ركن التــراث الثقافـــي الحضرمـــي (1) .. تأملات في الدِين والاجتماع للعلاَّمة أحمد بن زين بن حسن بِلْفَقِيه
أضواء
د. محمد علوي بن يحيى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 9
رابط العدد 33 : اضغط هنا
يزخر التراث الثقافي الحضرمي الأصيل – بعلومه وآدابه المختلفة – بسَيْلٍ متدفِّقٍ من المؤلَّفات القيِّمة التي أسهمَت، خلال الحِقَب السالفة والمعاصرة، في نهضة ثقافة الشعب الحضرمي عامَّة، كما أضافت إلى المكتبة العربيَّة والإنسانيَّة إضافات ثقافيَّة نوعيَّة لا يُستهان بها.
ونتطلَّع في أن نجعل هذا الركن – من هذه المجلة الغرَّاء – خاصًّا بعرض مختارات من الكتب التراثيَّة الحضرميَّة، بحيث نسلِّط الضوء، في كل حلقة منه، على محتوى مادته العلمية عمومًا، ونقتطف منه نصوصًا تُبرِز شيئًا من الجوانب القيِّمة فيه.
تأمُّلات في الدِين والاجتماع:
كتاب هذه الحلقة كتاب دينيّ تربويّ، موسوم بـ(تأمُّلات في الدِين والاجتماع)، وهو من تأليف العلَّامةِ المربِّي السيِّد: أحمدَ بنِ زَينِ بنِ حسنِ بنِ محمدِ بنِ إبراهيمَ بِلْفَقِيه، المولودِ في مدينةِ (تريمَ)، بمحافظة (حضرموت)َ اليمنيَّةِ، سنةَ (1338ه).
وقد نشأَ متتلمذًا على عددٍ من شيوخِ مدينتِه، في علومٍ شرعيةٍ ولغويةٍ شتَّى. ثم انتقلَ للدراسةِ في (جمعيَّةِ الأخُوَّةِ والمعاونة) بـ(تريمَ)، وبعدَما تخرَّجَ فيها سافرَ إلى الجهة الأفريقيَّةِ، واستقرَّ في مدينةِ (ممباسا)، بدولةِ (كِينيا)، سنةَ (1363ه)، مدرِّسًا. ثم انتقلَ إلى مدينةِ (زِنجبار) بدولة (تنزانيا)، مع والده. ثم قفلَ راجعًا إلى (حضرموتَ)؛ ليتزوَّجَ هناك. ثم عاد إلى مدينة (زِنجبارَ) الأفريقيةِ، مرَّةً أخرى، سنةَ (1378ه)، ليتَّصِلَ هناك بشيخِ فَتحِه العلَّامةِ السيِّد (عُمرَ بنِ أحمدَ بنِ سُمَيط)، ويغترفَ من معينهِ العلميِّ والأخلاقيِّ المتدفِّق.
وبعدَ سنواتٍ حافلاتٍ بأنوارِ العلمِ وأسرارِه، عاد إلى موطنِه (حضرموتَ)، وعُيِّنَ مدرِّسًا تابعًا لوزارة التربية والتعليمِ بالمحافظة، ثم انتقلَ إلى محافظةِ (عدنَ)، وعُيِّنَ فيها مدرِّسًا – أيضًا – في بعض مدارسِها.
وخلالَ إقامتِه هناك بمدينة (الـمُعلَّى)، استطاع أن يجذبَ عقولَ عددٍ كبيرٍ وقلوبهم، من شريحة الشبابِ، إلى منهجِ السلفِ الصالحِ بـ(حضرموتَ)، القائمِ على: العلمِ، والعملِ، والدعوةِ إلى اللهِ (سبحانه وتعالى)، بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، والاكتفاءِ الذاتيّ. كما أسَّسَ له مجلسَ علمٍ منتظمٍ، في مسجدِ (البَصِير) – الغفَّارِ حاليًّا -المجاورِ لسكنِه، فانتفعَ مُريدُوه به وبعلمِه، أيَّما انتفاع، كما كان منزلُه مقصِدًا لكلِّ طالبِ علمٍ، وطالبِ حاجةٍ، على السواء.
ثم أُصيبَ بوعكةٍ صحِّيةٍ، سنةَ (1407ه)، أقعدَتْهُ عن الحركةِ، فسافرَ إلى (المملكةِ العربيَّةِ السعوديةِ)؛ للعلاج. ومكثَ هناكَ في مدينة (جُدَّةَ)، ثم في المدينةِ المنوَّرَةِ متمرِّضًا، حتى فارقَت روحُه الطاهرةُ الحياةَ، سنةَ (1414ه)، تاركًا عددًا من المؤلَّفات القيِّمة، أبرزُها: ديوانُ شعرِه الموسومِ بـ(مختاراتٌ من ديوانِ بلفقيه)، وكتابُ حلقتِنا هذه، الموسومُ بـ(تأمُّلات في الدِين والاجتماع).
