ابن خلدون بين انتقاد ابن حجر ودفاع فرانز روزنثال حيال تاريخه
أضواء
طارق بن محمد سكلوع العمودي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 33 .. ص 12
رابط العدد 33 : اضغط هنا
في هذه الأيام العشر المباركة من شهر ذي الحجة لعام (١٤٤٥ه ) تناولت قراءة الكتاب الرائع القيم: (مقدمة المقدمة في سيرة ابن خلدون والتعريف بمقدمته) للمستشرق الكبير الألماني اليهودي (فرانز روزنثال)، صاحب التحقيق الشهير لكتاب: (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) للحافظ السخاوي. وقد توفي بأمريكا عام (٢٠٠٣م).
صدر كتابه (مقدمة المقدمة) مؤخَّرًا في عام (١٤٤٤ه/ ٢٠٢٣م) مترجمًا ومعلِّقًا عليه الدكتور أحمد العدوي، عن مركز تراث للبحوث والدراسات بمصر. وأنا استمتع بالكتاب وأنهل من فوائده استوقفني كلامه الآتي:
(فقد لقي كتاب ” العبر” إساءات مباشرة وغير مباشرة.
بدأ هذا التيار من الإساءات عندما أبدى ابن حجر – وقد علمتَ أنه كان أشهر تلاميذ ابن خلدون – رأيه القاضي بأن معرفة شيخه بمشرق العالم الإسلامي وتاريخه ليست دقيقة، وهو قول – رغم أنه صحيح إلى حدٍّ ما – ساذج للغاية، لا مغزى له، حتى إنّ المرء يودُّ لو سكت ابن حجر ولم ينبس ببنت شفة في هذا الصدد قط.
ليت الأمر اقتصر على علماء القرون الوسطى؛ بل أعرب العلماء في العصر الحديث – غالبًا – عن رأي مفاده أنَّ كتاب “العبر” لا يعكس الرؤى التاريخية والاجتماعية للمقدمة).
ولنا مع كلامه وقفات وتعليقات على النحو الآتي:
– استخدامه للفظة (إساءات) ليست دقيقة، وليست بالموفَّقة، ولا ينبغي استعمالها تجاه علماء متخصصين مجتهدين، أمثال الحافظ ابن حجر (ت 852ه)؛ إذ تشعر تلك اللفظة باستخدام الجرح المباشر، وخشونة القول تجاه ابن خلدون (ت 808ه) وتاريخه، وهذا غير صحيح كما سيأتي، فكان الأنسب استخدام لفظة (انتقادات)؛ (إفادات)، (تقييمات).
– ذِكْرُهُ أنَّ الحافظ ابن حجر من تلامذة ابن خلدون، سَبْقُ قلمٍ، وهو خطأ ظاهر ولا شك؛ بل هما متعاصران، قد يسمع الحافظ ابن حجر شيئًا من فوائده عند التقائه به، وهذا لا يجعله تلميذًا له، وقد ترجم الحافظ ابن حجر لابن خلدون في كتابيه الرائعَيْنِ: “إنباء الغمر بأبناء العمر”، و”رفع الإصر عن قضاة مصر”، فما وصفه بأنه شيخه، ولم يذكر العلوم التي تلقاها منه سواء سماعًا، أو إقراء، أو مدارسة. ولم يذكر أحد مِمَّنْ ترجم لابن حجر عند ذكر مشايخه أن ابن خلدون منهم؛ فضلًا عن أن ابن خلدون عريٌ عن أي تخصص، سواء من علوم الشريعة أو من علوم الآلة، وهذا باعتراف المستشرق نفسه في مقدمته.
– أنَّا وجدنا كلام ابن حجر في نقده الذي ذكره المستشرق فرانز روزنثال هنا؛ قد ذكره في كتابه: “إنباء الغمر بأبناء العمر”، (٢/ ٣٤٠)؛ فقال: (وصنَّف “التاريخ الكبير” في سبعة مجلدات ضخمة؛ ظهرتْ فيه فضائلُه؛ وأبان فيه عن براعته، ولم يكنْ مُطَّلِعًا على الأخبار على جلَّيْتُها؛ لاسيما أخبار الشرق، وهو بيّن لمن نظر في كلامه).
