تراث
د. حسين أبوبكر العيدروس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 36
رابط العدد 3 : اضغط هنا
عندما كشفت البعثات الأثرية عن بقايا الحياة البشرية القديمة في حضرموت، استمرت تطلعات عدد من البعثات الأجنبية لتحقيق اكتشافات مثيرة، بحيث تغير ما هو مألوف من الآثار التي يشاهدها الناس في المتاحف وما هو معروف من البقايا الظاهرة لآثار العمران في كل مكان سواء في الأودية المنتشرة على طول وادي حضرموت، أو في الصحاري مترامية الأطراف، أو عند السواحل الممتدة، التي ازدهرت كثيراً، وذاع صيتها، لا سيما مع مطلع الميلاد بتجارة البخور والتوابل وغيرها، التي جعلت شبكة الطرق البرية تصاب بالشـــلــل في مختلف أطرافها، بعدما كانت حركة القوافل عليها لا تكاد تتوقف. فكل هذه الحركة الدؤوبة، جلبت الكثير من القطع الفنية، علاوة عن الأفكار التي أثرت وتأثرت بها المنطقة، بفعل عوامل التواصل التجاري، الذي كان سبباً في جعل حضرموت منطقة استقدام واستقرار في أغلب المراحل.
المليون سنة.. كانت البداية
ظهرت نتائج أقدم العينات الأثرية من موقع (كهف القزه)، في أقصى غرب منطقة (القزه) في وادي الغبر (وادي دوعن)، وهو الوادي المقابل – باتجاه الغرب – لمنطقة الهجرين المعروفة، لتبشر بوجود أدوات الإنسان القديم الأول، الذي يعود تاريخه إلى حوالي المليون عام ( ٧٠٠ ألف) سنة (حسب تاريخ البعثة الروسية)، بينما كانت البعثات السابقة ومنها البعثة البريطانية، التي عملت في حضرموت برئاسة كاتون تومسون ۱۹۳۹م، لم تحقق نتائج مماثلة، لكنها قدمت دراسات متنوعة وعميقة، حتى على مستوى دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا)، والتي قامت بالتنقيب في الموقع الأساس معبد إلى مقه أو (معبد القمر)، الواقع على وادي عمد الى الغرب من مدينة (حريضة)، وخلال تنقيباتها كشفت عن الكثير من النقوش القديمة المدونة بخط المسند والتماثيل المتنوعة، بالإضافة الى أنواع كثيرة من الأدوات، منها الأواني الفخارية والحجرية المنزلية مختلفة التصاميم، والحلي التي تستخدمها المرأة للزينة والعملات وغيرها. وعلى هذا المنوال تابعت الكثير من البعثات الأجنبية اللاحقة أعمالها (استطلاع، مسح تنقيب دراسات)، ومنها البعثة الفرنسية التي تركز عملها في شرق وادي حضرموت (سناء السوم)، وجانب منه في وادي عدم (مشغة سونة)، ثم تم الكشف عن موقع (الغرف)، الذي يعتبر محطة تجارية عند مفترق طرق بين القادمين من وادي عدم جنوباً، والقادمين من الجهة الشرقية للوادي وكشفت البعثة الفرنسية عن الكثير من المنشآت المعمارية المهمة، منها المعابد القديمة أقدمها يعود الى حوالي (القرن الخامس – الرابع قبل الميلاد)، وأبرزها معابد (هجرة، باقطفة مشفة)، وكشفت عن عدد من المدن والقرى القديمة التي كانت حاضرة ونشطة، وكان معظمها له صلة بالتجارة وخط سير القوافل التجارية التي تجوب الوادي الرئيس، والوديان الفرعية، فكان الوادي – حينها – مزدهراً نشطاً بمختلف أنواع البضائع التي تأتي عبر الموانئ سواء من عمان عبر ميناء سمهرم)، أو عبر (ميناء قنا) في بئر علي.
. فنون منحوتة
أثناء كل تلك الأعمال الأثرية، كانت تظهر بين الحين والآخر، الكثير من الأعمال الفنية مثل التماثيل الرخامية، الحجرية البرونزية وغيرها، ومنها ما يمثل الهوية المحلية ومنها ما يمثل الهوية المنقولة من الخارج عبر التجارة. يظهر في (متحف سيئون قطع أثرية فنية من موقع الغرف، تمثل لوحتين منحوتتين، تتراوح أبي ح أبعادها بين (30 × 25 سم)، وهي في الأصل لوحات جدارية، توضع في الجدار في أثناء البناء، عليها رسوم. (اللوحة الأولى)، رسم لمشهد صيد، يتمثل في كلب الصيد و ينقض على الوعل اللوحة الثانية رسم أسطوري لحيوان طائر بجناحين. ومن موقع (ريبون)، يوجد تمثال صغير، يشبه تمثال الكاتب المصري، أو أبو الهول الرابض، ربما أ كان يستخدم في الأصل كأداة من أدوات الزينة، حيث يتم وضع شيء بداخل الثقب الغائر الذي يقع في أعلى الرأس. ومن مكتشاف موقع الغرف، قطعة فنية برونزية ربما هي جزء من مقبض آنية برونزية، يظهر بها جزء من تمثال امرأة مجنحة، وهو نموذج
ذو طابع إغريقي.
