدخل بنتوءاتها في داخلي وتريك خطوي على درب الشوق وأصبحت أخافها كما أخاف هذا المساء الفاتر الذي ينضح بالألم.
ومن صورة زيتية لرسام هولندي كنت أمعن النظر في الغرفة أذهب في الخطوط والألوان وأتذكرها تلك اليدين في الصورة تشبه يديها وذلك الفم المكتنز بالشهوة قريباً من
تقاطيعها.
وأحسست بالرغبة في البوح والكلام ولكن لا أحد هنا سوى الجدران والليل والوهم وخيالها البعيد فلا جرب إذن السقوط في هاوية الألم عله يريني سواداً مختلفاً للأشياء أو بؤرة انطلاق جديد لاحتواء الوحدة والفراغ.
كان الباب الوحيد في الغرفة الذي يؤدي إلى سطح البيت مفتوحاً وكان بإمكاني الصعود إلى الأعلى لأرى المدينة في الليل لعل هذا المساء فيها يرنو إلى كابتي فيزيلها وبالفعل كدت انهض لولا أن علقت رجلي بالغطاء ولكني عالجت الأمر وخلصت رجلي واستقمت واقفاً ورنوت إلى الباب وأنا احمل نصف دهشة ولا ادري كيف تذكرتها الساعة في موقف مشابه لهذا عندما تسللنا معاً إلى سطح المتحف لنرى مجسم الديناصور كانت خائفة وترتبك خطواتها لأن لمبة الممر كانت مغلقة وكانت تشعر بالخوف وترتمي على زندي واستطعت في تلك الليلة أن أقول لها كلمة ما عن الحب ثم ذهبنا لنشاهد المجسم الضخم وقد تعالت ضحكاتنا.
كنت أرنو إلى مدخل الغرفة بشيء من الارتياب وأتوق لما يكسر رتابة هذا المساء فقلت أجرب الغناء ولكنني خشيت أن يسمعني الجيران فمن عادتي أن أظل الليل صامتاً أترقب من خطواته خطوة تنقلني إلى مكان سحيق أتخلص فيه من الخوف.
وجاءني من الظلمة صوتها نديا كالقرنفل ونحن نهبط السلم في تلك الليلة الباردة فجلست على السرير وقد أزحت كامل الغطاء ورميت بعلبة التبغ بعيداً كان المكان الذي يجمعنا في تلك الليلة موحشاً لكن وجودها كان يضفي علي شـجاعة لمواجهة الخوف واستطعت أن ارسم على محياها انطباعاً وجودي كان وجهها في العتمة يضيء كفانوس سحري معبأ بالدهشة ومشينا في ذلك الليل وقد تبدت لي الظلمة كدرب التقط فيه قناعاتي الجديدة.