فكما ترى الكلام الرائع الجميل الرائق المنصف العادل من المؤرخ الخبير ابن حجر – رحمه الله – تجاه ابن خلدون وكتابه، وسجَّل للتاريخ رأيه بكل حرية وأدب بعدم اطلاع ابن خلدون على أخبار الشرق، وهو واضح جَلِـيٌّ لِمَنْ نظر في كلامه.
فأين الإساءة التي ادَّعاها المستشرق المحترم؟!
وأين السذاجة في كل ما قاله؟! إنما السذاجة فيمن ينبري للكلام عن أخبار الشرق من غير دراية كافية.
ثم إنَّ ابن حجر إمامٌ حُجَّةٌ مجتهدٌ، فله مطلق الصلاحية في أن يُقَيّم ويبيّن ويلاحظ، وإلَّا كان ساذجًا بحق إنْ كتم ما يجبُ إذاعته وتبيانه؛ وحاشاه من ذلك.
ثم مَنْ كان في مكانة الحافظ ابن حجر الذي يتكلم على أسانيد المتون النبوية الشريفة تصحيحًا وتضعيفًا وتعليلًا، والكلام في الرجال والرُّوَاة جرحًا وتعديلًا؛ بل صنَّف في علم الرجال مصنَّفاتٍ جليلةً من أُمَّاتِ هذا الفن والناس بعدَها عيال؛ فهل بعد كل هذا يُعجِزُه ويُعِيقُه الكلام نقدًا أو مدحًا فيما دون ذلك، ككتاب ابن خلدون في التاريخ مثلًا.
بل إننا نرى أنَّ لابن حجر الوجه الآخر المختلف تجاه المؤرخ القاضي المالكي ابن خلدون في كتابه: “رفع الإصر عن قضاة مصر”، فهي ترجمة شبه مظلمة فلتنظر هناك.
وعليه ليس مقبولًا البتَّة من المستشرق المحترم وصف ابن حجر بالسذاجة، وأنه كما قال: (ليته سكت ولم ينبس ببنت شفه)؛ فهذا تضييق وإرهاب فكري، وقلَّة أدب منه تجاه الحافظ الإمام الفقيه القاضي المؤرخ ابن حجر، فابن حجر أعلمُ وأفضلُ وأنفعُ للأمة بما دونه خرط القتاد من ابن خلدون بملايين المرات ولا شك.
– هناك فرق بين التقييم الواقعي للشيء، وبين التبرير وتقديم المعاذير تجاه ذلك النقص.
فابن حجر بيَّن من واقع خبرته وقراءته لكتاب ابن خلدون الخلل الذي فيه، سواء كان لابن خلدون أسبابه ومعاذيره أو لم تكن.
فلا باس للمستشرق المحترم أو غيره الدفاع عن ابن خلدون حينها، فإنه لا تنافي ولا تضاد.
– ثم لاحظْ أن الخلل الذي ذكره ابن حجر تجاه مادة تاريخ ابن خلدون من ناحية عدم الإلمام بأخبار الشرق؛ لم يمنعه من وصفه ابن خلدون في أول كلامه تجاه كتابه التاريخي الكبير بـ :(ظهرت فيه فضائله، وأبان فيه عن براعته)، وهذا إنصاف وعدل منه، لا أدري كيف غفل عنه مستشرقنا المحترم؟!!
– ولا ننسى أن المستشرق وصف ملحوظة الحافظ ابن حجر بأنها صحيحة إلى حد ما؛ فكيف ساغ له بعدها مباشرة الوصف بأنها سذاجة وليته سكت، وهذا تناقض صارخ منه ولا ريب.