[للاستزادة ينظر: لوامع النُور، للعلَّامة أبي بكر العدنيّ بن علي المشهور: 2/ 899- 901].
معالم الكتاب:
وقد طُبِعَ هذا الكتابُ بمطبعةِ دارِ عالمِ المعرفةِ، للنشرِ والتوزيعِ، بمدينة (جُدَّةَ)، في (المملكة العربيَّةِ السعوديةِ)، سنةَ (1409ه)، الموافقةَ سنةَ (1989م)، في (246) صفحةً، من القطع الكبير.
أمَّا محتوياتُه فهي: المقدِّمة، فمفارقاتٌ، ففكرةٌ وعقيدةٌ، فكلماتٌ جامعةٌ للإمامِ جعفرٍ الصادقِ، فالطمأنينةُ، فهذه النتائجُ لا تساوِي هذا الكفاح، ما أرادَه اللهُ لك خيرٌ ممَّا أردتَه لنفسِك، فكلماتٌ جامعةٌ تلخِّصُ مبادئَ عظيمةً، فبينَ الشكلِ والحقيقة، فصراعٌ مستمِر، فعذابٌ أليمٌ، فأمخيَّرٌ أنتَ أم مسيَّر؟، فأنتَ لا تعرِف، فضعيفٌ وجبّار، فالحظُّ، فالروحُ والجسد، فالإعجابُ المؤقَّت، فالكمالُ البَشَرِيّ، فالقليلون والكثيرون، فذرُوا المراءَ، فباحثون عن الحق صادقون، فالتسرُّع في الإفتاء، فتعلُّم الناسِ أشياءَ تضرُّ بهم، فمِن عظيمِ قُدرَةِ الله (الأملُ)، فهديَّةٌ وعطيَّة، فعوائقُ في الطريق، فالقلوبُ أوعِية، فخاتمةُ الجزء الأول- القرآنُ وعملُه في النُفوس، فقصيدةٌ حولَ الإيمان، وبها يُختَمُ الكتاب.
مختارات من نصوصه:
أمَّا الآنَ فننتقِلُ إلى فحوَى الكتابِ، ونبدأُ باقتباسِ نَصٍ، يعلِّقُ فيه على (كلماتٌ جامعةٌ للإمامِ جعفر الصادق)… يقول فيه: “وأهمُّ الأعمالِ المقرِّبةِ إلى اللهِ: أعمالُ القلوبِ، وهي أهمُّ بكثيرٍ من أعمالِ الأجساد؛ فالقلبُ السليمُ مِن الشركِ بالله، ومِن الأحقادِ على إخوانه، ومن النميمةِ والفتنةِ بينَ الناس، ومن السخريَّةِ، والاحتقارِ للغيرِ، أو الظلمِ له، وأمثالِ هذه النقائضِ، وهذه العيوبِ القلبية: كالغيبةِ والكذبِ – أشدُّ فسادًا لدِين المَرءِ، بل وللمجتمع، فمِن حقِّ المؤمنِ أن يبدأَ بتنظيفِ قلبِه من هذه الأمراضِ، قبلَ القيامِ بأعمالٍ جسديَّةٍ، كنَفلِ الصلاةِ، والصيامِ، وغيرِهما”. ص (38)
ومن مقالتِه التربويَّةِ القيِّمَةِ، التي عنوَنَها بـ(الإعجابُ المؤقَّت)، نقتبسُ النصَّ الذي يقول فيه: “إنَّ الطلبةَ الذينَ عرَفْناهم، عندَ حصولهم على (الثانوية العامَّة)، يندفعُون – بدونِ ترَوٍّ – إلى التخصص في المجالِ العلميّ، إذا أحرزُوا درجةً في الرياضياتِ، والعلومِ، تؤهِّلُهم لذلك (وقد بذَلُوا الجهودَ التي تحقِّقُ لهم هذا الوصول)، الجهودُ من طُرقٍ شتَّى معروفة، وأقنَعُوا أنفسَهم أنَّ القِسمَ الأدبيَّ إنَّما يصلحُ للطلبةِ الضعفاءِ الناقصِين!… ونقولُ لهم (مرارًا): إنَّ سادةَ المواقفِ في الأممِ، هم (الأدَبِيُّون)، منهم: الرئيسُ، والحاكمُ، والوزيرُ، والمحامي، والمربِّي إلخ… أمَّا (العِلمِيُّون) فيَبْذُلون نشاطَهم في المصانعِ، والمعاهدِ، والتخطيطاتِ الهندسيةِ، على اختلافِها، وكذا الطِبُّ، وهو من أهمِّها، والاختراعات… إلخ؛ فهم عُمّال متخصِّصُون، كما أنَّ (الأدبِيِّين) – أيضًا – هم الذين يهتمُّون بالتربيةِ، والأخلاقِ، والسيرةِ، والسلوكِ، والاجتماعِ، والآداب، ومن ضمنِها: الشعرُ، والخِطابةُ، والكتابة”. ص (122).
