أضواء
منير بن سالم بازهير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 25
رابط العدد 3 : اضغط هنا
التاريخ الإسلامي مجموعة تجارب ودروس وعبر مرت بها البشرية، فمنها ما كان إيجابياً ومنها ما جمع الحسن ونقيضه، والكل محل تأمل وأخذ العبرة والعظة. ولذلك كان التاريخ جديراً بإمعان النظر، وبذل الجهود الحثيثة لتحليل أحداثه، والاهتداء إلى إيجابياته، لكي تتوضح للبشرية الحقائق التي ترسم لها خطى السعادة إن هي التزمت ما يضمن ها ذلك، أو الشقاء إن هي تنكبت الصراط وخالفت هدي الإسلام. ولو أن المسلمين في هذا العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور ، قال ابن الأثير – رحمه الله تعالى : ((فَإِنَّهُ لَا يُحدث أمرٌ إِلا قَدْ تَقَدَّمَ هُوَ أَو نَظِيرُهُ ، فَيَزْدَادُ بذلك عقلاً وَيُصْبِحُ لأَنْ يُقْتَدَى بِه أهلا ..)) (۲).
في عصرنا الراهن كثر الهواة ليس للقراءة في علم التاريخ فحسب ؛ بل وللكتابة فيه، ولذا أحببت أن أتحفهم بهذه المقدمات الأساسية في علم التاريخ معناه ومبادئه وأهميته وشروطه، ليستوعبوا خطورة علم التاريخ وأهميته وأهمية دراسته، وشروط المؤرخ وضوابطه، وبالإمكان أن تتبع هذا المقال بمقالات أخر تتكلم عن منهجية كتابة التاريخ وفوائده وقضايا مهمة أخرى.
معنى التاريخ في اللغة والاصطلاح:
يقال في اللغة: التاريخ بالهمز والتاريخ بغير همز والتوريخ، ويعني به : تعريف الوقت. وهو لفظ عربي أصيل، قال الدكتور أحمد خليل الشال (۳): ورجح الكثير من أهل العلم أن (التاريخ) كلمة عربية جنوبية تواتر أصلها بحروفها (ورخ) قديماً في لسان عرب الجنوب تواتراً يتعذر حصره، محتوياً لمعنى القمر، أو بالأحرى الهلال، دلالة على بدء الشهر القمري عند بزوغ هلاله في أول ليلة منه، فصارت كلمة (ورخ) بعد ذلك في لسان العرب الجنوبي تدل على معنى كلمة الشهر القمري، ذلك أن تأريخهم للأيام والشهور كان تأريخاً قمريا (٤).
أما في الاصطلاح فالتاريخ عندهم: فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث توقيتها”،
وعرفه محمد سليمان الكافيجي (ت ٨٧٩هـ) بقوله : ” هو علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله، وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته ، وقيل التاريخ هو: “معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم”.
وموضوع التاريخ: “الإنسان والزمان والمكان”.
ومسائلة : “أحوالهما المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان وفي الزمان والمكان (٥).
وأما فائدته: “فمعرفة الأمور على وجهها”. ومن أجل فوائده:” أنه أحد الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين، المتعذر الجمع بينهما وبه يعرف الناس حجهم وصومهم وانقضاء عدد نسائهم ومحل ديونهم)) (٦).
وذهب الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى – وهو محق في بيان قيمة التاريخ وشرح فوائده إلى أنه فن من فنون الحديث النبوي، وأداة لحفظ الكثير من أحكام الدين، ومدعاة للاحتفاظ بمآثر الصالحين، واستشهد بقول الإمام سفيان الثوري – رحمه الله تعالى : ” لَمَّا اسْتَعْمَلَ الروَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلَنَا لَهُمُ التَّاريخ ” وقد احتل التاريخ عند أهل الحديث مكانة هامة جداً لمعرفة اتصال الأسانيد وانقطاعها، وفي الكشف عن أحوال الرواة وفضح الكذابين (۷).
أما حكمه: فقد ذهب الحافظ السخاوي إلى أنه فرض من فروض الكفاية.. أو فرض عين بالنسبة إلى معرفة تاريخ الأنبياء والصحابة والصالحين وسنة بالنسبة إلى غيرهم(۸).
أهمية علم التاريخ:
لقد تعددت عبارات العلماء في بيان أهمية علم التاريخ فمن ذلك قول الحافظ السخاوي (ت ٩٠٢ هـ): ((علم التاريخ فن من فنون الحديث النبوي وزين تقر به العيون، حيث سلك فيه المنهج القويم المستوي، بل وقعه من الدين عظيم ونفعه يتعين في الشرع؛ إذ به يعلم أهل الجلالة والرسوخ ما يفهم به الناسخ من المنسوخ، ويظهر زيف مدعي اللقاء. وتحفظ به الأنساب.. ولذا نعلم منه أجال الحقوق، واختلاف النقود والأوقات التي ينشأ عنها من الاستحقاق ما هو معهود وينتفع به الاطلاع على أخبار العلماء والزهاد والفضلاء والخلفاء والملوك والأمراء والنبلاء، وسيرهم ومآثرهم في حربهم وسلمهم، وما أبقى الدهر من فضائلهم.. بعد أن أبادهم الحدثان، وأبلى جديدهم الملوان ولهذا صرح غير واحد من العلماء بأنه فرض من فروض الكفايات والراجح ارتقاؤه على فرض العين، للاندفاع بقيامه به عن غيره من التأثيمات .)) (۹) .