. فنون الرسم الملونة
إذا كنا قد بدأنا بالحديث عن المليون سنة من عمر الإنسان الذي عاش على هذه الأرض يعني ذلك أننا نتحدث عن أصول قديمة للإنسان، وهذا الموضوع فيه كلام طويل جداً، يربطنا بالعالم الخارجي، وخصوصاً (أفريقيا آسيا)، ومنشأ الإنسان، ولكن لا تستوعب هذه الصفحات مناقشته أو حتى تعراضه، والمهم في الأمر؛ هو آخر الاكتشافات التي تتعلق بالفن القديم في حضرموت.
أثناء الأعمال الاستكشافية لشركات النفط العاملة في وادي حضرموت، اكتشف أحد المواطنين في أثناء تجواله في (الجول الجنوبي)، أعلى منطقة وادي بن علي موقعاً للرسوم الصخرية، توجد فيه رسوم ملونة تتمثل في أعداد كبيرة من طبعات الأيدي، المتجاورة بعضها جوار بعض، والمتداخلة أحياناً أخرى، ومعظمها بأحجام متوسطة يمكن القول بأنها ليست لرجال بالغين ولكنها لنسوة أو بنات في سن الشباب وبعض رسوم لأطفال صغار. تم تنفيذها بأسلوب (نفخ الألوان)، حتى تظهر الكف، أو الكف مع جزء من الذراع بشكل سلبي)، يظهر ماحولها ملوناً، إما باللون الأحمر الغامق، وإما شبه البرتقالي أو الأبيض. هذه الأيدي، تمثل تعاويذ ورموزاً عقائدية، توضع للحماية والوقاية من العين الحاسدة والعيون الشريرة، تكفي من البلاء وغيره، وهي اعتقادات قديمة جداً، استمر الكثير منها إلى عصرنا الراهن، بالإضافة إلى رموز أخرى عرفتها الشعوب. واستناداً إلى اختبارات البعثة، وتاريخ العينات المأخوذة من الموقع تم إعطاء الموقع تاريخاً يعود للعصر الحجري الحديث (حوالي ٦٠٠٠ سنة قبل الميلاد).
قد يسأل أحدكم، وما الغريب في الأمر؟! فقد ظهرت اكتشافات كبيرة، ومنها تماثيل ضخمة وأدوات ومنشآت، ولكن هذه لوحات فنية ومجرد طبعات أيد لشابات أو أطفال. ومن خلال الأبحاث العلمية، قمنا بالبحث عن مثيل لها في مواقع وأماكن أخرى من اليمن أو من العالم الخارجي، فوجدنا التالي: ثمة رسوم لطبعات الأيدي، توجد في مواقع في اليمن منها: موقع (جرف النابرة في الضالع، يعود تاريخ أقدم الرسوم عليه إلى العصر الحجري الحديث (حوالي . ٦٠٠٠ سنة ل الميلاد)، ومنها في (صعدة) أيضاً، بالأسلوب نفسه، بالإضافة الى تلك الرسوم الكثيرة لطبعات الأيدي في مناطق متعددة من العالم، منها موقع “كف الأيدي” في “كويفا دي لوس مانوس “في باتاغونيا، و”كهف شاوفيت” في “وادي أرديك” جنوبي “فرنسا”، الذي يعود إلى أكثر من ٣٠,٠٠٠ عام، وفيه يوجد أقدم الرسوم المكتشفة في العالم والتي تنتمي إلى إنسان كرومانيون ورسوم طبعات الأيدي من وادي سبت” في جنوب “الأردن”، والعدد الهائل من رسوم طبعات الأيدي المنتشرة في بقاع مختلفة أخرى مثل: رسوم زخرفة الأيدي من موقع “الفن الرائد”، في “جبل بوراديل”، في أستراليا. ورسوم عات الأيدي في مرتفعات GUGU Yalangi أستراليا. وفي موقع Willigulli بأستراليا الغربية، ووسط “أستراليا”. وفي موقع كهف أقدام الطفل”، في “أستراليا”، وفي موقع لبصمات الأيادي في منطقة “نهر سميث”، وسط “مونتانا”، ومواقع من أندونيسيا، وهي شبيهة بمواقع حضرموت من حيث الأسلوب والتنفيذ.