ومن مقالتِه الموسومةِ بـ(القليلُون والكثيرُون)، التي شَرَحَ فيها واقعَ أمَّةِ الإسلامِ المتشَرْذِمَةِ، في عصرِنا الراهنِ، نقتبسُ قولَه: “الكثرةُ المشؤومةُ لها المزايا الملحوظةُ، التي تَجنَحُ بالأممِ – من حيثُ يشعرون، ومن حيث لا يشعُرون – إلى السبيلِ المضادِّ، الذي يسوقُها إلى الفشل، وقد تكونُ هذه الكثرةُ الضارةُ منبثَّةً، في صَميمِ أجهزةِ السلطات الحاكمةِ، فتكونُ الخسارةُ أفدحَ، يَستفْحِلُ الداءُ ويلوِّثُ أفكارَ الأعدادِ الكبيرةِ من الأمَّةِ، ممَّن قد استجابَت لمبدأِ القلَّةِ الصالحةِ، فيتحوَّلُ خطُّ الاتجاه. وهكذا نحنُ – أمَّةَ الإسلامِ، وأمّةَ العربِ – قد وصَلْنا في طريقِنا الملوَّنِ بالسُمومِ، إلى اعتناقِ مبادئَ زيَّنَتْها لنا، في مسيرتِنا تلك، الكثرةُ الفاسدةُ، وصيَّرَتْها من مبادئِنا الأوليَّةِ، ومن ذلك اعترافُنا – بل وتأييدُنا – لتعدُّدِ السُلطاتِ الحاكمةِ، في الدولِ الإسلاميَّةِ، بينما الإسلامُ نفسُه حريصٌ على أن تكونَ دولةُ الإسلامِ واحدةً، مهما تباعدَتِ الأقطارُ، وهذه الدائرةُ الواسعةُ الرَحبةُ ضيَّقَتْها علينا الدعواتُ المحدودةُ، التي زرعَتْها في قلوبِنا الدعواتُ القوميَّةُ في المسِيرَة، وهناك وحدةُ الضادِ، التي طالما لهجَ بها دعاةُ القوميَّةِ – أيضًا – بأسلوبٍ أجمعَ، ومبدأٍ أرحَب…”. ص (138)
ومن مقالتِه التي عنوانُها (القلوبُ أوعِيةٌ)، نقتبِسُ نَصًّا مهمًّا للمؤلِّفِ، يبيِّنُ نوعيَّةَ الثقافةِ، التي ينبغِي أن يتسلَّحَ بها الجيلُ الناشئ، يقولُ فيه: “هناك موضوعٌ من الأهمِّيةِ بمكانٍ، يتعلَّقُ بالشبابِ، بصورةٍ خاصَّة، وبهم وبغيرِهم، بصورةٍ عامَّة؛ ذلك أنَّ المصادرَ التي يُنمِّي بها الطالبُ ثقافتَه، ويأخذُ منها المثقَّفُ المتَنوِّرُ معارفَه، يكونُ مصدرُها معلوماتٍ مبعثرَةٍ، وصحفًا وجرائدَ: تجاريَّةً وغيرَ تجاريَّةٍ، ومنشوراتٍ: سياسيةً وغيرَ سياسيةٍ، إلى ما يضاهي ذلك مِن بياناتٍ، يبلُغُها الجمهورُ، أو تغطِّي مسافاتٍ من الأرضٍ منبوذةً، استغنى عنها صاحبُ الضيافةِ، أو حتَّى الرئيسُ في بيتِه، أو الخادمُ، أو قد يأخذُها المضيفُ، أو أحدٌ من أعضاء الأسرةِ؛ ليقرأَ أو يستفيدَ منها في شأنٍ آخرَ، في الحمّام!… هذا الركامُ من الورقِ، قد يكوّنُ ثقافةَ الجماعاتِ في بيئةٍ ما، ثقافةٌ مبتورةٌ مضطربةٌ لا يُمكِنُ أن تُبنَى عليها أفكارٌ منسَّقَةٌ لجيلٍ طامحٍ، يُرجَى منه الخيرُ، ويرتفعُ به الفكرُ إلى المستوى الذي يحقِّقُ لرجالِه السعادةَ، للحاضرِ والمستقبلِ، كما يظُنُّون…”. ص (234)