وقال الإمام ابن الأثير (ت ٦٣٠ه): “لقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها ظناً منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار؛ وهذا حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره، ومن رزقه الله طبعاً سليماً وهداه صراطا مستقيماً علم أن فوائدها كثيرة ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة “(١٠).
وقال الشيخ محمد بن عيسى بن محمود بن كنان (المتوفى: ١١٥٣هـ) : ((واعلم أن فن التاريخ فيه عرفت شعائر الأنبياء، وبه نقلت أخبار من سلف ومن مضى، وبه يقتدى بما كانوا عليه من مكارم الأخلاق، وبه يأبى الشخص عما صدر من الخلاف والشقاق، وكفاه شرفاً أنه علم منه القصص، وبراهين النبوة، وأعلام الرسالة، قال تعالى: ” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ” وأداء القصص أداء الخبر على وجهه، وبه بعث الله أنبياءه وصفوته من خلقه. قال تعالى: (( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)) .(۱۱)
وقال ابن خلدون (ت ٨٠٨ هـ): “إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع ، وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق (۱۲).
وقال مصحح تاريخ (الخميس في أحوال أنفس نفيس) وهو الشيخ مصطفى المصري : وبعد: فإن من أجل ما يتحلى به أهل الفضل والكمال، وتنبعث إليه رغبات أرباب المناصب والأعمال، فن التاريخ الجليل، الغني فضله عن البرهان والدليل، إذ هو من أعظم ما تستمد منه العقول السليمة، وتستخرج به ما خفي دركه من حل الأمور العظيمة ، وتستضيء بأنواره البصائر، ويهتدي به إلى سبيل الرشاد التائه الحائر، وإنما تأخذ كل نفس بقدر الاستعداد في الأمور، وعلى حسب ما ألهمها الله من التقوى والفجور، كما يشير إليه قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث يقول:
رأيت العقل عقلين … فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع … إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس … وضوء العين ممنوع
هذا مع كون ثماره على طرف الثمام، لا يحتاج في اجتنائها إلى كبير جد واهتمام هني الجنى، سهل المقتني، روض تتأرج من رياحينه الأرجاء، وتنتشر روائحه إلى جميع البلاد والأنحاء، لا سيما بواسطة من الطبع الجميل، فإنه الذي تكفل بذلك وهو نعم الكفيل، وإذا تحلى بنفائس الضبط والتصحيح، كان أرغب لطالبه من محاسن الأغيد المليح..)) (۱۳).
شروط المؤرخ:
إذا لم يتصف المؤرخ المسلم بالورع والعدالة وتنحية الهوى دل ذلك على ضعف التدين، ومن كان هذا حاله يفسد أكثر مما يصلح، ويسهم في هزيمة الأمة بأكثر من وجه بدلاً من نصرتها ولم شعثها ولهذا نجد التاج السبكي – رحمه الله تعالى- يقول في كتابه (معيد النعم): ((وهم – أي المؤرخون – على شرف جرف هار لأنهم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من كاذب أو صادق ، فلا بد أن يكون المؤرخ عالماً عادلاً، عارفاً بحال من يترجمه، ليس بينه وبينه من الصداقة ما قد يحمله على التعصب له ، ولا من العداوة ما قد يحمله على الغض منه، وربما كان الباعث له على الغض من قوله، مخالفة العقيدة، واعتقاد أنهم على ضلال، فيقع فيهم، أو يقصر في الثناء لأجل ذلك.)) (١٤).
فمهمة المؤرخ المنصف حقيقة أن يبرز المواقف والأحداث كما هي عارية عن أي كسوة تخدم اتجاهاً، أو تروج لمذهب، أو تقرب السبيل إلى غرض.. وهذا يقتضي أن نتجرد قبل كل شيء، عن قيود الأسبقيات ، وعن تقديس الذرائع، بل ينبغي أن يكون هدفنا أن نصغي إلى ما تنطق به هذه المواقف والأحداث معرفة بذاتها، بدلاً من أن نصغي إلى ما تستنطق به.. (١٥).