– ثم إن المستشرق فرانز روزثنال ذكر بعد كلامه المنقول أعلاه تبريراته حيال ابن خلدون في عدم إلمامه بأخبار الشرق، وعدم تطبيق المعايير التي ذكرها فـي مقدمته الشهيرة حيال المادة التاريخية في كتابه، وقد يوافقه البعض على ذلك، ويخالفُه آخرون، وهذا أمر طبعي ولاشك، لا يتنافى مع واقع الكتاب من وجود خلل في عدم الإلمام بأخبار المشرق، وهو ما سجَّله ابن حجر في ترجمته؛ فكان ماذا؟.
هذا ما استحضرته من تعليقات أو وقفات تجاه كلام المستشرق المحترم تجاه الملحظ الثاقب لا بن حجر، الذي أزعج أيّما إزعاج مستشرقنا المحترم؛ ممَّا لا أعلم سببه، فأرجو أن أكون قد أصبْتُ في بيان جليَّة الأمر، والدفاع الذي أتشرف به تجاه حافظ الدنيا ابن حجر رحمه الله، ولا ننسى قدر العلامة ابن خلدون الحضرمي رحمه الله.
وأخيرًا؛ ففي كتابي المطبوع: “الخمير المفتوت معجم المصنفات الواردة في إدام القوت”؛ قد ذكرتُ تاريخ ابن خلدون؛ وذيَّلْتُ تحته فوائد تجاه الكتاب ومؤلفه، قد لا يجدها القارئُ مجموعةً في مكان واحد غير كتابنا؛ فاستحسنت نقلَها هنا، وبه مسك ختام مقالتنا هذه، فقلت حينها:
- اسم كتابه؛ كما ذكره ابن خلدون في مقدمته: ” العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
- لا بن خلدون في مقدمة تاريخه قاعدة أوردها في ضبط الأنساب؛ هي أن لكل مائة سنة ثلاثة من الآباء، وقد اتخذها البعض للطعن في بعض أنساب الأسر المعروفة المشهورة، سواء في حضرموت أو غيرها؛ فجاء البحاثة المؤرخ عبد الله بن حسن بلفقيه (ت 1400ه) فنقض قاعدة العلامة ابن خلدون بما لا مزيد عليه في كتابه: “الشواهد الجلية عن مدى الخلف في القاعدة الخلدونية”، وهو مطبوع باعتناء سقاف بن علي الكاف.
- ثم رأيت في مؤلفات السيد علوي بن طاهر الحداد (ت 1382ه): “الرد على ابن خلدون في قاعدته في النسب ونقضها”، يوجد منه كراسان. [انظر: مقدمة: “المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى” لعلوي بن طاهر الحداد، تحقيق محمد ضياء شهاب، دار المعرفة بجدة].
- ووجدت أيضًا تفصيلًا آخرَ ورَدًّا يهدم ما ذكره ابن خلدون في قاعدته تلك للسيد علوي بن عبد الله بن حسين السقاف ( ت 1392ه) في كتابه: “التلخيص الشافي من تاريخ آل طه بن عمر الصافي”، (ص 81 – 82).
- يقول السيد أحمد بن حسن العطاس (ت 1334ه): (أربع مقدمات ينبغي قراءتها وتكرارها للمبتدئ والمنتهي؛ المبتدئ تنفعه والمنتهي تذكره؛ لاحتوائها على علوم كثيرة؛ وهي…) وذكر منها: مقدمة ابن خلدون. [انظر: “ترجمة الحبيب أحمد بن حسن العطاس” لابنه علي بن أحمد العطاس، (ص 23)].
- أنَّ درجة الدكتوراه الثانية للأديب طه حسين (ت 1393ه) كانت عن: “فلسفة ابن خلدون”.
- في كتاب: “أيام مع طه حسين” للدكتور محمد الدسوقي؛ (ص 92) انتقاد طه حسين لا بن خلدون الذي حكم على العرب أنهم ما دخلوا بلدًا إلا وأسرع الخراب إليه؛ وعَدَّهُ خطأً فاحشًا منه، وأن العكس هو الصحيح.