كل هذه المواقع تتشابه كثيراً مع موقع (وادي بن علي)، يصل بعضها إلى حد التطابق وهذا يقودنا للاستفسار والبحث. هل ثمة تواصل بين تلك المناطق، وبين وادي حضرموت منذ تلك العصور القديمة؟ أو أن الأمر مجرد توارد خواطر ؟.
الحقيقة أنه لم تبدأ دراسات محددة في هذا النطاق بالذات، ولكن الدراسات الأثرية العامة تشير إلى وجود تواصل وعلاقات مع أفريقيا على وجه الخصوص، منذ العصور الحجرية القديمة، فقد أثبتت الاكتشافات الأثرية أن تشابه الأدوات الحجرية التي صنعت في حضرموت، وبالتحديد في (ورش التصنيع في وادي وعشة)، على الجول الشـمالي لحضرموت، وموقع (ورشة التصنيع في قفول أعلى وادي عردة بحضرموت، أن النصال الأشولية، التي تم العثور عليها من قبل فريق العصور الحجرية في البعثة الفرنسية بين عامي 2000 – 2002م، تتشابه كثيراً مع نصال كينيا، تحدثت عنها الباحثة (كاتون تومبسون) التي قامت بدراستها مرة أخرى الباحثة الفرنسية (ماري لويز أنيزان)، والكثير من الدلائل الأخرى، ربما تدل على وجود صلات قديمة.
كان هذا خلال العصور الحجرية، أما فيما بعد تلك الفترة، وخلال العصر البرونزي، فتظهر بعض الرسوم الصخرية التي تم تنفيذها بوساطة الطرق / النقر على الصخور في بعض الأودية، ثم استمر ذلك إلى العصر الحديدي حتى ظهرت بعض تلك الرسوم وهي مرافقة لبعض الكتابات بالخط المسند، وظهرت منها رسوم للوعول والجمال المستأنسة. وظهرت منها رسوم ومشاهد كبيرة للصيد والمعارك الحربية، يمكن مشاهدتها بوضوح في أبرز المواقع ومنها موقع (حصاة البرقة) على الضفة الغربية لوادي دوعن، وعلى مسافة عدة كيلومترات من موقع ريبون باتجاه الشمال في الجهة المقابلة لقرية قبضين في خط وادي العين.
كما يمكن مشاهدة الكثير من تلك النماذج في موقع (شعب صياد)، في منطقة جوجة إلى الشمال الغربي من مدينة شبام. وهي مواقع مستراحات للقوافل التجارية الذاهبة والغادية، التي تجوب الوادي.
هناك مجموعة أخرى – لا يمكن حصرها – من النماذج الفنية، سواء كانت تماثيل منحوتة نحتاً كاملاً أو نصف نحت، أو رسوماً على صخور أو رسوماً ملونة، لكن من أبرزها أيضاً نماذج (التماثيل الشـاهدية)، وهي شواهد قبور منحوتة (نصف نحت)، على جلاميد كبيرة من الحجارة، بعضها منحوت على ألواح من (الصلل)، رسمت ونقشت عليها رسوم أشكال آدمية بشكل رمزي (غير واقعي) لكنها تُظهر السمات العامة لشكل الإنسان، ويظهر تفاصيل أخرى مثل شكل الشعر (شعر اللحية)، الحزام الذي يتمنطق به الرجال مثبت عليه (الجنبية) بشكل جانبي، تشبه إلى حد كبير الطريقة السائدة في اليمن الحديث. وربما تظهر كذلك (الحبوة)، وهي متدلاة من الكتف ملتفة حول الصدر. توجد من هذه الشواهد الكثير في مناطق حضرموت (في الجول الجنوبي)، في مواقع عماقين، قرب وادي عرف في منطقة غيل بن يمين، وفي وادي بايوت، قرب منطقة حكمه في وادي عدم ومناطق أخرى مثل شبوة، بلحاف، مأرب ومناطق من جنوب شبه الجزيرة العربية بشكل عام.
هذه هي أبرز مصادر الآثار عن أصول الفنون التشكيلية وجذورها في حضرموت منذ عصور ما قبل التاريخ وتسلسلها نحو العصور التاريخية حيث تبدأ الكتابة، ونماذجها كثيرة ومتعددة،
سنفرد لها مقالاً منفصلاً في عدد آخر.