والتاريخ الإسلامي هو ديوان واسع يحمل شرف أمة الإسلام بكل مواقفها ومراحلها التاريخية المشرفة وغير المشرفة، فلا بد من الحيادية في عرضه وكتابته وقراءته، ولنحذر ممن يكتبه لغرض التكسب والاسترزاق، أو لغرض التشويه والاختراق فدعاة الاستشراق وأذنابهم لم تَخْلُ منهم ساحة الكتابات التاريخية، بل كانت كتاباتهم في التاريخ كتابات كثيرة جداً، بغية التشويه والدس ولو لفكرة واحدة باطلة ضمن أفكار صحيحة، وإن من وسائلهم أن ينقل بعضهم عن بعض ويرددون الفكرة الواحدة في مجموعة من الكتب والمقالات حتى إذا كثر القول بها ظن أنها حقيقة لا تقبل النقاش بالإضافة إلى اختلاق الأخبار وإبراز المثالب، وهذه أولى الوسـائل التي استخدمها المستشرقون والمنصرون لتشويه صورة الحياة الإسلامية، وعقيدة المسلمين وسيرة رسولهم – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .
و من وسائل دعاة الغزو الفكري إضعاف دراسة تاريخ الأمة الإسلامية في المدارس والجامعات ومراكز العلم في العالم الإسلامي، ومزاحمته من تواريخ الأمم الكافرة سواء القديم منها أو الحديث، مما يضعف شأنه في نفوس الدارسين، حيث يعطى لهم بصورة مختصرة ومشوهة بينما يفسح المجال لدراسات واسعة في التاريخ القديم، ويربط سكان كل منطقة بتواريخ الأمم الجاهلية التي عاشت فيها ففي مصر الفرعونية، وفي العراق البابلية والسومرية، وفي بلاد الشام الفينيقية وفي اليمن السبائية والحميرية، مما يوجد الوطنيات العرقية الضيقة ويفتت الوحدة الإسلامية، ويشتت أوصال التاريخ الإسلامي، بحيث يبدو كأنه نقطة في بحر أو جدول صغير في نهر (١٦).
وأخلص من كل ما تقدم إلى أن من شروط المؤرخ بالإضافة إلى ما تقدم أن يكون فطناً ذكياً مستوعباً لأكثر العلوم المساندة في فهم ما هو بصدده من مواضيع التاريخ المختلفة، إلى جانب ما يجب أن يتوافر في المؤرخ من حيث هو من جد في البحث وصبر على تقصي الحقائق وشجاعة ونبل في عرضها، وبناء على هذه الشروط، وغيرها مما رأى العلماء توافره في المؤرخ ولا سيما المسلم نرى أن التاريخ علم جليل القدر، وأن التصدي للاشتغال به يحتاج إلى مواهب فطرية فذة، وطاق ات عظيمة وأخلاق رفيعة، ودين صحيح.. فكيف وقد صار الاشتغال به في هذه الأيام – غالباً – لمن لم يع هذه الشروط ولم يدرس الأسس والضوابط ، ولم يحقق المصادر الأصيلة من الكتابات الدخيلة، بل يتجاهل الترتيب الصحيح لمصادر التاريخ ، ويتصور ثم يخضع نصوص التاريخ لتصوراته المسبقة، إلى غير ذلك من الأخطاء الفادحة ، وعند الله تجتمع الخصوم، في يوم قال الله تعالى فيه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)
[الصافات: ٢٤ ] هذا وبالله التوفيق …
الهوامش :
(۱) رئيس تحرير مجلة التواصل الصادرة عن دار المصطفى للدراسات الإسلامية بتريم بكالوريوس شريعة إسلامية، باحث سابق بمركز النور للدراسات الإسلامية، مدرس بثانوية البنات بتريم حاليا.
(٢) الكامل في التاريخ (۱۰/۱) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، ١٤١٧هـ / ۱۹۹۷م.
(۳) عضو لجنة السيرة والتاريخ الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر…
(٤) انظر مقاله التاريخ عند المسلمين )، في مجلة الوعي الإسلامي ص: ٨٢، العدد ٥٧٥). (٥) انظر في جميع ما تقدم : مناهج التأليف في السيرة النبوية للدكتور محي الدين مستو ص: ٣٩ وما بعدها.
(٦) انظر : « الإعلان بالتوبيخ « ص : ۱۹ ، وتاريخ خليفة بن خياط ص: ٤٩ .
(۷) انظر: الإعلان بالتوبـ يخ ص: ١٩ وما بعدها، منهج النقد في علوم الحديث للشيخ نور الدين عترص: ١٤٣.
(۸) انظر : كتاب المبادئ العشرة للعلوم تأليف عبد الصمد بن محمد المخدومي ص ٢٥ ، نشر وطباعة مكتبة كولومبو – سيرلانكا .
(۹) انظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص ٤٥-٠٤٤
(10) انظر: الكامل في التاريخ (١/ ٩).
(۱۱) انظر: يوميات شامية: ص ١.
(۱۲) انظر: تاریخ ابن خلدون (٦/١).
(۱۳) انظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص ٤٤-٤٥.
(١٤) الإعلان بالتوبيخ للحافظ السخاوي ص: ١٢٢.
(١٥) أنظر إلى مقدمة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي لكتاب عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها ص:۸ بتصرف.
(١٦) أنظر مجلة البيان (٦٤/٢٠) مقال : وسائل الغزو الفكري في دراسة التاريخ محمد بن صامل السلمي.