- قال المحدث الألباني (ت 1420ه): (وقد أخطأ ابن خلدون خطأً واضحًا؛ حيث ضعّف أحاديث المهدي كلها، ولا غرابة في ذلك، فإن الحديث ليس من صنعته) [انظر: “فضائل الشام” للربعي؛ تخريج الألباني، (ص 44)].
- وقفت مؤخرًا في: “مجلة المجمع العلمي العراقي”، (13/243) سنة (1385ه/ 1966م) على مبحث يقع في (4) ورقات؛ بعنوان: “مرض ابن خلدون وتأثيره على تآليفه” للدكتور محمود الجليلي؛ أوضح فيه إلى إصابة ابن خلدون بمرض المفاصل؛ إذ رجَّح أنَّ لدى ابن خلدون التهاب المفاصل شبه الرئوي، وكان سن ابن خلدون حينها (42) سنة، وعاش بعد إصابته (34) سنة؛ وكان المرض ينتابه طوال هذه الفترة، وتوفي بعد أنْ ثار عليه المرض. وألمح الدكتور إلى أنه ربما نجد في مرض ابن خلدون تعليلًا لقسوته على العرب؛ وهو يقصد بهم الأعراب؛ لأجل أنهم هاجموه في الطريق، ونهبوا ما معه، فبقي يومين في القفر قبل أن يلحق بأصحابه.
- ذكر الحافظ المؤرخ ابن حجر العسقلاني كلامًا خطيرًا حيال المؤرخ القاضي ابن خلدون في كتابه: “رفع الإصر عن قضاة مصر”، (ص 237) لكن لا يخلو من مهمَّات مفيدات في الغاية؛ فقال: (والعجب أنَّ صاحبنا المقريزي كان يُفْرِطُ في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عُبيد؛ الذين كانوا خلفاء بمصر؛ وشهروا بالفاطميين؛ إلى علي، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نُقل عن الأئمة في الطعن في نسبهم، ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي. وكان صاحبنا ينتمي إلى الفاطميين، فأحب ابن خلدون لكونه أثبتَ نسبتهم؛ وغفل عن مراد ابن خلدون؛ فإنه كان لانحرافه عن آل علي يثبت نسبة الفاطميين إليهم، لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين، وكون بعضهم نسب إلى الزندقة، وادَّعى الألوهية كالحاكم، وبعضهم في الغاية من التعصب لمذهب الرفض؛ حتى قتل في زمانهم جمع من أهل السنة. وكانوا يصرِّحون بسب الصحابة في جوامعهم ومجامعهم؛ فإذا كانوا بهذه المثابة وصحَّ أنهم من آل علي حقيقة، التصق بآل علي العيب، وكان ذلك من أسباب النفرة عنهم والله المستعان).
- قال الدكتور محمود محمد الطناحي (ت 1419ه) في “المقالات” (02/459): (شاعت عن ابن خلدون في حق ابن هشام كلمة تناقلها مترجموه، وهي قوله: (ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له ابن هشام، أنحى من سيبويه)، ولم أجد هذه الكلمة بسياقها هذا وحروفها في مقدمة ابن خلدون، وإن كان الكلام الذي نقلته من المقدمة يؤول إليها ويدل عليها. وقد تتبعت الكلمة فوجدتُ أن الذي ذكرها بهذا النسق والسياق: هو ابن حجر العسقلاني، في ترجمة ابن هشام من الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/416، ويلاحظ أن ابن حجر صدر هذه الكلمة بقوله: (قال ابن خلدون) فهو سماع إذن، وقد ذكر شمس الدين السخاوي في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 4/148، أن ابن حجر اجتمع بابن خلدون مرارًا، وسمع من فوائده).
قلت: قد أطال الحافظ السخاوي في ترجمة ابن خلدون من كتابه: “الضوء اللامع”، (4/145 -149) إذ أبان فضائل الرجل وما انتقد عليه؛ والسعيد من عُدَّت غلطاته.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت
استغفرك وأتوب إليك.
الثلاثاء ١٢ / ١٢ / ١٤٤٥ه